رسالة سرية إلى حكامنا العرب.. سادة واشنطن لا يعتبرونكم حلفاء او اصدقاء فلا تتركوهم يسخرون منكم
عماد عبدالله السديري
2010-12-28
كشفت الحزم الهائلة من الوثائق السرية الأمريكية التي تم تسريبها مؤخرا، عن حقائق ووقائع صادمة وغريبة، إذ مثل الحدث سابقة فريدة من نوعها في منطقتنا العربية، فلأول مرة تسرب وثائق في بالغ الأهمية عما يقال ويحاك في قصور ودهاليز بعض حكامنا العرب، ولأول مرة أيضا يتم تسريب كمية ضخمة من المعلومات الاستخباراتية الحساسة التي غطت أغلب عواصم ومدن العالم بعد أن فشلت أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ في حماية الوثائق الصادرة عن مؤسساتها المنتشرة في كل مكان. في الواقع، رغم تأكيد الأغلبية الساحقة من الإعلاميين والباحثين العرب والمسلمين على أن ما أميط اللثام عنه لا يعدو أن يكون مجرد توثيق وتأكيد لسياسات أمريكية وغربية مصلحية وحتى غير إنسانية موجودة ومتأصلة منذ عقود طويلة، إلا أن الحدث يستحق هذا الكم الهائل أيضا من التغطية وردود الفعل والتحاليل.
لقد أظهرت التقارير والمراسلات السرية الصادرة عن القنصليات والسفارات والقواعد الأمريكية القابعة والرابضة في جميع أنحاء المعمورة عن استراتيجيات واشنطن المعلنة والسرية في التعامل مع أحبابها وأصحابها وحلفائها وكل من يرتبط بالعم سام من قريب أو بعيد. طبعا نصيب المنطقة العربية وحكامنا العرب من التغطية الاستخباراتية كان شديدا ومكثفا وفريدا أيضا، فأمريكا رغم بعدها الجغرافي عنا تطوقنا وتبيت بيننا وترقبنا برا وبحرا وجوا، إلى درجة أننا فعلا في بعض الحالات ونتيجة للاختراق الشامل غدونا نتساءل عن المدير الفعلي لبعض شؤون الأمن والسياسة في عدد من الدول العربية، التي تعتبر حسب القوانين الدولية والنصوص القانونية مستقلة وذات سيادة وحرمة.
لقد احتوى العديد من الإرساليات على تلخيصات للقاءات ومقابلات لدبلوماسيين أمريكيين مع عدد من حكامنا وساستنا الكبار والمعروفين لدى الكبير والصغير بممارسة السياسة وتعقيداتها منذ زمن طويل. هذه الوثائق رغم أنها مثلت سندا تاريخيا يفضح الأساليب المتخلفة للدبلوماسية الأمريكية، التي لا تحترم لا الصديق ولا الشقيق، إلا أنها أيضا عبرت عن ثقافة شائعة لدى مؤسسات الأمن القومي الأمريكي ورجال وزارة الخارجية الذين يحملون من دون أدنى مجال للشك تصورات مشوهة عن العرب وحكامهم، وقدرتهم على اتخاذ القرار المناسب قبل وأثناء وبعد الأزمات. إنها فعلا مأساة سياسية عميقة ومهزلة حضارية خطيرة يعيشها النظام السياسي الأمريكي، الذي حسبما يبدو فشل في صناعة استراتيجية دولية ذكية وإدارة علاقاته الخارجية بطريقة مجدية. لكن وثائق ويكيليكس عبرت أيضا عن مهازل وكوارث ومصائب تعاني منها بعض الأنظمة العربية، خاصة وزارات الخارجية التي يبدو أنها غير قادرة على تأسيس أطر دبلوماسية ورسم خطوط واضحة لطبيعة العلاقة أو 'التحالف' مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بشكل عام. إن بعض وزراء الخارجية ومستشاريهم وناصحيهم فعلا مساكين ومثيرين للشفقة، إذ أن كل التوصيات والتكتيكات الصادرة عن عباقرة وفطاحل العلاقات الدولية العرب لم تجد لها آذانا صاغية في دهاليز الإدارة الأمريكية. لا ضير إن اطلع بعض حكامنا ومستشاريهم بشكل مكثف وعلمي عما يؤمن به صناع القرار ومنظري العلاقات الدولية في أمريكا والغرب، ليتبينوا ما يغيب عنهم وليروا ما فيه مصلحتهم ومصلحة شعوبهم، فنحن نظريا وعمليا قادرون على إنشاء شراكة إستراتيجية براغماتية مع الغرب بأسره، ووضع حد لبعض الممارسات الدبلوماسية الغربية التي استمتعت طويلا بتحقيرنا وتشويهنا وتأصيل الجهل في أوطاننا، بل من المهم جدا في أيام كارثية طالت كثيرا في بعض بلداننا أن يسعى الجميع باسم الغيرة على الأخ وابن العم إلى مساعدة بعض قادتنا وكل من يعمل في بلاطاتهم على فهم جذور وطبيعة ومبادئ السياسة الخارجية الأمريكية حتى لا تتمادى واشنطن والحكومات الغربية بشكل عام في السخرية منهم والتلاعب بسياساتهم، وبالتالي الاستمرار في إخراجنا من دائرة التاريخ والتسبب في كم غير محدود من النكسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية.
في أكثر من رسالة سرية طلب بعض الحكام العرب من قائد رعاة البقر السابق الصاحب والحبيب والحليف جورج بوش ألا يهاجم العراق لما يمثله ذلك من تهديد لأمن واستقرار المنطقة. فكان رد راعي السلام في الشرق الأوسط سريعا وشديدا وعلى إيقاعات السينما الهوليوودية، إذ قتل الملايين من إخواننا وشرد الآلاف من عائلاتنا في العراق وهدمت بغداد وسلبت آبار البترول وعم عصر جديد من التخلف والتقهقر جميع أراضي بلاد الرافدين، بل استمر الأمريكيون في التلويح بعصاهم الغليظة وهم يشقون المنطقة شقا بأقمارهم الصناعية وطائراتهم وأشيائهم المتطورة والكثيرة والغريبة عنا، فتارة يهددون هذا وطورا يتوعدون ذاك غير آبهين لا بالقانون الدولي ولا بحرمة الأوطان ولا بشبه حكمة لدى من يرابط لسنوات طويلة مطولة في سدة الحكم.
قادة عرب آخرون سيذكرهم التاريخ قطعا لأن الخيل والليل والبيداء تعرفهم والسيف والرمح والقرطاس والقلم، طلبوا ونصحوا الأمريكيين علنا وسرا وبالهاتف المحمول وبالبرقيات السرية وبتنظيم الحفلات المترفة، بألا يتركوا اليهود ينكلون بأبناء وبنات غزة إذ لا يوجد توازن في القوى بين من يملك قنابل نووية تحرق الأخضر واليابس، ومن يجد صعوبة في إضرام نار لطهي عشائه. فكان الرد قاسيا وشديدا وواضحا، إذ قامت طائرات (أف 16) الأمريكية الصنع بقصف كل شبر وكل بيت وكل شارع وكل قرية وكل من يتنفس في غزة. لا بل أكد الأمريكيون وقتها أنه يحق لإسرائيل أن تدافع عن أرضها وشعبها الذي يعاني نفسيا من شبه صواريخ لا يتجاوز مداها بضعة كيلومترات أصابت البعض من حدائقه وطرقاته، فقاموا باستخدام حق النقض لإسقاط عدة قرارات في مجلس الأمن، حاولت أن تدين مجزرة غزة وهددوا الشقيق والصديق ببئس المصير إن تجرأ على التدخل في شؤون العزيزة والغالية إسرائيل البنت الشقية والمدللة للغرب 'المتحضر'. رغم احتجاج معظم الدول العربية التي تتباهى أغلبها بالتحالف مع واشنطن، لم تتوقف إسرائيل، بل ازدادت ظلما وطغيانا فقصفت مدارس تابعة للأمم المتحدة وحتى أراضي شاغرة بحثا عن أنفاق ودواب وفواكه وغلال وأدوية في باطن الأرض.
رغم كل هذا الفشل الدبلوماسي ورغم صراحة المسؤولين الأمريكيين ووضوح أغلب سياسات الدول الغربية التي لا تعطي جميعها مجالا لأي رأي عربي، لم ييأس بعض قادتنا من شبه تحالفاتهم مع الأمريكيين، فطلبوا خلافا لسابقيهم من واشنطن أن تهاجم إيران هذه المرة وتقضي على برنامجها النووي، فهم لا يطيقون أن يناموا ليلة واحدة في قصورهم وبين أهلهم وخلانهم، وطهران تعد العدة لغد مظلم فهي جادة في سعيها لبناء دولة قوية قادرة عن الدفاع عن نفسها من دون الاستعانة بغيرها، وقد تحاول ذات يوم أن تسيطر على المنطقة العربية بأسرها لما لديها من طموحات عقائدية وحضارية واقتصادية وسيادية. مرة أخرى عبرت الحكومة الأمريكية عن مدى احترامها واقتناعها بعقلانية وحكمة حكامنا، فالتحالف بيننا تحالف استراتيجي والشراكة بيننا متقدمة جدا ووحدة المصير حقيقة لا مفر منها لدرجة أن واشنطن لا تستطيع أن تتحرك من دون استشارة حكامنا والرجوع إليهم في كل كبيرة وصغيرة تخص المنطقة والعالم بأسره. فتبدأ جولة جديدة من المفاوضات المباشرة والمتعددة مع الإيرانيين، ومن دون مشاركة أو حتى حضور شكلي لأي حاكم عربي أو خبير عربي أو مرجعية عربية أو حتى عمرو موسى ليحضر مأدبة عشاء على هامش المفاوضات، فتسعد إيران في كل يوم يمر بتطور صناعاتها وجيوشها وأسلحتها وتعليمها وثقافتها. هكذا تريد واشنطن: إيران على يميننا وإسرائيل في خاصرتنا وهي بيننا في أزقتنا وفي ديارنا وخاصة في آبارنا... من دون تلميح، بل بالصريح المفضوح تعبر واشنطن عن مدى تجاهلها وعدم اكتراثها لمصالح وهموم ومخاوف حكام 'الشرق الأوسط الكبير'، ورغم هذا لا زال البعض منا ومن حكامنا ودبلوماسيينا يعتبر واشنطن حليفا استراتيجيا ولا زال ينتظر ردا على اقتراحاته السرية التي يبدو أنها قد وصلت موقع ويكيليكس قبل أن تقرأ من قبل أي مسؤول أمريكي.
من حقنا أن نتساءل عن كيفية فهم وزارات الخارجية في بعض الدول العربية للدبلوماسية وأسس العلاقات الدولية. من حقنا أن نتساءل إن كانت القرارات السياسية التي تهم شؤوننا الخارجية تدرس بعمق وبجدية من قبل خبراء ومختصين في هذه المجالات، أم تتخذ هكذا فجأة تحت جذع نخلة أو ظلال خيمة، من دون ترتيب مسبق أو مناقشة موسعة. ألا يدرك حكامنا أن الأمريكيين والغربيين بشكل عام لا يحترمونهم ولا يقدرونهم؟ ألا يطلع الدبلوماسيون العرب على ما يبث مثلا على قناة فوكس نيوز السيئة الذكر، وعلى تلذذ عدد كبير من المفكرين الأمريكيين بتشويه صورتهم لدى الرأي العام الداخلي؟ ألا يعلم سفراؤنا بما ينشر عن حكامنا ووزرائهم وعائلاتهم في وسائل الإعلام الغربية؟ أليس من الغريب أن تقابل السياسة الخارجية الأمريكية المبنية على التقزيم والاستخفاف بآراء الحكام العرب بالترحيب والتهليل مع كل زيارة لمسؤول أمريكي لبلداننا؟
إن المتأمل في الواقع يكتشف لا محالة أن ما يسمى بالدبلوماسية العربية غريبة وغير مفهومة ولا توجد لديها مبادئ أو أسس علمية أصلا، فعوضا عن الفعل الدبلوماسي الإيجابي وتجنب الغموض في بناء العلاقات الدولية ومطالبة بعض الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بالاعتذار والاحترام والالتزام بعدم الطيش السياسي والعسكري، تراها دوما تأنس إلى التقرب من قيادات أوروبا وأمريكا، غير مبالية بما يمثله ذلك من فقدان للكرامة والمصداقية أمام العالم بأسره، بل في كل جولة لحاكم أو مسؤول غربي لأراضينا تقرع الطبول وتزدان الشوارع وتصطف الفيالق المدججة بالأسلحة والأوسمة وتنثر الورود والزهور في الهواء تبركا بقدوم الحلفاء الأجلاء.
ولا يجد نفر كثير من الحكام العرب حرجا في اعتبار واشنطن حليفة قوية أو في التعامل مع ما يقوله الأمريكيون، وكأنه كلام منزل من السماء، في حين أن خرائط البنتاغون وأجهزة الأمن القومي تعتبر بالتلميح وبالتصريح العالمين العربي والإسلامي أرضا عدوة، وكل مواطني الدول العربية والإسلامية تهديدا للمصالح والرعايا والقوات الأمريكية.
لقد بين موقع ويكيليكس أن الأمريكيين لم يتغيروا، بل لازالوا أوفياء لأجدادهم وزعمائهم السابقين في سياساتهم الخارجية التي يمكن تلخيصها بشكل سريع في ثلاثة مبادئ أساسية: العصا الغليظة والتدخل في شؤون الدول والاحتواء المستمر. من هذا المنطلق وبالرجوع إلى حساباتهم الإستراتيجية والاعتماد على مبادئهم الدبلوماسية، التي بالتأكيد درسها كل من يهتم بشؤون السياسة والعالم في أمريكا، لا يتعامل أبناء وبنات العم سام مع العرب بمنطق الحليف، بل هم قطيع من الحكام والشعوب التي وجب فهم تاريخها وجذورها وواقعها لإذعانها وإضعافها حتى لا يتجرؤوا ذات يوم على التطاول على أمن ومصالح الغرب. الغريب والعجيب أن هذه الحقائق جزء محوري من الثقافة الشعبية الأمريكية، ففي كل بيت وكل قرية وكل ولاية أمريكية يعتبر الحاكم العربي ثريا ومجرما شرسا وراعيا للإرهاب لا يلهث إلا وراء السلطة والمال. ولمن يعارض هذه الفكرة عليه أن يستدرج أمريكيا مقيما بيننا ويطلع على ما يخفيه من أفكار مشوهة وتصورات مغلوطة أو يشاهد بعض الأفلام الأمريكية التي تتعرض لقضايا العرب بشكل دنيء أو يتابع بعض التقارير الوثائقية الغربية التي أبدعت في تشويه الحكام العرب وعائلاتهم.
باختصار شديد، لقد أكدت وثائق ويكيليكس أن واشنطن ممثلة في مؤسساتها الرسمية التي تعنى بشؤونها الخارجية غير مستعدة ولا تبحث أصلا عن مصالحة تاريخية وحضارية شاملة مع العرب والمسلمين، بل مازلت تتصرف وتعبث بالمنطقة العربية وفقا لأساليب وخطط استعمارية وإمبريالية بالية، فوضعت حكامنا العرب في قسم خاص جدا عنوانه: 'حلفاء لا يستحقون الثقة' وانطلقت في مشاريعها السرية والمعلنة من دون استشارة ومن دون مراعاة لمصالح أو وجهات نظر العرب. ولعل هذا أيضا ما يفسر إلى حد ما سقوط العم سام ولأكثر من مرة في مستنقعات الشرق الأوسط وعدم التوصل إلى تهدئة المنطقة، رغم كثرة المحاولات والمؤامرات والصفقات. كذلك يبدو من خلال التدقيق في وثائق ويكيليكس أن الأمريكيين مازالوا يحتقرون ويستخفون بالشعوب العربية، فأغلب مراسلاتهم السرية لا تتحدث عن إمكانية أن يسبب ضغط الشارع العربي حرجا للولايات المتحدة الأمريكية، رغم كثرة الانتقادات اللاذعة، ولم تقع الإشارة إلى الثقافة الشائعة لدى أغلب العرب، التي تقوم أساسا على تجريم وتحميل أمريــــكا أغلب مآسي الأمة. على خلاف ذلك لم يحاول أي مسؤول أو مخبر أو دبلــــوماسي أمريــــكي أن يشرح وجهات نظر العرب والمسلمين واستعدادهم لبناء علاقة حضارية مبنية على التصالح مع الغرب بأسره، بل لم يشر 'رعاة السلام' في أية إرسالية سرية إلى ضرورة بناء علاقات مبنية على الثقة والاحترام بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالمين العربي والإسلامي حتى تتمكن الإدارات المتعاقبة من تجاوز أخطائها وهفواتها المتكررة.
رسالتي السرية إلى حكامنا العرب بسيطة وبريئة جدا: لقد تبين بالوثائق أن سادة واشنطن لا يعتبرونكم حلفاء أو أصدقاء... فلا تتركوهم يسخرون منكم ومنا أكثر مما فعلوا.
' باحث تونسي في الشؤون العربية