الرئيس مبارك... البرادعي... والإخوان المسلمون
د. بشير موسى نافع
2/25/2010
منذ منتصف التسعينات، انتقل نهج تعامل الدولة المصرية مع الإخوان المسلمين من المستوى السياسي إلى المستوى الأمني. تاريخ العلاقة بين الإخوان المسلمين والدولة المصرية هو بلا شك تاريخ حافل، وقد انتقل من مستوى إلى آخر ومن دائرة إلى أخرى أكثر من مرة من قبل. ولكن تحول النهج الرسمي تجاه الإخوان في عقد التسعينات كان لافتاً وهاماً وذا تأثير طويل. خلف هذه الأهمية تقع عدة أسباب:
الأول، أن قضية الإخوان المسلمين، الشركاء الشرعيين للضباط في الثورة المصرية وفي التحول المصيري إلى النظام الجمهوري، شغلت الدولة الجمهورية منذ عهد الرئيس عبد الناصر وحتى الآن. فمن صدام 1954 إلى ملف التنظيم القطبي في 1965، ليس ثمة من ملف داخلي تقدم على الملف الإخواني، ولا كان هناك من ملف ولد من المرارات والمآسي والتوتر ما ولدته الخصومة العميقة بين الإخوان ونظام الرئيس عبد الناصر. خلاف عبد الناصر مع اليسار المصري الشيوعي كان أكبر بكثير من خلافه مع الإخوان المسلمين؛ ولكن عبد الناصر سرعان ما وجد طريقة ما لتجميد الخلاف مع قوى اليسار واحتواء قطاع واسع منها في جسم النظام. في حالة الإخوان، استمرت الخصومة وتكاليفها الباهظة حتى وفاة الرئيس. ولأن أحد أبعاد حكم الرئيس السادات كان تحقيق انقلاب جزئي على المشروع الناصري، ولأن السادات في فترة ما بعد حرب تشرين أول/اكتوبر 1973 اعتقد أن الحرب وفرت له فرصة كبرى لوضع بصماته على تاريخ مصر الجمهورية، ولأنه فوق ذلك رأى أن الملف الإخواني كان الأثقل بين ما ورثه عن الرئيس عبد الناصر، فقد اختار السادات نهجاً جديداً للتعامل مع الإخوان المسلمين.
من تبقى في السجون والمعتقلات، أفرج عنهم. وبالرغم من أن النظام رفض إعادة الشرعية للإخوان، فقد غض النظر عن نشاطهم التنظيمي والدعوي، بما في ذلك إعادة بناء التنظيم الإخواني من القمة إلى القاعدة. في المقابل، ساند الإخوان سياسة السادات المناهضة للنفوذ الشيوعي في مصر والمشرق ككل، كما ساندوا سياسته في الإطلاق المحدود للحريات السياسية والاقتصادية. وعندما أقر السادات نظام التعددية الحزبية، وجد الإخوان أن بالإمكان التقدم لإلغاء الحظر الجمهوري على وجودهم ونشاطهم. وهناك الآن من الأدلة ما يكفي للتوكيد على أن السادات كان على استعداد لأن يستعيد الإخوان وجودهم كجمعية دينية، بدون أن يتمتعوا بحق العمل السياسي. رفض الإخوان مثل هذه الشرعية المحدودة، وفاتت بالتالي فرصة الاستعادة الجزئية للشرعية. ولكن الصحيح أيضاً أنه حتى بعد أن رفض السادات عودة الإخوان في إطار ديني وسياسي، لم يتعرض لنشاطاتهم السياسية والتنظيمية بالقمع الأمني. على نحو ما، قبل السادات ضمنياً بوجود الإخوان الديني/ السياسي المزدوج؛ بل أنه لم يجد غضاضة، عندما تعلق الأمر بسياسات يؤيدها، مثل الموقف من الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، في تشجيع الإخوان على الانخراط في العمل السياسي. والأرجح أن السادات، الذي لم يكن ديمقراطياً بالتأكيد، ظن أن الوجود الديني/ السياسي للإخوان سيشرع له في النهاية، ربما عندما يصبح نظامه من القوة ما يؤهله لتحمل عواقب مثل هذا الوجود. خلال الشهور الأخيرة من حكمه، وعلى خلفية من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وتسارع عجلة التحالف المصري الأمريكي، تصاعد التوتر في مصر بدرجة غير مسبوقة. وبالرغم من أنه أنهى عهده بحملة اعتقالات واسعة النطاق، طالت قيادات الإخوان، كما غيرهم، فالأرجح أن السادات كان يقصد بالحملة تعزيز صورته كحاكم مسيطر على شأن البلاد وقدرها، ولم يكن يستهدف بالضرورة إعادة بناء الدولة القمعية.
بوفاة السادات، كان هدف الرئيس مبارك الأول تخفيف حالة الاحتقان والتوتر الداخلية، وإعادة بناء شرعية النظام. وهذا ما دفعه إلى توسيع هامش الحريات في البلاد، بما في ذلك مواصلة سياسة غض النظر عن الإخوان المسلمين، التي التزمها السادات من قبل. بخلاف السادات، ترك مبارك مسافة باردة بين حكمه والإخوان المسلمين؛ ولكن الصحيح أيضاً أن مبارك في مطلع حكمه لم يلجأ إلى أساليب القمع المعهودة لتحجيم النمو والانتشار الإخوانيين المتزايدين. بمعنى آخر، تعامل مبارك، كما سلفه، مع الإخوان المسلمين باعتبارهم تحدياً سياسياً غير مرحب به، يتطلب سد الفجوات القانونية التي تتيح للإخوان التوسع المطرد في النقابات والاتحادات النقابية والطلابية، ومحاولة إيجاد منافسين جديين لهم في الحقلين النقابي والسياسي. الوسيلة الأخرى لتحجيم الانتشار الإخواني كانت المحافظة على تقاليد التزييف الانتخابي عميقة الجذور. منذ مطلع التسعيينات، أخذت مصر في مواجهة موجة عنف إسلامي واسعة وباهظة التكاليف، سواء على صعيد الطبقة الحاكمة، الأجهزة الأمنية، الشعب المصري ككل، أو على صورة مصر أمام الخارج الغربي والإسرائيلي. وفي حمى المواجهة بين الدولة وقوى العنف إسلامية التوجه، اجتمع قلق رسمي متعاظم من توسع نفوذ وانتشار الإخوان المسلمين مع بروز وجهة نظر قوية ونافذة في أوساط قيادة الدولة تقول بأن عدم انخراط الإخوان في العنف لا يعفيهم من المسؤولية عنه، لتجعل الإخوان المسلمين مسألة أمنية بحتة. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن والإخوان يتعرضون لحملة أمنية من الاعتقالات تلو الأخرى. وبالرغم من توفر أدلة كافية على أن الإخوان المسلمين هم القوة السياسية الرئيسية في البلاد، وأن الساحة السياسية المصرية تكاد تنقسم بين الإخوان والحزب الوطني الحاكم، فإن ثمة إصراراً على استمرار التعامل الأمني مع الإخوان.
السبب الثاني أن انتقال المقاربة الرسمية لملف الإخوان المسلمين إلى المستوى الأمني قد واكب تضييق مساحة الحرية والعمل السياسي في البلاد. والمقصود هنا ليس الترخيص لأحزاب جديدة، فهذا يحدث بالفعل، وإن كانت هذه الأحزاب لا تتمتع بأية قاعدة شعبية تذكر؛ ولا المقصود هو التراجع في مجال الحريات الصحفية والإعلامية، فالحقيقة أن مصر تتمتع بقدر ملموس من حرية الصحافة والإعلام. المقصود أن الحكم وصل من الترسخ والثقة بالنفس وعدم الاكتراث معاً ما يجعله ضئيل الاستجابة للرأي العام، لا رأي الصحافة ولا النخبة ولا الأجيال الشابة ولا القاعدة الشعبية. بهذا لم يعد للحياة السياسية المصرية من معنى يذكر.
أما السبب الثالث فيتعلق بتاريخ النهج الأمني في التعامل مع الإخوان المسلمين. فالإخوان، سواء لتوجهات استبدادية لدى الطبقة الحاكمة أو لأخطاء ارتكبوها، أصبحوا هدفاً لحملات قمع أمنية منذ نهاية 1948، عندما وقع حلهم الأول. ولكن مثل هذا النهج لم يجد، لا في القضاء على الإخوان ولا في تحجيم أثرهم ونفوذهم المجتمعي. بالمقارنة بحزب الوفد، الذي ولد قبل الإخوان المسلمين بزهاء العقد من الزمان، وتعرض مثلهم لمنع شامل طوال أكثر من عقدين من عمر الجمهورية المصرية، أثبت الإخوان أنهم قاردون على التجدد وإعادة بناء الذات مهما كانت العقبات، بينما يبدو حزب الوفد اليوم وكأنه خرج نهائياً من الخارطة السياسية المصرية.
تجتمع هذه العوامل معاً ونظام الحكم يوجه واحداً من أكثر التحديات جدية، وهو ذلك المتعلق بعزم د. محمد البرادعي، الرئيس السابق لوكالة الطاقة النووية التابعة للأمم المتحدة، الترشح لمنصب رئيس الجمهورية. قد يكون هناك الكثير في سجل البرادعي الوظيفي مما يثير الشكوك في مؤهلاته لاحتلال منصب رئاسة الجمهورية؛ وإن أخذت الشروط الدستورية الحالية في الاعتبار، فإن العقبات في طريق ترشيح البرادعي تبدو عصية على التذليل. هذا، ناهيك عن خبرة أجهزة الدولة الطويلة في إدارة الماكينة الانتخابية وإيقاع الهزيمة بمن تريد. ولكن ذلك كله لا يجب أن يقلل من حجم التحدي الذي يواجهه النظام في مشروع البرادعي الرئاسي. هناك زهاء العامين يفصلان بين عودة البرادعي الصاخبة لبلاده في الأسبوع الماضي وعقد انتخابات الرئاسة المصرية القادمة في نهاية 2011. خلال هذين العامين، ليس من الصعب تصور اتساع نطاق المؤيدين للبرادعي من آلاف المرحبين بعودته إلى مئات الآلاف، وربما الملايين، ومن أوساط النشطاء السياسيين الجدد والنخب المصرية، إلى القاعدة الشعبية. وليس من الخفي أن البرادعي لا يثير قلقاً كبيراً في الدوائر الدولية والأمريكية التي تهتم اهتماماً خاصاً بمصير مصر. وبالرغم من أن القوى السياسية المصرية التقليدية، بما في ذلك الإخوان، لم تعلن موقفاً واضحاً من مسألة ترشح البرادعي، فليس من الصعب تصور قيام البرادعي بتقديم تطمينات كافية لهذه القوى. الانحسار المطرد للحياة السياسية المصرية خلال العقدين الماضيين، بعد ربيع الثمانينات القصير، قد يجعل هذه القوى تقبل بأي بديل كان عن حكم الرئيس مبارك أو حكم رئيس آخر يعتبر امتداداً له. من المبكر، بالطبع، توفر إجابات يقينية على جملة الأسئلة التي يثيرها التحدي السياسي الذي يمثله البرادعي. ولكن المهم أن هذا التحدي، إن ظل البرادعي على تصميمه على خوض الصراع، يعيد الآن رسم الخارطة السياسية المصرية. طول العقود القليلة الماضية، بدت الساحة السياسية المصرية وكأنها أسيرة الاستقطاب بين الحكم والإخوان ونهج التعامل الأمني معهم؛ وقد بدا أحياناً أن هذا الاستقطاب أصبح عقبة كأداء أمام أي تطور سياسي في البلاد. الآن، يواجه الحكم تحدياً من حيث لم يحتسب، بعد أن ظن طويلاً أن الإخوان هم مصدر التهديد الوحيد.
' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث