الإعلام البائس
د.ضرغام الدباغ
[size=32]الإعلام البائس[/size]
من يتمكن من مشاهدة وقراءة الإعلام الأوربي، وخاصة الإعلام المتقدم (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، وأسكندنافيا)، وافترض أن وسائط البث والتقاط القنوات الكثيرة بواسطة الصحن تتيح ذلك اليوم بوفرة، فاليوم أجهزة صغيرة الحجم تلتقط ألاف من القنوات بلا صحن (دش)، ويقرأ الصحف بتفحص، يتعلم شيئاً مهماً : كيف تتشكل قناعات الناس ..؟ كيف يؤثر الإعلام على الرأي العام ...؟
الفرد الأوربي حتى الشبان اليافعين منهم، أو الأولاد والصبيان، يتمتعون بشخصية قوية، بقناعات راسخة، لا تتعرض للاهتزاز بسهولة، من خلال تغذية العقول بمواد صيغت بدقة، في المدرسة أولاً، ثم في الثقافة العامة، والإعلام، ثم حتى في البيت الذي لا يلعب إلا دوراً هامشياً، بعقلانية ومنطق محكم، فلا يستطيع مخرف أن يلعب بعقولهم، والإعلام قوي ولابد أن يكون قوياً لكي يتمكن من التأثير على متلقين أذكياء، معظم الجمهور ذكي، والثقافة متجذرة، يتقن أكثر من لغة، لذلك تعتبر وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية بالغة التأثير على السواد الأعظم من المتلقين.
فالإعلام لكي يخلق جمهوراً متلقياً راقياً، لابد أن يتمتع بدرجة صدقية عالية، وبمستوى عال من الحيادية تقنع المتلقي أن الإعلام لا يحقن فكره بمواد مسمومة مصبوغة بالأوان خادعة، إعلام يريد أن يكسب المتلقي لجانبه، لا أن يغشه اليوم لتنكشف الخدعة غداً، وحينها يفقد المتلقي الثقة بأجهزة الإعلام، وهكذا نجد مجتمعات فيها ورق مطبوع يسمى صحافة، فيها الكثير من الضجيج والصياح والصراخ ويسمى هذا بالراديو، وبث تلفازي لا يستحق مجرد إلقاء نظرة عليه، مقدمين برامج هم أشبه بالمصارعين رياضة الزومو (أحد اللاعبين يقذف خصمه خارج الحلبة). وأحياناً يجاري الضيوف مقدمي البرنامج وينغمسون في حفلة التهريج، والمحصلة لا يمكن المتلقي أن يحصل منها على ثقافة نظيفة، بل دعاية رخيصة بطريقة التهريج.
أنا لا أشاهد التلفاز إلا قليلاً جداً، أجازف أحياناً وأتفرج على القنوات العربية (عبر الانترنيت)، القليل، القليل جداً منها يستحق المشاهدة، لدرجة تصاب باليأس، فخبر واحد تذيعه ثلاث قنوات كل بطريقتها، يستحيل معها أن تعرف الحقيقة كما حدثت، إلا إذا عملت بطريقة أستقرائية تجمع وتطرح وتقاطع، وتستنتج وتكتشف ربما الحقيقة. أما المقابلات ففي معظمها يريد فيها مدير الحوار أن يرغم الضيف ما ينبغي أن يقوله، ثم يريد أن يصبح هو نجم الحلقة، في زمن الظهور على الشاشة، يحاصر ضيفه من هنا، ويدفعه هناك، ويسحبه ثم يضغط عليه ... ما هذا ... حرب شعبية إعلامية .. مقدم البرنامج لا يدع ضيفه يقول رأيه ... بل يريد منه رأياً يتفق مع هواه .. أو مع هوى أصحاب القناة، وأحياناً يعتقد بعض مقدمي البرامج البدائيين أن من الشطارة الإعلامية الضغط على الضيف واستفزازه وإغضابه ليقول ما لا يريد قوله بقصد الإثارة، وتقديم فضائح وإثارات (من أي نوع) للمتلقين، وربما غاية مقدم البرامج هو التسلية وليس تقديم مادة إعلامية / ثقافية.
روي لي صديق إعلامي عمل عشرة سنوات في ال (BBC) التي تعتبر مدرسة إعلامية، والعامل فيها كالذي يتخرج من جامعة عريقة، قال لي، أن مدراء الاقسام يجتمعون بالعاملين يومياً و ويتبادلون وجهات النظر، وهناك قاعدة شهيرة في صياغة الخبر بحيث لا يدعك تعرف (لشدة الحيادية) من صياغة الخبر هوية الاذاعة..! حيادية إلى أقصى درجة، وشحنة عالية جداً من المصداقية والنزاهة. ولكن هل أن المحطات الشهيرة كا (BBC) لا تمارس الغش والكذب نهائياً ..؟
طبعاً هناك توجيه، وهناك لمسة مهنية راقية لا تبدو للمستمع أو المشاهد أو القارئ، بطريقة أنيقة جداً، تحترم ذكاء المتلقي، وتتقبل رفضه، وتواصل محاورته، ونادراً ما يلجأون إلى أكاذيب مبتذلة، ورجل الإعلام متعلم للمهنة وممارسها لفترة طويلة جداً ليصيح شيئاً مذكوراً، ومن بين مئات العاملين يبرز عدد قليل جداً هؤلاء استفادوا من تجاربهم، وتعلموا كثيراً، فصياغة الجملة الإعلامية فن، وكذلك صياغة الخبر الصحفي، وإذا كان مطلوب من الصحفي أو الإعلامي، أن يوجه ويثقف بأتجاه معين، فإنه يفعل ذلك بصبر وذكاء حاد، يحاول بعض كافة جوانب الأمر، ولكنه يركز على الجانب الذي ينبغي عليه الدفع بأتجاهه. لذلك فالإعلام في الدول المتقدمة ذكي، إن مارس الخداع، فيمارسه لطريقة فنية لا يعثر عليها المتلقي إلا الأذكياء المثقفون. فإذا كان الإعلامي مبتذلاً، فمادته ستكون كذلك أيضاً، ولك أن تتخيل نوع وطبيعة الجمهور الذي يتلقى إعلاماً مبتذلاً ... ولن تؤدي هذه العملية إلى ثقافة.....!
نعم هناك عمل دعائي وسياسة اعلامية في أوربا، وأحياناً غسل دماغ المتلقي، ولكن ذلك يجري بطريقة فنية دقيقة، وعلى مستوى عال من الحرفية. معظم مقدمي البرامج العربية، وتركيزاً العراقية بائسون حقاً، يريد أن "يسيطر" على الضيف، يريد أن " يستولي على الشاشة بفضاضة، وإن سمح للضيف بالحديث فيتدخل بصوته كل نصف دقيقة بصوت مجموج " أهة " كأنه يريد القول " أنا ما زلت هنا ". والمخاشنة بلا داعي، حتى تصل درجة استخدام الفاظ سوقية.
لا أدري أن كان إعلاميونا قد درسوا الإعلام، ولكنهم في جميع الاحوال يخضعون لسياسة صاحب المحطة، فلقاء الراتب الذي يتقاضاه، عليه أن يثبت كل دقيقة أن الأرض مسطحة، ولمن يشعر بالغبن، فإن المتلقي/ المشاهد / القارئ في بلادنا مظلوم، مظلوم جداً، لذلك يلجأ نكاية بقنواتنا الجادة إلى الإعجاب بأغاني هابطة وسخيفة، ورقص مبتذل، والمحصلة النهائية هي، أن من يحترم نفسه لا يشاهد هذه القنوات .. ولكن هناك على أية حال من يتابعها، ولذلك تجد الكثير... الكثير ممن يتحرك وينزل للشارع بإشارة وبغمزة عين .
وبكلمة واحدة، هذه القنوات (معظمها) لا تساهم في تثقيف المتلقي، ولا إثراء معلوماته .. وهي تدمر الأعصاب ...الله يعين الناس سوء الطقس (الحر) وجور الانظمة، وميليشيات ...قبضايات ...زعران ... شبيحة ...عصابات النظام أو زعماء الطوائف الوالغين بدماء الناس ... هذه جميعها تنتج سمفونية مرعبة من أبشع ما يكون ... وظيفتها الوحيدة هي اضطهاد الناس وتدمير أعصابهم بلا رحمة ..!