الصدفة السعيدة وحدها جعلتنى أتذوق الطعم الرائع لثورة الشباب المصرى
العظيم وأنا أقف بينهم فى ميدان التحرير، فقد جئت من دبى، حيث أقيم وأعمل،
فى زيارة قصيرة إلى بلدى الجميل مصر لأتابع صدور روايتى الجديدة "العاطل".
هبطت القاهرة فى يوم 26 يناير الفائت، أى بعد اشتعال الثورة بيوم واحد فقط،
لأرى ما لم يحدث فى مصر على الإطلاق طوال العصور الحديثة.
نعم.. شاركت الشباب ورأيت.. انفعلت وبكيت.. هتفت معهم بسقوط النظام.. تعلمت
منهم فضيلة التحدى والصمود.. تابعتهم وهم يقومون بكنس وتنظيف ميدان
التحرير الذى صار بيتاً للحرية لهم ولنا نحن الذين كوى أكبادنا التوق إلى
استنشاق نسيم هذه الحرية.. تأملت وجوههم النضرة المترعة بالخير وحب الوطن..
انتقدت نفسى بشدة لأننى لم أنتبه بما يكفى إلى أن هناك جيلاً من ذهب ينمو
ويترعرع بيننا يحتشد بكل هذا الوعى الصافى والإصرار النبيل.. قرأت خرائط
مصر جديدة ترتسم على ملامحهم الطيبة.. مصر أخرى غير تلك التى عرفناها
وحرمتنا من نعيمها وسحرها.. مصر عفية يتولى شئونها شباب أخضر أجمل وأرق من
الورد.. مصر خالية من قانون الطوارئ وبطش الشرطة وقهر الناس.. مصر تبجل
الحرية وتدعو إلى إنصاف الفقراء وتشييد مجتمع أكثر عدلاً وجمالاً.
لقد كشفت هذه الثورة العظيمة أنبل ما فى المصريين من مزايا وخصال، فى الوقت
الذى أبرزت فيه الصفات الخسيسة لأولئك الذين ذبلت أخلاقهم وتيبست ضمائرهم،
فحاولوا تنظيم ثورة مضادة بالبطش والتضليل الإعلامى الفج، حيث فوجئنا
بالهجمة البائسة للبغال والجمال والحمير التى امتطاها عملاء الحزب الوطنى
المنكوب ليعتدوا على الثوار الشرفاء فى ميدان التحرير.. وتابعنا بأسى
المحاولات المستميتة التى يبذلها الإعلام المشبوه للنظام الآفل للاستخفاف
بثورة الشعب المصرى ضد الطغاة والفاسدين والفشلة الذين أخفقوا فى إدارة بلد
كبير بحجم مصر.. استمعنا إلى أحاديث باهتة ومزورة يدلى بها، من دون أدنى
خجل، رجال نظام يتهاوى فى محاولات يائسة للحفاظ على مكاسبهم ومصالحهم..
قرأنا مقالات فاسدة تمجد النظام ورأسه المترنح.. رأينا كيف شن هذا النظام
الملعون حرباً إلكترونية علينا نحن المصريين، فعطل شبكة الاتصالات، وأوقف
شبكة الإنترنت ظناً منه أن هذه الجرائم ستحد من ثورة الشعب، فإذا بها تتأجج
وتزداد اشتعالاً وروعة.. شاهدنا كيف أصدر هذا النظام المستبد أوامره
المخبولة بحظر التجول، ثم إيقاف عمل القطارات فى جميع أنحاء الجمهورية حتى
لا يتوافد ملايين الناس على ميادين الثورة هنا وهناك، ليشاركوا ويتطهروا..
ومع ذلك لم تفلح كل هذه المحاولات الطائشة فى عرقلة قطار الثورة من
الانطلاق.. ذلك أنهم لا يقرأون التاريخ، ولا يدركون أنهم بتشبثهم بالسلطة
إنما يعاندون حركة المستقبل ويخاصمون قانون التطور.
لاحظ أرجوك أن خفة الظل المصرية كان لها نصيب معتبر فى هذه الثورة المجيدة،
حيث تجلت فى عشرات الشعارات التى رفعها الشباب المقيم فى ميدان التحرير،
بعد أن نزعوا عن أنفسهم ثياب الخوف من أولئك الظلمة الذين قتلوا منهم عشرات
الشهداء بذلوا دماءهم فداءً لوطنهم وشعبهم. هذه الشعارات التى تضج بخفة ظل
لا نهائية "سجلت منها أكثر من ستين شعاراً" تؤكد أن المصريين أضاءوا بفضل
ثورتهم قناديل روحهم المرحة بعد أن أطفأها هذا النظام القاسى لعقود طويلة.
تبقى عندى ملاحظتان وأنا أكتب هذه السطور فجر السبت 5 فبراير:
الأولى هو التأكيد على أن شرعية نظام مبارك قد سقطت نهائياً مهما حاولوا
بمكرهم وألاعيبهم تأجيل إعلان السقوط رسمياً.. وها هى الملايين التى احتشدت
فى جمعة الرحيل 4 فبراير رغم الحظر والتضييق والإغواء تؤكد هذا السقوط،
بهتافاتها وإصرارها وبسالتها.
أما الملاحظة الثانية فتتمثل فى ضرورة الانتباه جيداً إلى محاولات النظام
"الذى مازال يمسك بالسلطة رغم افتقاده الشرعية" لتفتيت هذه الثورة بالكيد
والبطش والخبث.
أذكر أننى كتبت فى هذا المكان يوم 17 يناير الماضى محتفياً بثورة تونس،
ومتسائلاً بعد هروب رئيسها المخلوع زين العابدين بن على: من هو الديكتاتور
العربى التالى الذى سيطيح به شعبه؟
أظنك تعرف الإجابة الآن!