كي لا تسرق ثورة الشعب التونسي
اسماعيل القاسمي الحسني
لعل المتابع للأحداث الأخيرة التي وقعت بتونس، يقر بأن قناة (الجزيرة) كانت الفضائية الأكثر مواكبة لها بمهنية عالية، تليها قناة (الحوار)، فكلاهما فتحت أبوابها مشرعة أمام فعاليات وممثلي النخب التونسية، بل ذهبت إلى التواصل على الهواء مباشرة مع مواطنين بسطاء كانوا وقود هذه الثورة المباركة، فضلا عن الخبراء والمحللين وغيرهم، هذا الدور الإعلامي الرائد كان وللمفارقة تحت ظل المنع وحجب المعلومة من قبل النظام الدكتاتوري، الذي ومن غبائه، ولعله نكاية في (الجزيرة) ومثيلاتها سمح لقنوات فضائية فرنسية بتغطية الأحداث، أما على صعيد الإعلام المقروء، فلا شك أن المتابع كذلك يشهد لصحيفة 'القدس العربي' بذات الأمر، فمن اليوم الأول لهذه الثورة الشعبية، ضاعف فريق الصحافيين القائم على متابعة أحداث المغرب الغربي جهوده، في رصد المستجدات وتتبع المعلومة والتحقق من صدقيتها، مواصلا ليله بنهاره، وعرضها على القراء بكل مهنية؛ صحيح أن هذا واجب كل إعلامي نزيه، ولكن علينا أن نعترف بأنه في ظل خنق الإعلام والحجب القصري للمعلومة، وغلق مصادرها وتكميم الأفواه يستدعي الوضع جهدا خارقا للوصول إلى الحقيقة، وهذا ما نهض له طاقم 'القدس العربي' مشكورا، ولكن المهمة لم تنته، والواجب الأخلاقي والمهني فضلا عن الإنساني لم يصل إلى خواتيمه المرجوة.
لاشك أن الشعب التونسي فاجأ العالم عموما، كما ذكر رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الفرنسي 14/01، وعلى وجه الخصوص فاجأ النخب العربية الجبانة وحكامها الأغبياء، بشجاعة منقطعة النظير، وإصرار على التغيير فت الحديد وردت صلابة صدوره الرصاص القاتل على أصحابه، فأطاح بنظام دكتاتوري لا يختلف في شيء عن بقية الأنظمة العربية البليدة، لطالما توهم السفهاء أن آلته الجهنمية يمكنها قهر إرادة الشعب، وأسقط أقنعة كثيرا ما توارى وراءها النظام الحاكم، وأزال تلكم المساحيق المغشوشة القذرة التي كان يتزين بها، لا ينخدع بمنظرها إلا سفيه عقل مغفل، ولا يروج لها من النخب الفكرية والدينية إلا خائن مرتزق حقير؛ وكشف هذا الشعب الأبي الباسل عن قوته وإرادته للجيوش العربية وأجهزة استخباراتها المهترئة، التي استبدلت علة وجودها الأصيلة بخدمة أنظمة تتهاوى كبيوت العنكبوت إذا قام الشعب، وفضح بشكل مخز تلكم العلاقة غير الشرعية بينها، فما أن دكت أرجل هذا الشعب الأرض تحت أقدام الرئيس الفار، حتى ولى هاربا وترك تلك الأجهزة القمعية التي سخرت نفسها لخدمته لمصير مجهول، تتخطف عناصرها أيادي الرجال الرجال، ولم يلتفت إليها، ولا يأبه لمصيرها، فقطع بالدليل أن الحاكم العربي ينظر إلى هذه الأجهزة نظرته لورق الكلينيكس ليس أكثر، يمسح - بها أكرمكم الله- قذارته ومتى دعت الضرورة رمى برجالها في مكب النفايات، وهذا ما حذرت منه مرارا رجال جهاز المخابرات الجزائرية تحديدا، في عديد من المقالات عبر صحيفة 'القدس العربي'، وها هم يرون بأم أعينهم اليوم في تونس مصير من يقف في وجه الشعب ويستبدله بخدمة دمى متخلفة ذهنيا، والشعب التونسي ليس أبدا استثناء، بل هو القاعدة التي يتغافل عنها الجبناء والأغبياء، بل أذهب أبعد من ذلك، فما رأيناه من هذا الشعب العزيز هو نزر قليل مما قد تحدثه شعوب عربية أخرى، ذلك أنه يتميز كما هو معروف عنه بالسلم والدعة، وسلوكه الفردي والجماعي قد صقله بشكل متميز الرقي في المعارف والدراسات العليا، يضاف إلى ذلك توحد العرق واللسان والمذهب والدين، وفوق هذا وذاك وحسب تقارير الأمم المتحدة، فمستواه المعيشي هو الأحسن بين الشعوب المغاربية؛ كل هذه الخصائص نادرة في بقية الشعوب بشمال افريقيا، ما يعني عقلا أنه متى انفجر بركانها فان حممه تتجاوز حرائقها ما حدث في تونس بكثير. وأعود إلى وسائل الإعلام التي وقفت من اليوم الأول إلى جانب الشعب التونسي، وإلى غيرها التي لحقت وإن متأخرة، لا لأعطي دروسا وإنما هي وجهة نظر ورأي أدلي به عسى أن يكون صوابا؛ لقد أدى الشعب التونسي العملاق ما كان يجب عليه، وقدم دماء أبنائه بكل شجاعة وبسالة، ولن أنسى تلكم الأم التونسية الثكلى حين نعي إليها ابنها الذي سقط شهيد حرية الشعب، فقالت: 'مازال لدي أربعة أبناء فداء للوطن'؛ ولكني أخشى من سرقة ثورته المباركة، التي بدت مؤشراتها من اليوم الأول لفرار الرئيس المخلوع، فقد ظهر الغنوشي الوزير الأول في النظام البائد ليستولي على صلاحيات الرئيس، وبادرت فرنسا صباح غد وبشكل رسمي بمباركة ما سمته الانتقال الدستوري للسلطة، ثم سرعان ما خرج علينا وجه آخر من النظام الدكتاتوري، رئيس المجلس الدستوري ليعتمد المادة 57 بدل 56 ويعلن أن صلاحيات الرئيس هي بيد رئيس المجلس الشعبي المزور أساسا، لنرى عملية سطو على ثمار هذه الثورة المباركة، وقطع الطريق على الشعب للوصول إلى غايته المشروعة، وهنا بادرت القوى العظمى في تخبط واضح للمواقف، بإصدار بيانات متضاربة، تحمل قراءات ينتهي مجملها إلى رسم صورة من النفاق والدجل على الشعوب، لعل آخرها وأنا أكتب هذا المقال 15/01 تصريح السلطات الفرنسية بوضع اليد على كل العمليات والحسابات المصرفية المشبوهة، مما يدل على أنها كانت على علم بها مسبقا، ومتواطئة من قبل مع أصحابها، وبهذا فضحت نفسها بأنها وغيرها تغطي على عمليات النهب للمال العام العربي من بقية الأنظمة العربية.
لهذه الأسباب الموضوعية، فوسائل الإعلام العربية المسؤولة مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى، لقطع الطريق على عصابات النظام التونسي البائد، بكشف الحقائق ونشر الوثائق، وفتح مجال التعبير للرجال الأمناء المخلصين التونسيين، ولا شك أن لهذا الإعلام يدا طولى في مساعدة الشعب التونسي على ثورته، وإعطائها الزخم الذي تستحق، فعليها اليوم أن تكمل الرسالة الى بلوغ الهدف، فان كانت من قبل تخشى على المصادر من انتقام النظام البوليسي، فالفرصة اليوم سانحة، وأعتقد أنها لن تطول إذا لم يؤد الإعلام المسؤول دوره، ويستبق قطاع الطرق ويكشف حقيقتهم ووجوههم البشعة، لا يستقيم في ذهني أبدا أن رجالا كانوا أعمدة النظام الدكتاتوري البوليسي هم أنفسهم من يتولون أمر تونس، ويعدون بالديمقراطية والحرية وغيرها من الأهداف المشروعة والحقوق الأصيلة لكل إنسان، من يخرج الحي من الميت إلا الله سبحانه؟.
ختاما، لن أذكر النظام الجزائري وغيره بمصير الرئيس التونسي المخلوع، ولا كيف نبذه وعائلته العالم الغربي، ولن أذكرهم بأن ثورة الشعب التونسي التي كانت آخر ما يتخيله خبير عربي أو غربي ممن يغردون في آذانهم، بل ليبقوا على صممهم وبكمهم وعماهم إلى أن يحملهم الموج، فقد خرجت علينا وجوه النظام الجزائري اثر أحداث الغضب أوائل هذا الشهر أشبه بالكائنات الفضائية، التي لا علاقة لها بما يحدث على الأرض ولا علم، مظهرا ولسانا وفكرا؛ وإن كانت ثورة الشعب التونسي هي الأولى من نوعها في عالمنا العربي قد أسقطت نظاما كان يبدو قويا، فوعزة الله لن تكون أبدا الأخيرة، أعلم أنهم سيقولون ان هذا الكلام إنشائي وإن غدا لناظره قريب، ألم تكن ثورة الشعب التونسي كذلك ضربا من الخيال؟ ولن أذكر مؤسسات الجيوش العربية وأجهزة استعلاماتها بمصائرها إذا بقيت تلعب دور المرأة العاهرة بين يدي سلطات فاجرة، ولن أذكر النخب الدينية والفكرية والسياسية كذلك بنهايتها إذا أصرت على دور النعام تدفن رؤوسها في الرمل وترفع.... - أكرمكم الله - في وجه الشعوب؛ ولكني أقول: الله يستر من القادم فانه لا شك لدي أنه ينسينا في ما حدث بتونس، وأسأل الله أن ينجي الشعب التونسي من المكائد التي تحاك ضد ثورته المباركة وأترحم على شهدائه، وأنحني إجلالا وإكبارا لريادته وشجاعته.
' فلاح جزائري