من وحي الذاكرة الجولانية
مدير المدرسة الثانوية حتى العام 1970، فصلته سلطات الاحتلال بعد اشتراكه في مظاهرة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، واعتقل في السجون الإسرائيلية، ليواصل نضاله ضد الاحتلال. أسعد الولي أحد الشخصيات الوطنية والاجتماعية، التي تركت بصماتها على واقع الحال السياسي في الجولان، منذ اليوم الأول للاحتلال.سألناه عن أحداث تلك الانتفاضة الشعبية، التي أفرزت واقعا جولانيا جديدا، على الصعيد المحلي والعربي والدولي .
(اجرى اللقاء أيمن ابو جبل ومهى منذر)
الانتفاضة الشعبية في الجولان والإضراب الكبير في شباط 1982 ،بعودة الى مجريات الاحداث، كيف تنظر الى هذه الانتفاضة؟
إذا كانت دول العالم قد عجزت فعلا على السيطرة على تعنت إسرائيل وغطرستها، فان إسرائيل اصطدمت بصلابة وموقف سكان الجولان العزل، وأرغمت متقهقرة أمام عنفوان الصمود الحقيقي الذي لم يعبأ بالأثقال والآلام، وحول الجولان إلى قلعة تحطمت حولها قرارات الدولة الإسرائيلية، وانهار أمامها التبجح بالعظمة والغرور والقدرة الخارقة على تذليل الصعاب. حتى ان قادتها اصيبوا بصدمة كبيرة نتيجة فشل مشروعهم، وأصيب معهم كل الذين راهنوا على سياسة القبضة الحديدية التي اتبعتها اسرائيل في الجولان، الامر الذي جعل إحدى الشخصيات الاسرائيلية " شلومو هيلل" يعلن: "ان هناك في الجولان مرضا سرطانيا يجب استئصاله، وحسم الامور هناك ليس بيد الحكم العسكري وانما بيد رجال الدين، فيجب استئصالهم والغاء تاثيرهم على مجريات الامور". وعن الجولان انذاك كتب مراسل صحيفة هارتس: "السكان في الجولان اصبحوا اكثر عنادا وتمسكا بوطنهم سوريا جراء تصرفات الحكومة الاسرائيلية معهم".
لقد بدأ مواطنو الجولان رفضهم لتشريع قانون ضم الجولان بإعلان إضراب احتجاجي في 15/12/1981، لمدة ثلاثة أيام، ألا إن رد حكام إسرائيل كان شديدا جدا، فقد أصدرت التعليمات بمداهمة البيوت واعتقال أربعة من رجالات الجولان بتهمة التحريض على العصيان المدني، وذلك نتيجة للقرار الذي اتخذه سكان الجولان بعدم دفع الضرائب أو قبول أي خدمات تعرضها سلطات الاحتلال، للتأكيد على رفض الوجود الإسرائيلي مدنيا وعسكريا. أثارت الحملة الإسرائيلية ردود فعل فورية، تجلت بالاجتماع الشعبي في خلوة مجدل شمس، والذي أعلن فيه الإضراب المفتوح والشامل حتى تستجيب سلطات الاحتلال لمطالب السكان العادلة والشرعية، وإعادة الأمور في الجولان المحتل إلى سابق عهدها قبل 14/12/1981.
ماذا كانت تلك المطالب؟
• رفض أي هوية مدنية إسرائيلية، وابقاء الهوية العسكرية بأيدي السكان، للتأكيد على أن الجولان منطقة سورية محتلة.
• الإفراج عن المعتقلين الإداريين.
• عدم المس أو التعرض للمتلكات الخاصة والعامة.
• معاملة سكان الجولان حسب المواثيق الدولية.
استحضار ا للماضي، نحن نعلم أن الحكومة الإسرائيلية رفضت تلك المطالب جملة وتفصيلا، وفرضت حصارا عسكريا شاملا على قرى الجولان، وحشدت اكثر من 16 ألف جندي إسرائيلي لقمع الانتفاضة الشعبية في الجولان، كيف واجهتم هذه القوات؟
نعم، لقد تجاهلت إسرائيل مطالبنا، وواصلت خطواتها التعسفية، ففرضت حصاراً عسكرياً شاملاً على قرى الجولان، ومنعت الدخول أو الخروج منها إلا بإذن من الحاكم العسكري ، أو لمن يقبل أن يتزود بهوية إسرائيلية مدنية، فأقيمت نقاط التفتيش على كافة الطرقات، ومنع إدخال ووصول المواد الغذائية والطبية إلى الجولان، وابتدأت حملة عسكرية جديدة في، بغرض إجبار السكان على استلام الهويات الإسرائيلية بالقوة. خلال الساعات الأولى من بدء الحملة تحدى السكان أوامر نظام منع التجول، وخرجوا إلى الشوارع والساحات، حيث استطاع السكان وفي مختلف القرى من تطويق قوات الجيش الإسرائيلي، وانتزاع قسما من اسلحة جنودها، ومحاصرة عدد من الجنود في الحارة الشرقية والغربية من مجدل شمس، وقد أشرف على هذه الحملة من الجو وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك ارئيل شارون، ورئيس هيئة الأركان الإسرائيلية رفائيل آيتان، وأمير دروري قائد القوات الإسرائيلية في المنطقة الشمالية، حيث اصدروا تعليماتهم بتفريق المتظاهرين واعادتهم إلى بيوتهم بالقوة، وهددوا بقصف المقر الديني على رؤوسهم في مجدل شمس، إن لم يتفرقوا. كان إطلاق الرصاص كثيفا جدا واصيب عدد من المواطنين وعدد من الجنود الإسرائيليين أيضاً. واستمرت معركة اليوم الأول حتى ساعات المساء.
بعد معركة اليوم الأول، التي حدثت في الأول من نيسان، باشرت القوات الإسرائيلية في محاصرة البيوت والمنازل، وتوزيع الهويات الإسرائيلية، برميها أمام المنازل بعد رفض السكان استلامها، هناك عشرات المعارك التي حصلت داخل البيوت، رافضة الانصياع لأوامر قوات جيش الاحتلال، حيث منع فتح الستائر أو النوافذ والأبواب، إلا بإذن، وضرب عشرات المواطنون من الشيوخ والنساء، وتم الاستيلاء على المدارس وحولت إلي مراكز اعتقال وتحقيق. وبقيت الهويات الإسرائيلية مرمية على الأرض وفي الشوارع، وفيما بعد أحرق قسم منها أمام عدسات التلفزة، وقسم أخر تم جمعه من الشوارع وارسل إلى الكنسيت الإسرائيلي كرسالة إلى الإسرائيليين بان شعب الجولان لا يبدل انتمائه.
حاولت إسرائيل وعلى الدوام، تشويه وطمس الحقائق في الجولان ،هل تستعرض ابرز الممارسات الإسرائيلية في الجولان السوري المحتل، التي مهدت إلى ضم الجولان والحاقة في إسرائيل؟
لقد سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، من حزب العمل وحتى الليكود على فرض الأمر الواقع على الأراضي العربية المحتلة، ومن ضمنها الجولان، بشكل تدريجي منذ بدء الاحتلال، تحت شعار الجولان جزء لا يتجزأ من إسرائيل، بعد انتقال السلطة إلى حزب الليكود الذي لم يعد يكتفي بالإجراءات الغير واضحة والهادئة، فعمد إلى تقديم وعودات إلى ناخبيه بضم الجولان، وبالفعل ابتدأت عملية الضم حين بدأت سلطات الاحتلال بفرض الهوية الإسرائيلية على السكان، ليتوفر لهذه الحكومة الزخم الإعلامي لدى الرأي العام العالمي. إلا إن مواطنو الجولان قرروا الرد بطريقتهم على المخطط الإسرائيلي، بإعلان الوثيقة الوطنية التي حدد فيها ا الانتماء الوطني والقومي، واتخذت فيها نقاطا اعتبرت دستورا ملزما للوطنيين السوريين في الجولان، ورفضت الخطوة الإسرائيلية جملة وتفصيلا، وتم التأكيد على ان الجولان ارض عربية سورية محتلة، ووقع عليها عدد كبير من مواطني القرى السورية الأربعة، تبعها توقيع شامل لكافة سكان الجولان كل قرية بقريتها حسب اللوائح العائلية. سلطات الاحتلال من جانبها عملت على الضغط على الموقعين لسحب تواقيعهم لكنها فشلت، بعدها اتخذ رجال الدين والشخصيات السياسية والاجتماعية الوطنية في الجولان قرارا بالحرمان الديني والاجتماعي على كل من يحمل الجنسية الإسرائيلية، وتضمن هذا الحرمان البنود التالية: إذا مات الشخص المعني فان أحدا لا يحضر جنازته ولا يصلى عليه. لا يشاركه الناس أفراحه واحزانه، ونبذه اجتماعيا. لا يزوره الناس ولا يقبلون زيارته. يمنع التعامل معه اقتصاديا. الوثيقة نبذت كل من يحاول تغير جنسيته العربية السورية، لانه يعتبر خائنا وخارجا عن المجتمع وتتوجب مقاطعته ومحاربته.
وتجربتنا مع اسرائيل طويلة ومريرة، لكن مواطني الجولان العزل، كانوا على قدر المسؤولية الوطنية والقومية الملقاة على عاتقهم، واجهوا كل الممارسات الاسرائيلية في الجولان المحتل، والتي اوجزها بالنقاط التالية :
مصادرة الأراضي واقامة المستوطنات. السيطرة على المياة الجوفية. فرض مجالس محلية عميلة. ربط الجولان بالكهرباء القطرية الإسرائيلية. فرض مناهج دراسية إسرائيلية على المدارس و"تدريزها"-معتمدة منهج الطائفية- جباية الضرائب التعسفية بشكل يخالف معاهدة جنيف الدولية. سد المنافذ أمام تسويق المحصول الزراعي. رفض إقامة مؤسسات خيرية لخدمة السكان. التدخل بالشؤون الدينية وفرض المجالس المذهبية الدرزية، وتعيين قضاة. منع اللقاءات العائلية على خط وقف إطلاق النار أو اقامة جسور مفتوحة بيننا وبين الوطن الام سوريا. ردم وهدم برك المياه الحيوية لري المزروعات. استخدام عقاب الاقامات الجبرية كوسيلة لقمع الوطنيين. عدم السماح للجان تقصي الحقائق الدولية من التقاء السكان، للاطلاع على حقيقة الأوضاع في الجولان. قطع الحليب والماء والكهرباء والمواد الغذائية عن السكان خلال الإضراب. إحراق وهدم وتخريب بعض بيوت ومنازل الوطنيين. الاعتداء على السكان بالضرب واطلاق الرصاص عليهم. تضليل الرأي العام بعدالة القضية الجولانية. اغلاق الأبواب العربية بوجهة السكان.
من اصدر تلك الوثيقة؟ ومن قاد معارك الإضراب؟
إن الموقف الوطني في الجولان لم يقتصر على فئة من الفئات، بل شمل جميع القطاعات والفئات، من رجال الدين إلى السياسيين، ومن الطفل إلى المرأة، ومن الصغير حتى الشيخ الكبير، حيث أن سالت أي شخص من الجولان من وراء هذا الموقف العظيم فيجيبك الجميع، بتواضع ليس لاحد دور اكبر من غيره، فالكل قدم واجبه، حيث تجلت الوحدة الوطنية بأروع صورها، واستطاعت فئة قليلة متماسكة لا يتجاوز تعدادها 13 ألف نسمة آنذاك، من هزيمة المخططات الإسرائيلية، الأمر الذي فشلت فيه دول كبرى "فكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة- صدق الله العظيم". نعم كل الناس كانوا قادة، كل الوطنيين كانوا قادة هذه الانتفاضة الشعبية الكبرى.
هل توفرت لمواطني الجولان إمكانيات وأشكال دعم، لمواجهة الحملة الإسرائيلية في الجولان المحتل؟
عانينا في الجولان، أثناء الحصار، من النقص الشديد بالمواد الغذائية والطبية، خاصة وان الإسرائيليين منعوا دخول المعونات التي قدمها لنا الأهل من فلسطين.
إننا في الجولان ندين بالشكر والتقدير لكل القوى التقدمية في إسرائيل وخارجها، التي عملت منذ اللحظة الأولى على دعم وقفتنا في مواجهة المخطط الرامي لطمس هويتنا العربية السورية. لا ننسى دور الأهل في فلسطين، في كفر كنا، وكفر ياسيف، والناصرة، والجليل، والضفة الغربية، والقدس المحتلة، ودور مشافي القدس التي فتحت أبوابها لاستقبال مرضانا وجرحانا، وكذلك القوى التقدمية اليهودية المحبة للسلام والمساواة، الذين وفروا لنا الدعم الإعلامي، ودور المحامين التقدمين من العرب واليهود، الذين وقفوا إلى جانب قضيتنا وخاصة المعتقلين، واخص بالذكر دور المحامين التقدميين: "فيليتسيا لانغر"، سليم واكيم، حسين أبو حسين، ليئا تسيمل، وآخرون، وجميع الوفود الأجنبية والعربية التي زارت خط وقف إطلاق النار للتضامن مع نضالنا، ونخص بالمحبة والتقدير شعبنا العربي السوري البطل على وقفته أمام مخططات إسرائيل العدوانية المتغطرسة.