مروان البرغوثي ألف يوم في الزنزانة
رشاد أبوشاور
عصر يوم 15 نيسان/ابريل 2002، شاهد العالم على شاشات الفضائيات المناضل الفلسطيني مروان البرغوثي، عضو المجلس التشريعي المنتخب، وأحد ابرز قادة حركة فتح، مقيدا بالأصفاد، ومحاطا بعشرات الجنود، بعد إلقاء القبض عليه، ثمّ وهم يدفعون به إلى جوف سيارة عسكرية تمضي به إلى غياهب السجون التي كان قد خبرها من قبل، عندما كان طالبا جامعيا في جامعة النجاح.
شاهدنا بعدئذ مروان البرغوثي في لقطات مبتورة، وهو يدخل قاعة (المحكمة) رافعا يديه بالقيود وعلى وجهه ابتسامة ثقة متحدية.
ماذا جرى مع مروان في السجن، في الزنزانة، في ساعات التحقيق الطويلة بين أيدي العنصريين الصهاينة؟!
في كتاب يقع في 255 صفحة، معنون بـ: ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي، نقل جوانب لا يعرفها إلاّ من عاش تجربة السجون الصهيونية، والتحقيق، والعزل الانفرادي، وحقارة المحققين وعنصريتهم، وأساليبهم الدنيئة في ابتزاز الأسرى الفلسطينيين، وعرّفنا بمدى صلابة الأسرى الفلسطينيين، وذكّرنا بصبر وعناد وكبرياء وبسالة كثيرين منهم، مضى على أسرهم أكثر من ثلاثين عاما، هم المحكومون بمؤبدات تصل إلى مئات السنين، يتقدمهم: فخري البرغوثي، ونائل البرغوثي، المحكومان بالمؤبد، منذ العام 1978..وهو ما يعني أنهما وراء القضبان منذ 33 سنة، وهو ما يعادل عمر السيّد المسيح عند صلبه، وما يفوق سنين سجن البطل نيلسون مانديلا!
هذا الكتاب أتمنّى أن يقرأه كل فلسطيني وفلسطينية، وكل عربي وعربيّة، ليتعرفوا على عقلية العدو الصهيوني، وليأخذوا منه العبر، ويتسلحوا بوعي إضافي، إذ لا يكفي أن نقرأ تاريخ الحركة الصهيونية لندينها، فأساليبها وممارساتها، ولا سيما بعد احتلال فلسطين، في التعامل مع شعب فلسطين، هي التي تضع أيديولوجيتها عارية، ليس أمامنا وحدنا كعرب، ولكن أمام ملايين البشر في العالم.
لا يُنظّر مروان البرغوثي، فهو يواجه المحتل عاريا، بالمعنى الحقيقي، فضباط الاحتلال سبق وعرّوه عند اعتقاله في المرّة الأولى، قبل 25 سنة عندما كان طالبا جامعيا، و..باغته أحدهم بركلة بين فخذيه، فأغمي عليه، وارتطم رأسه بالجدار، وهو ما ترك ندبة في جبينه، وكان الهدف من تلك الركلة أن يفقد قدرته على الإنجاب..أترون؟ هذه هي الصهيونية.
وهو بين أيديهم من جديد يتمنّى مروان أن يرى ذلك الضابط الذي ضربه بين فخذيه: الآن، في هذه اللحظة كنت أتمنّى رؤية المحقق (سامي)، أقول له: إن ابني قسّام صار رجلاً، حمل الراية والفكرة، كما هو حال آلاف الشبان المناضلين. لم تمت الفكرة، وفلسطين ليست بعاقر كما توهمتم. (ص21)
اعتقل مروان البرغوثي في أوج انتفاضة (الأقصى)، وكان عرفات ما زال حيّا، والمقاطعة محاصرة، وبعضها قد هدّم، والعمليات العسكرية ضد الاحتلال متصاعدة، وكان لا بدّ من إخماد الانتفاضة، والبطش بمحركي كتائب الأقصى، واختيار مروان كان بهدف توجيه ضربة قاصمة للانتفاضة، والقضاء على كتائب الأقصى الذراع العسكرية المقاومة التابعة لحركة لفتح.
هدف العدو إلى كسر إرادة وصلابة مروان، وهو ما يمارسه باستمرار مع كافة مناضلي ومناضلات شعبنا، ومروان، وهذه ميزة الكتابة، نقل إلينا ما تعرّض له، ليس فقط برهانا على صلابته، وهو كذلك، ولكن ليتعرف بنات وأبناء شعبنا الذين يقعون بين براثن أجهزة الاحتلال على أساليبه في التعذيب البدني، والنفسي، ومحاولات الاختراق بزرع عملاء وجواسيس وساقطين اختاروا التعاون بعد أن انهاروا، أو لضعف في النفوس والأخلاق.
يصف مروان كل أساليب التعذيب: من شبح، وضرب على الأعضاء التناسلية، وشتم بذيء وحقير على الأخت والأم، والتعذيب على الكرسي، الإضاءة القوية داخل الزنزانة، والتجويع حتى حافة الموت، وإحباط المعنويات، والمواجهة بالوثائق التي تقع في (أيديهم)، واعترافات مناضلين وهنت عزائمهم تحت التعذيب، واختراقات العملاء داخل السجن ولصفوف التنظيم.
ينقل مروان في كتابه الغني بالتجربة والمعرفة المباشرة (رؤية) العدو للعرب كبشر، وهو ما يتجلّى في (خطاب) المحققين الذين يحاولون الحطّ من قيمة العرب بهدف زعزعة روح الانتماء لدى السجناء العرب: العرب ليسوا أكثر من أصفار في هذا الكون، وهم يعانون من تخلّف عقلي.
يكتب مروان: في إحدى تلك الليالي والأيام الطويلة التي من الصعب أن يعرف المرء فيها إن كان قد بدأ الليل أم النهار، حيث لا وجود للنوافذ أو الشبابيك، ..وكأنني داخل صندوق محكم الإغلاق، جاء أحد المحققين الكبار صاحب خبرة تزيد على ثلاثة عقود في جهاز المخابرات، وبدأ بقراءة كتاب ألفه الكاتب الأمريكي من أصل لبناني فؤاد العجمي، ينتقد فيه العرب بشدّة، وينعتهم بأقبح النعوت، والكتاب مترجم للعبرية!
بماذا يختلف رأي فؤاد عجمي هذا عن رأي المأفون عوفاديا يوسف، الذي حكم على العرب بأنهم صراصير وقمل وجرذان و..يستحقون الموت!
بعض الفصول في الكتاب، تكفي عناوينها، مثل: أقطع يدي ولا أكتب اعترافا..وهذا خلاصة تجربة طويلة في مراحل التحقيق الثلاث، قامت على أساس قرار نهائي قاطع: عدم التعاون في التحقيق، وعد الإدلاء بأي معلومات مهما كانت، والتصميم على تحمل العذاب بما في ذلك الاستشهاد. (ص52)
ومن العناوين: النصر صبر ساعة، والخلاصة: على المناضل المعتقل أن يشعر بالعزّة والكرامة، وأن يتغلّب على مشاعره وعواطفه، بسبب بعده عن أهله وأمه وأبيه وزوجته وأبنائه وأشقائه وأصدقائه وأصحابه. على المناضل أن يتغلّب بكل كبرياء على محاولات الإذلال والقهر والإهانة، وأن يدرك أن الذي أمامه عدو قاتل للأطفال والنساء، وألآّ يشعر بالضعف بسبب الإهانة حتى لو بصق عليه المحقق. على المناضل أن يدرك أنه في مهمة نضالية ووطنية مقدسة، ومن واجبه المحافظة بروحه ودمه وجسده على ما يحمله ويعرفه من معلومات ونشاط إخوانه وزملائه ورفاق دربه، وأنه ليس من حقه تقديم المعلومات والإدلاء منها بما لديه.(ص57)
هذه بعض الوصايا والتعليمات من مناضل دفع ثمنها عذابا جسديا ونفسيا، فانتصاره على رغباته، وحاجاته للطعام، والسجائر، والشاي والقهوة، والابتعاد عن طلب أي شيء من السجّان يضعه في موقع القوي، وينصره على عدو متوحش عديم الإنسانية.
هذا الكتاب منجم معرفة، وخبرات، يخرج من داخل السجن حاملاً روح صاحبه، معليا من عظمة صمود الأسرى والأسيرات من أبناء وبنات شعبنا، وانتصارهم على سجّانيهم، انتصار الروح العربيّة (الفلسطينيّة) على (الصهيونيّة) الأحط من النازية، والفاشية، ونظام الميز العنصري في جنوب أفريقيا.
الجانب الإنساني الحميم لا يغيب، رغم قسوة الزنزانة، وربما بسببها، وهو يتجلّى في الرسالة الطويلة التي يوجهها مروان لابنه القسّام، الذي أخذ يشاركه النضال والسجن: باختصار، لقد تعرفت على والدتك، زوجتي، وحبيبتي ورفيقة دربي، وهي في المدرسة الإعدادية، ولا أخفيك أنني كنت أزداد إعجابا بها يوما بعد يوم، فقد كانت تلميذة جميلة جدا، وتلبس مريولاً أخضر وشبرة بيضاء، وجهها كالقمر، وعيناها الخضراوان تجعلانها كاللبوءة، وشعرها هو الأطول بين مئات الطالبات ..( ص180)
أمّا الزوجة ـ الحبيبة، فهي المحامية المناضلة فدوى البرغوثي.
قدّم للكتاب الشاعر والإعلامي اللبناني زاهي وهبي، الذي أُسر في معتقل (أنصار) عام 1982، والذي اهتم بشرف بقضية الأسرى الفلسطينيين، وركّز على معاناة مروان البرغوثي، وأشرف على إعداده للطباعة والصدور هذا العام 2011 في بيروت، عن منشورات الدار العربيّة للعلوم (ناشرون).