لطفي الياسيني معلومات إضافية
الأوسمة : المشاركات : 80306 نقاط : 715287 التقييم : 313 العمر : 118 | موضوع: غسان كنفاني صاحب النهايات الإثنين 21 مارس 2011 - 14:23 | |
| غسان كنفاني صاحب النهايات
--------------------------------------------------------------------------------
يَظلّ اليسار الفلسطيني رائدًا في مَجال أدب وفكر القضية الفلسطينة, صاحبَ حكمةٍ في قراءة أبعاد المواقف البعيدة, وصاحبَ يدٍ نظيفةٍ مِن الدّم وسوء التصرّف الفلسطيني – الفلسطينيى. وكما ترون الآن أفعال اليمين ومجهولي الوسط الفلسطينيين, تصدر طياش هدفٍ؛ وبالتزامن مع الذكرى الخامسة والثلاثين لرحيل أديب « الهدف » الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني, الذي اغتالته يد إسرئيل, بتفجير سيارته الشخصية التي كان يقودها, ومعه ابنه أخته الطفلة الرشيقة القريبة إلى قلبه « لميس ». وقد نفذت حادثة الاغتيال في صيف لبنان, بتاريخ 8/7/1972, وفي الحازمية تحديدًا. إذًا, لم يكن المستهدف كاتبًا عاديّا. إنه أحد أعلام الأدب الفلسطيني, صاحب المنجز المتنوع والعقل الوطني النظيف من سياسات الحقيبة والاتّجار, الرجل المقاوم بالكلمة الشجاعة التي آلمتْ عدوّ الروح السامية. حيث بلغَ السموّ بصاحب الروح أن يرفض محاولاتٍ من رفاقه لاقناعِه بحمل مسدس شخصي مَخافة تعرّضه لخطر مُحقق ؛ طالما ظلّ رفيقَ جُرأةِ الكلمة والفكر البعيد. في هذا الصدد, كان تحدّث رفيقه القيادي في الجبهة الشعبية: عبد الرحيم ملوح, والذي سارع, وقتئذ, للمّ أشلاء كنفاني من تراب وجدران الحازمية.. يقول ملّوح: ( حاولت قيادة الجبهة الشعبية إقناعه بأن يرافقه حارس وسائق من أجل حمايته, ولكنه رفض بشكل مطلق. وجرَتْ محاولة ثانية لإقناعه بِحَملِ مُسدّس, رفضَ استلامه, وأعادَه مَع حامله, مَع شتيمةٍ من العيار الثقيل لِمن أرسله, وأضاف قائلاً: إن قلمي هو الذي أخافهم! ). وقد جاءت مطالبة غسان كنفاني بحمل مُسدّس في أثر تعرّضه للضرب العنيف, قبل إغتياله بفترة, من مجموعة جندتها إحدى الدول العربية ؛ لردعه وترهيبه, في أثر توجيهه انتقادًا قويّا لها, في صحيفة « الهدف » الأسبوعية, التي كان يرأس تحريرها. وكانت سَمَتْ روحُ كنفاني دون أن يتجاوزَ السادسة والثلاثين من عمره؛ مخلّفًا أرشيفًا أدبيّا ثريّـا ومتنوعًا, من روايات وقصص قصيرة ومسرحيات ودراسات تاريخية ونقدية سباقة ورائده في مجالها, في حينه. من أشهرها في مجال الرواية: ( رجال في السمس 1963, ما تبقى لكم 1966, عائد إلى حيفا 1969, و أم سعد1969 ). وفي مجال القصة القصيرة: ( موت سرير رقم 12 1961, أرض البرتقال الحزين 1962, عالم ليس لنا 1965, وعن الرجال واابنادق 1968 ). وفي المسرح: ( الباب 1964, القبعة والنبي 1967, وجسر إلى الأبد 1965 ). وأما في الدراسات والأبحاث فله: ( الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1968, المقاومة ومعضلاتها 1970, و ثورة 36-39 في فلسطين 1972 ). وبالإضافة للأعمال الأخرى التي لم تكتمل, ونشرها على حلقات في صحف ودرريات, ولم تجمع في كتب. وولد غسان كنفاني في عكا عام 1936، وعاش في يافا واضطر إلى النزوح عنها كما نزح آلاف الفلسطينيين في إثر نكبة 1948, تحت ضغط وقمع الاحتلال. وأقام مع ذويه لفتة قصيرة في جنوبي لبنان, ثم انتقلت العائلة إلى دمشق. عمل كنفاني منذ شبابه المبكر في النضال الوطني, وبدأ حياته العملية معلما للتربية الفنية في مدارس وكالة غوث اللاجئين ( الأنروا) في دمشق, ثم انتقل إلى الكويت عام 1956, حيث عمل مدرسًا للرسم والرياضة في مدارسها الرسمية. وكان في هذه الأثناء يعمل في الصحافة, كما بدأ إنتاجه الأدبي في الفترة نفسها. في عام 1960, انتقل إلى بيروت, وعمل محرّرًا أدبيّا لجريدة « الحرية » الأسبوعية, ثم أصبح عام 1963 رئيسًا لتحرير جريدة « المحرر », كما عمل في « الأنوار » و « الحوادث » حتى عام 1969 حين أسّس صحيفة « الهدف » الأسبوعية وبقي رئيسا لتحريرها حتى استشهاده.
رأيت كيف تتحوّل النهايات؟؟: يقول صديقه الفلسطيني محمد البطراوي في شهادة له عنه, منشورة في العدد (11) تموز 1997, من شهرية « دفاتر » الفلسطيينة : ( كان يحلو لغسان كنفاني دائمًا تحويل النهايات, ففيما كنا نشاهد معًا فيلمًا حزينًا جدّا, هو « سارق الدراجة» ؛ عند خروج الناس من السينما واحتشدوا في الصالة, والكلّ متأثر أو دامع العينين, قال غسان بصوت عالٍ, بحيث يسمعه جميع من في الصالة: « لماذا لَمْ يَشترِ له أحدٌ درّاجةً ليغنينا عن هذا البكاء », فضحكَ أغلبُ من في الصالة, ثمّ قال هامسًا: « أرايت كيف تتحوّل النهايات؟ » ). غير أنّ كنفاني لم يفعل الشيءَ ذاته, في نهاية روايته الشهيرة « رجال في الشمس », فلم يضحكنا ؛ لأنه أنهاها بشكل لا يسمح لأحدٍ بتقمّص شخصية محورية تدعى أبا الخيزران, سائق شاحنة خزان المياه الصدىء. وهنا, لا يفوتنا أن ننقل كلامًا آخرَ, ومهمّا جدّا, أدلى به محمد البطراوي, في شهادته المذكورة سابقًا, فيقول: ( نشأت بيننا صداقة قوية, وكان ينظر إلي تجربتي الحياتية والسياسية باعجاب كبير. وكان يحاول, دائمًا, أن يعرف اسمي الحقيقي, ذلك أنني كنت أعيش وأعمل في الكويت بجواز سفر مزيف واسم مزيف, وعندما كفّ عن السؤال عرفت أنه عرف الاسم الحقيقي. كنا نتحدث كثيرًا عن فلسطين, حدثته عن قريتي « أسدود » طويلاً, وحدثته عن وقوعي في الأسر عام 1948، وعن التعذيب الذي مررت به على أيدي معكسر الأسرى. وقد ظهر في إحدى قصصه فيما بعد, حديث له عن التعذيب تحت نقطة الماء المتقاطرة وإرهاق الأعصاب, بما يقارب الشكل الذي حدثته به كما حدثَ معَي. وحدثته عن المعتقلات الصحراوية في سيناء, وعن هروبي من غزة عام 1952 متسللا عبر « إسرئيل » إلى الأردن, وقد ظهرتْ ملامحُ واسعة عن طريقة هذا الهروب واحتراف العمل السياسي في روايته « ما تبقى لكم », ومسرحيته « الباب ». ولعلّ أبرز تأثّره بهذا القصص كان في روايته « رجال في الشمس », ذلك أنني رَويت له كيف دخلتُ الكويت, بصورة غير شرعية « تهريبًا », حيث أنني لم أكن أمتلك « فيزا » للدخول, وكانت الطريقة هي الاختباء داخل خزان فارغ لسيارة تنقل الماء « فنطاس ». ) وبدورنا, عند القراءة في الرواية ذاتها, نجد أنّ السائق, أبا الخيزران, هو صاحب الفكرة الجهنمية, المتمثلة في تهريب ثلاثة فلسطينيين من البصرة للكويت, في خزان مياه فارغ تحمله شاحنة مملوكة لرجل كويتي ثري يدعى الحاج رضا. هذه الفكرة الجهنمية أرادت, بقبول الثلاثة لها, أن تكونَ تَحايلاً من السائق الفلسطيني على الأمن, للحصول على النقود من خلال التهريب. وفي الوقت نفسه أرادت الفكرة أن تكونَ تحديًا و تحمّلا مشتركًا لجهنم الصحراء الملتهبة. لقد كان قبول الفكرة الجهنمية من الذوات المشتركة, في الهدف, بمثابة الإرادة أو الترياق في مواجهة جهنم ظروف وطقوس الصحراء. وبقدر ما كانت الفكرة نادرة وذكيّة كانت ماكرة لا تعطي الأمان الواسع. لذا, جاء مستوى المخاطرة أعلى واحتمال فشل العملية أقرب, في مثل ظروف الصحراء بوصفها واقعًا موضوعيّا وفنيّا بطيءَ التحوّل إلى خضرة وحياة, إن لم يكن مَعدومًا على مستوى المعنى! وقد بَقي التطمينُ الشخصي من السائق للثلاثة ؛ أقلّ مساهمة في إنقاذ حياتهم من الأخطار الغير متوقعة, على الرغم من ارتكازه على ما يحظى به بمعاملة وتسهيلات خاصة على نقاط التفتيش والعبور الحدودية. حيث إعتاد عناصر الأمن عليه, وكانت بينهم ممازحة ؛ فهو يعمل لدى الحاج رضا الشخصية المعروفة والمتمتّعة بعلاقات واسعة, وبالتالي تسهيلات له ولمن يعمل طرفه. لم يستطع أبو الخيزران أن يتدارك النهاية, ولا أنْ يُحوّلها, حيث فطس أسرى الإرادة المشتركة, الذين أجبروا على قبول خيار خزان مهجور, ظنّوا في دخوله مَخرجًا إلى الحياة. فسرعان ما تحوّل المَخرج مأزقـًا استطاعَ أن يقدّم للقارىء فرصة للمشاركة في تدارك الوضع بالاحتمالات والتمنى. غير أن كنفاني لم يكنْ, حقيقية, يطالب المشاركة في الحلول, كما يحدث في سلسلة الراويات التي تنتهي بألغاز ؛ بمقدار ما كان الراوي يطالب المتلقي بفهم عجزه, وعدم جدوى أي محاولة لتحويل النهاية من الموت إلى الحياة. وكيف للقارىء أن يعدّل في تحوّلات وصيرورات الخزّان من ناقل وحافظ للماء, إلى سجن طارىءٍ ومظلم وخانق للأرواح, ثم إلى برزخ من حديد صديء مظلم, قبل أن يذهب الشهداء إلى النوم الطويل في رمال الصحراء؟!! كيف له ذلك, كيف؟؟!!
مزحة من مزحات القدر الحاسمة: لقد قُـدّرَ للفكرة أنْ توفّرَ الأمان المؤقت, وذلك عندما اجتازت الشاحنة أول نقطة حراسة وهي مركز « المطلاع », وبعد مسافة محدّدة حَجبت المركز عن الأنظار، خَرَج أسعد ومروان وأبو القيس, من الخزان, أحياءً. وذلك تنفيذًا للخطة المعدّة لهم من قبل الراوي وأبي الخيزران. وبعد مسافة قليلة, أي قبل الوصول إلى النطقة الثانية, مخفر « صفوان », ومتابعة لتنفيذ خطوات الحطة ؛ عاد الثلاثة لتموتوا مؤقتا داخل الخزان. وإلى هذه اللحظة تبدو الفكرة نادرة وذكية وربانية ومأمونة العواقب وتقترب بالجميع من الهدف متمثلا في « ساحة الصفاة » وسط الكويت. إلى أن جاء التهديد المباشر من عرقلة بشرية, أرادها كنفاني على شكل مزحة من مَزحات القدر الحاسمة. لقد تَجسّد القدر, بالأحرى, في شخص الضابط أبي باقر, صاحب الفضول الجنسي والغريزة المستبدة بجسدِه, فبسببها أصرّ أسيرُ مخياليه الجنسي, على تأخير أبي الجيزران, المعلون, الذي يتأخر في البصرة لتطبيق كل ما يرد في مخيال ضابط الحدود, الذي لم يقدر على ضبط حدود نفسه. حيث طلب - بإصرارٍ وتشوق أعطاهما أسلوب الممازحة – أن يحكي له أبو الخيزران عن تفاصيل علاقته الجنسية مع عاهرة تدعى « كوكب » يعيش معها ألذ لحظاته, في البصرة, وفق ما يتصور مخيال الضابط. وهناك, خارج الغرفة المكيفة الباردة, يوجد في الخزان - الرطب الحارّ المدلهم - مَنْ هُم أسرى مِخيال السلامة والوصول ولقمة العيش! وكان السائق أبو الخيزران قد وَعَدَ شعبَ الفكرة وأسرى الخزان بأنّ إجراءات ختم الأوراق, في مركز « المطلاع » لن تستغرق أكثر من سبع دقائق ؛ على غرار الوقت الذي استغرقته إجراءات الجمرك والدخول, في مخفر « صفوان », والتي تمت بسرعة مذهلة لم تتجاوز الست دقائق, في حينه. كقراء, لقد فاجأنا في مركز « المطلاع » أن طلع علينا من ثنيات الرواية, ضابط فضوليّ ويتسّم بصفات الصحراء, حيث أخذ الطالع يكيل ماءَه, جنسيّا, بالمخيال. الأمر الذي أربك وأحرج أبو الخيزران, وأخرج وعد السرعة والفكرة من يده, تمامًا. بحيث لم يعد قادرًا على التحكم بمقود الفكرة! فضول الضابط الجنسي ورغبته بالاستماع إلى سالفة « كوكب » أثارت حفيظة القارىء الذي تَحصّل في النهاية على في موت ( أبو القيس وأسعد ومروان ) ؛ أكثر من إثارة الموت ذاته لها. وكانت أثيرت صدمة المتلقى, على نحو غير مسبوق, بعد أن تكشّفت حكاية الراقصة العاهرة « كوكب » عن محض كذبة كان نسجَها الحاج رضا لأصدقائه, ربما على سبيل المزاح, وربما لم يردها الحاج رضا فضيحة للرجل الفلسطيني الذي يعمل عنده ؛ بقدر ما كانت محاولة دعائية, من صاحب رأس المال, لإعادة الاعتبار للسائق الذي فقد رجولته في فلسطين, في إثر حادثة عسكرية, قبل الهروب منها! بعد أن تخلّصَ أبو خيزرانة من فضول وإصرار الضابط, أسرع, بعد تأخّرٍ زاد عن عشرين دقيقة, باتجاه السيارة, وصعد لفتح غطاء الخزان الثقيل والصدىء, أراد القول لهم أنه أتى ليحرّرهم أحياءً كما أوّل مرة, ولكنه أخرجهم, هذه المرة قبل الوصول الكويت بفاصلة منقوطة ؛ جثثـًا متخشّبة من سجن الماء الصدىء المظلم! ألقى بالجثث وأخذ من أصحابها الموتي ما تبقى معهم من نقود وأشياء شخصية بسيطة كساعة مروان. ولم يتبق له منهم شيئًا غير الحزن عليهم وهذا الخزان. أراد أن يكملَ الطريق وحده باتجاه الكويت, وحين وصل إلى باب السيارة رفع ساقـًا إلى فوق وتفجرت فكرة مفاجئة في رأسه.. بقي واقفًا متشنجًا في مكانه محاولا أن يفعل شيئًا, أو يقول شيئًا.. فكر أن يصيحَ إلا أنه ما لبث أن أحسّ بغياء الفكرة, حاول أن يكملَ صعودَه إلى السيارة ؛ إلا أنه لم يشعر بالقوة الكافية ليفعل.. لقد شعر َبأن رأسه على وشك أن تنفجر, وصعد كل التعب الذي كان يحسه فجأة, إلى رأسه وأخذ يَطنّ فيه. حتى أنه احتواه بين كتفيه وبدأ يشد شعره ليزيح الفكرة.. ولكنها كانت ماتزال هناك.. كبيرة داوية ضخمة لا تتزعزع ولا تتوارى, التفت إلى الوراء حيث ألقى الجثث, إلا أنه لم يرَ شيئًا, ولم تفلح النظرة تلك إلا بأن أوقدت الفكرة ضرامًا, فبدأتْ تشتعل في رأسه.. وفجأة لم يعد بوسعه أن يكبحها داخل رأسه أكثر فأسقط يديه إلى جنبيه, وحدق في العتمة وسع حدقتيه , انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه: « لماذ لم يدقوا جدران الخزّان؟... », دار حول نفسه ولكنه خشي أن يقع فصعد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود: « لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا؟ وفجأة بدأت الصحراء كلها تردّد الصدى: « لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ »!!. إنّ عدم القدرة على تحويل النهاية أرجعه كنفاني, بالأول والأساس, إلى الأسباب الكثيرة المتشاركة, بشكل أو بأخر, في صنعها. كما أنّ كنفاني نفسَه كانَ أسير الإحساس الخفيّ بداخله, حيث لم يستطع أن يأتي بالنهاية مفتوحة على إمكانية التحوّل. أو أن يدًا كـيد الاحتلال القاتلة لم تكن تقبل ببقاء غسان كنفاني إلا ذكرى تلوّح لها أيادي الأحبة والقرّاء والزملاء والرفاق والمعجبين جميعهم, عربًا ويهودًا ومسيحيين. | |
|