لن ألقي سلاحي... شاعر من زمن الثورة
محمد عبد المجيد نجم
ُيُعتبر الشاعرُ هو الراصد والمُعبرّ عن تحركات عصره، والصوت الناطق باسمه، ولا سيما في القضية الفلسطينية العادلة والمنتقلة على أيدي الشعراء، جيلا بعد جيل، ونحن اليوم بصدد الحديث عن شاعر حرّك قلمه ليكون الوجدان النابض باسم شعبه.
ولد الشاعر في صفورية قضاء الناصرة في فلسطين سنة 1940، عرف وطنه عن قرب، فتنشق هواءه ولعب ملاعبه. شُرد كغيره من أبناء الشعب الفلسطيني تحت ضرب المدافع عن وطنه، فمن الجنوب اللبناني إلى بعلبك حتى حط به الترحال عام 1958 في مخيم البداوي شمال لبنان، حصل عام 1962 على الموحّدة السورية من مدينة دمشق، وزاول مهنة التدريس في مدارس الأونروا، وخلالها أنتسب إلى جامعة بيروت العربية، ونال إجازة في اللغة العربية وآدابها عام 1967.
عُرف بحبّه وتعلّقه الكبير باللغة العربية وهو القائل"كيف لا أعشقها وهي لغة القرءان". بدأت محاولاته الشعرية عام 1961، من خلال قصيدة" محنة الإنفصال"، نلاحظ وكأن نفس الشاعر أبت الخضوع والهوان فجاء صوته معبرّا عن محنة ألّمت بقطرين عربيين، فتحدث عن انفصال مصر وسوريا:
ركن العروبة أنت أمال الغد لا عاش يا مصرُ اللئيمُ المعتدي
لا عاش من خان المواثيق الأولى ترنو إليها العرب عند المقصدِ
فالركب سائرٌ والنهاية بالمطاف هي وحدة عربية للسؤددِ
عاش شاعرنا في حنين دائم إلى الماضي، إلى البلد المفقود، الذي كلما تذكّره تفتقت ذاكرته جراحاً لا تندمل ولا تُشفى إلا بعودته إلى وطنه الذي أبعد عنه ظلماً وجوراً، فنراه يقول في القصيدة ذاتها:
لا، لست أنساكِ فلسطين وإن أوصد الغدر لنا باباً فبابا
كيف أنساكِ وفي قلبي لظى وغداً يا أم نفديك الشبابا
أنا منك بلى وإليك عائد حقق الله مناي والإيابا
الشاعر الذي ولد في قريته "صفورية" وعرف كرومها وحدائقها مع أترابه، يُصاب بانشطار نفسي بين واقعه الذي يمثل له "اللاجئ" وبين بلده الذي خلّفه وراءه، ولا يستطيع أن يعود إليه، أو أن يفعل شيئاً سوى أن يعبّر بقلمه عن هذا الواقع:
عهدَ الصبا هل تذكرين ملاعب هل تذكرين صحابي الأترابا
أيام نلهو في خمائلنا وما كنا لنحسب للفِرق حسابا
ما كنت أنسى كرمتي وحدائقاً كم جُلتُ فيها لاهيا مجتابا
أو نبع قسطل في صفورية انجبلت منه دمائي فيها لاهياً مجتابا
ولنلقِ نظرة إلى هذه الأبيات المأخوذة من قصيدة "وسام الشعب" واصفاً حال الذين تخّلوا عن البندقية ولهثوا خلف "السلام".
قالوا: الروايةُ أُكمِلت بَطُلَ الكلام فلتمضِ توّاً نحو مؤتمر"السلام"
لا الحرب نربحها وإن طال المدى والصلح أجدى بعد أن طال الخصام
ولنجمع في مجلس الأمن الذي يسعى لإقرار السلام مع الأنام
يتميز أسلوبه هنا بالتقريع الإستفزازي الغاضب، واللوم والعتاب والأحكام القاسية، حيث ُيحمّل المسؤولية للحكام، وإنه غاضب ناقم على ما يجري حوله فيذوب قلبه حرقة ولوعة وأسى، وهو الثائر دوماً وأبداً، الرافض لكل معادلات "السلام" غير "المتوازنة"، والناقصة للركن الأساسي فيها وهو العدل. فالمسافة بين ما يعيشه ويراه وبين ما يرنو إليه ويتمناه مسافة كبيرة وهوة واسعة، وهذا ما يدفعه إلى طلب استفتاء للشعب.
قلت اسألوا الشعب الأبي فإنه رفض الهزيمة عندما حلّ الظلام
يا شهر يونيو ُعد فاذكر هبّة ً قامت تجلجل عندما كُشف اللثام
غطت بلاد العرب من أطرافها ومضت تعاهد ربّها بالانتقام
لا! لن تذلّ شعوبنا ببساطة فالشعب قد نال الوسام ولن يُضام
توفرت للشاعر الجرأة والشجاعة في قول كل ما يريده دون خوف، فيعود مرة أخرى ناقما ومستهزئا بمن صنعوا الهزيمة. وإذا أمعنّا النظر والملاحظة في هذه الأبيات، فإننا نكتشف بأن قوة الدفق الشعري وغزارته عند نجم تجعل الكلمات والألفاظ والجمل تنساب أحيانا انسياباً متلاحقاً وعفوياً.
قُل لأصحاب الجريمة قل لمن صنعوا الهزيمة
قل لمن هانوا وخانوا ورأوا السلم غنيمة
أنا من شعب أبيٍّ خاض ثورات عظيمة
أنا سلني، أمتي غراءُ ما هانت كريمة
أنا لن ألقي سلاحي وعلى أرضي جريمة
أنا ماض ٍ في كفاحي نحو أهدافي القويمة
وكأن نفس الشاعر عصيّة على نسيان نكبة ألّمت به، وسلبته موطناً لن ينساه مادام حيّاً، فيقول في قصيدة "بان الطريق"
أيار ذكراك في قلبي تؤرقني نار وتحرقني لا لستُ أنتحِبُ
أيار والنار لا أنساهما أبداً لن يُرجع الدار إلا النار والغضبٌ
لم تقتصر أشعاره على الشعر السياسي والوطني، بل تجاوزته إلى حدود أخرى، فالشاعر قد أيقن أن الرياضة مهمة جداً لتربية جسم الإنسان، ففيها ينمو الجسم ويصبح قوياً. لذلك شجّع الشباب في قصيدته "الرياضة" على ممارسة الرياضة والانتساب إلى الأندية الرياضية، لأنها تصون النفس من الغضب، وهي بحسب رأيه أدب.
قالوا الرياضة لهو قلت لا وأبي فما الرياضة إن ُعدت سوى أدبِ
بها النفوس ُتربّى خير تربية والجسم ينمو قوياً ثابت الرّكبِ
لها منافع شتّى لا يقدّرها سوى الرياضي في نادٍ وفي لعبِ
روحٌ رياضية صانت شبيبتنا عند التنافس عن غيٍّ وعن غضبِ
وقد تغزّل الشاعر بالملوخية:
إن الملوخية الخضراء قد لبّست ثوب الزفاف إذا ترنو محياها
فاقت بزينتها كلّ النبات فما يهوى الأنام سواها يوم جلواها
يكفيها شرفاً أن الملوك لهم في حبها شغف فالكل يهواها
إنى وإن عشت دهراً سوف أذكرها مهما نسيت فإني لست أنساها
وقال في العدس:
إن ضاقت عيشك فاطبخ شوربا العدسِ واشكر إلهك في صبح وفي الغلسِ
لُقب نجمنا "بالشاعر" وعُرف به داخل المخيم الذي احتضنه وعاش بين حواريه وزواريبه الضيقة، وما تزال ذكراه تتداولها الألسن داخل مخيم البداوي وعلى شفاه كل من عرفه وعاصره حتى اليوم. سخّر الشاعر كلمته في سبيل بلاده مدافعاً عنها حتى الرمق الأخير، وفي 25 من نيسان 1986، رحل عنا مخلفا شعره على صفحات الزمن.