عيتا: سرّ التردّد البرّي
انطلقت عملية الأسر التي نفذها حزب الله في 12 تموز 2006 من بلدة عيتا الشعب. وعند بدء العملية، قدّرت الاستخبارات الإسرائيلية أن 30 مجموعة لا تضمّ أكثر من 200 مقاتل كانت تعمل في القرية، وهي مجهّزة بصواريخ مضادّة للدروع وقاذفات «آر بي جي» ووحدات استطلاع. كذلك، كان في القرية 25 خبيراً في الصواريخ المضادّة للدروع بينما انتمى بقية المقاتلين إلى القوّات الخاصة. خلال الـ96 ساعة الأولى، هاجم جيش الإحتلال الصهيوني الطرقات وأهدافاً في أطراف البلدة. طغى القصف الجوي والمدفعي طوال شهر تموز. في صباح 1 آب 2006، قتل ضابط إسرائيلي وجنديان من الكتيبة 101 التابعة لسلاح المظليين وأصيب 25 جندياً آخر بجروح معظمهم بصواريخ مضادة للدروع.
في 13 آب، قتل 4 جنود إسرائيليّين وأصيب 14 بجروح في هجوم صاروخي آخر بواسطة صاروخ مضاد للدروع استهدف وحدة مشاة في تلة «أبو طويل» شمالي عيتا الشعب.
كانت مواجهات عيتا، بحسب دراسة صادرة عن جامعة سلاح الجو الأميركي، من أبرز العوامل المؤثّرة في القرار الاسرائيلي المتردّد بعدم زجّ سلاح البرّ في الحرب.
تابع الجيش الأميركي معارك تموز 2006 عن كثب. وفي حين سجلت اسرائيل جدلا في تقييم الحرب، فإن المؤسسة العسكرية الأميركية لم تشهد سجالا ملحوظا عند استخلاص العبر. "تم القاء القبض علينا غير مستعدين"؛ عنوان احد اهم الدراسات الأميركية، الصادرة عن معهد الدراسات العسكرية في حصن "ليفنوورث" في ولاية كنساس، حول الحرب البرية في تموز.
وفقا لنظريته في القتال، لم يكن لدى رئيس الأركان في الجيش الاسرائيلي اللواء دان حالوتس اي نية لتنفيذ خطة اجتياح بري.
ولكن بعد الحاح من قادة الجيش توصل حالوتس وجنرالاته الى اتفاق للقيام بحملات برية محدودة.
لم يكن هدف هذه الحملات تدمير حزب الله او صواريخه بل عملية خداع لمحاولة استدراج نصر في الوعي الاسرائيلي وتجنب الهزيمة في الادراك لدى الجنود الاسرائيليين. لقد تبين لاحقا أن هذه الخطوة كانت بلا طائل. لم تكن الطلعات الجوية لتدمر صواريخ حزب الله كما هو الحال بالنسبة للحملة البرية.
بحسب قائد اسرائيلي رفيع المستوى "لم يكن هناك معنى على الاطلاق لهذه الخطوة. اما ان تقوم باحتلال كامل منطقة اطلاق الصواريخ او لا تفعل".
في السابع عشر من تموز، بدأت اولى ارهاصات الهجوم البري الاسرائيلي الواسع قرب مارون الراس. احدى وحدات النخبة المشاركة في المعركة كانت وحدة "ماجلان" الأكثر تجانسا بين القوات الخاصة الاسرائيلية. فوجئت هذه القوة بغزارة النيران وصلابة مقاتلي حزب الله.
صباح اليوم التالي، كانت القوة محاصرة. في قيادة المنطقة الشمالية، كان "اودي ادم" غير قادر على تصديق ان إحدى افضل الوحدات في قواته وقعت في الفخ.
بدوره تسائل حالوتس "ماذا يجري مع ماجلان؟".
أجاب ادامز " انهم محاصرون"، قبل أن يضيف " يجب أن ارسل المزيد من القوات".
انطلاقا من الخنادق والانفاق، كان مقاتلو حزب الله في مارون الراس ومحيطها يقاتلون بشراسة. ومع اشتداد المعركة، اجبر الجيش الاسرائيلي على زج المزيد من القوات. سرعان ما دخلت الدبابات المرافقة لثلاث الوية فضلا عن وحدة "ايغوز" التابعة للواء "غولاني" وكتيبة هندسة ولواء مظليين.
في 19 تموز، قتل صاروخ مضادر للدروع أطلقه حزب الله خمسة جنود من "ايغوز" بينما كانوا يختبئون في منزل. في الوقت نفسه، اصيبت عدة دبابات بصواريخ من طراز "ساغر" المضاد للدروع ما ادى الى اصابة العديد من الجنود.
لم يقاتل حزب الله كما كنا نظن أنه سيفعل. قال احد الجنود.
أربكت تكتيكات حزب الله الجيش الاسرائيلي.
وفي حين يلف الغموض الكثير من المشاكل في اداء الجيش الاسرائيلي في مارون الراس، فقد أطلق الجنود والضباط انتقادات حول التكتيك والاصابات.
منذ اللحظات الاولى للمعركة، اشارت التقارير الميدانية الى اصابات كثيرة في صفوف الجيش الاسرائيلي ما سبب قلقا لدى الضباط. كذلك اظهرت التقارير نقصا في الكفاءات والمهارات الاساسية. ذلك ان سنوات القتال ضد الفلسطينيين لم تطور كفاءة القوات الاسرائيلية.
استدعى اولمرت وحالوتس الاحتياط، بعد تفاجؤهم بعناد حزب الله في مارون الراس وعدم فعالية الحملة الجوية، في 21 تموز. تمت عملية استدعاء الاحتياط بشكل فوضوي، في حين كان الدعم اللوجستي متأخرا نحو 48 ساعة عمل عن انتشار الاحتياط.
وعلى عكس مما كان يظنه الكثيرون، لم يكن الهدف من استدعاء الاحتياط دعم القوات النظامية في اجتياح بري لجنوب لبنان. حتى تلك اللحظة، كانت خطة حالوتس لا تزال هي نفسها: لم تكن هناك نية أصلا لإرجاع حزب الله الى ما وراء نهر الليطاني. وقف قادة البر مذهولين يتساءلون عن الأهداف الحقيقية للحرب.
في اليوم الذي استدعي فيه الاحتياط، اضطرت اسرائيل الى طلب ذخائر اضافية من الصواريخ الموجهة من الولايات المتحدة. لقد استخدمت اسرائيل، في غضون عشرة أيام، معظم مخزونها من الذخائر، ومع ذلك لم يغير هذا الأمر في "المنطق العسكري" لحزب الله أو في قدراته القتالية.
في هذه الأثناء، كان الموساد يسرب معلومات الى الصحافة في 28 تموز تفيد بأن "حزب الله لم يعاني من أي اضرار ملحوظة في قدراته العسكرية، وأن المنظمة قادرة على خوض حرب لأشهر طويلة".
أما حالوتس "الخائب" بسبب فشل الحملة الجوية ومقاومة حزب الله واصل جهوده لتأمين "نصر في الوعي الاسرائيلي".
بحلول الرابع والعشرين من تموز، كان عناصر من لواء "غولاني" والكتيبة السابعة المدرعة يتخذون مواقع حول بنت جبيل. وفي الخامس والعشرين من تموز، بدأت كتيبة المظليين الخامسة والثلاثين بالتحرك شمال غرب البلدة محاولة اتخاذ مواقع رادعة.
في اليوم نفسه، أعلن قائد الفرقة 91 غال هيرش أن قواته سيطرت على بنت جبيل. ولكن هذا الإعلان لم يكن صحيحا.
ومع استمرار حزب الله في قصف اسرائيل بالصواريخ، أعطى حالوتس أوامره لقائد المنطقة الشمالية "اودي ادم" لمهاجمة البلدة.
أراد حالوتس التأثير على إدراك حزب الله من خلال استهداف رمزية البلدة حيث ألقى السيد حسن نصر الله خطابه الشهير عام 2000.
ولكن في النهاية، القت معركة بنت جبيل بثقلها على الوعي لدى الرأي العام الاسرائيلي لناحية التشكيك بحرفية الجيش الاسرائيلي.
اعطى حالوتس أوامره لـ"غزو بنت جبيل" بكتيبة واحدة فقط.
في السادس والعشرين من تموز، وبعد قصف مدفعي عنيف للبلدة، تحركت الكتيبة 51 في لواء "غولاني" باتجاه البلدة من الشرق. في هذه الأثناء، كان حزب الله يزج بمزيد من المقاتلين في المنطقة. لم تكن هذه هي المرة الأخيرة التي استطاعت فيها استخبارات حزب الله تقدير خطوات الجيش الاسرائيلي.
عند الساعة الخامسة والنصف من صباح ذلك اليوم، تقدمت المجموعة الأولى والثالثة من الكتيبة الاسرائيلية باتجاه ما بدا انه مخزن لأسلحة حزب الله. احد الجنود الاسرائيليين وصف ما جرى بعدها بأنه "كمين في الجحيم" اثر الاشتباكات التي دارت. في النتيجة، اصيب 30 عنصرا من المجموعة الثالثة، اي ما يوازي ثلث قوة المجموعة، من بينهم نائب قائد الكتيبة روي كلاين. كذلك، اصيب خمسة جنود من المجموعة الأولى.
استمرت المجموعتان الاسرائيليتان "في مقاومة" نيران حزب الله الكثيفة. أحد الشهود العيان وصف الفوضى في مركز قيادة الكتيبة مشيرا الى أن كبار الضباط كانوا يركضون في ارجاء المركز، حاملين خرائط وأجهزتهم الخلوية، في محاولة لتنسيق جهود سحب الجرحى والقتلى.
وفي لحظة ما، أبلغ غال هيرش رئيس الاركان دان حالوتس بما يلي: "لا يمكننا انزال المروحيات لسحب الجنود، المعركة عنيفة". حتى اليوم الأخير من الحرب لم يستطع الجيش الاسرائيلي تأمين بنت جبيل بالكامل.
ولكن مع ذلك، ظل حالوتس، خلال الحرب، مقتنعا بصحة نظريته. في الأيام الاخيرة من شهر تموز، اختار حالوتس تنفيذ استراتيجية " الدخول والانسحاب". شكك جنرالات هيئة الاركان بصواب هذه الخطة، حتى ان اللواء عيدو ناخوشتان ( قائد سلاح الجو حاليا) نصح حالوتس قائلا أنه من دون حملة برية لن يكون الجيش الاسرائيلي قادرا على وقف صواريخ الكاتيوشا، وتابع ناخوشتان " يجب ان تخبر الحكومة بذلك، واذا لم يوافقوا عليهم ايقاف الحرب حالا".
بالرغم من كل شيء، كان الجيش الاسرائيلي، بحلول الأول من آب، يقود عمليات صغيرة في جنوب لبنان. في ذلك اليوم، اعلن الجيش أن فرقة الهندسة والمدرعات اتخذت مواقع لها في محيط قرى ميس الجبل ومحيبيب وبليدا. كما عزز الجيش قواته في الطيبة والعديسة ورب تلاثين وعيتا الشعب ومارون الراس وبنت جبيل.
اختصر المسؤول السابق للقوات الدولية تيمور غوكسيل المشهد بالقول " في العام 1982 استطاع الجيش الاسرائيلي الوصول الى بيروت، اليوم هو لا يستطيع التقدم بضعة كيلومترات".
الاحتياط
بدت هشاشة القوات البرية الاسرائيلية جلية مع استدعاء الاحتياط الى الحدود. أفاد مصدر شديد الموثوقية بما يلي:" علم قادة حزب الله الميدانيين أن القوات الاسرائيلية ضعيفة التجهيز والتنظيم حتى في صفوف الوية النخبة. كان وضع الإحتياط اسوأ وتردد قادة اسرائيل كثيرا في زجهم في المعركة".
أحد الجنود الاحتياط في لواء مدرعات أبلغ مراسل أجنبي أنه " في السنوات الست الماضية، خضعت لتدريب لمدة أسبوع واحد فقط. والنتيجة كانت أننا غير جاهزين لمواجهة مقاتلين حقيقيين كمقاتلي حزب الله".
أحد فصائل المظليين، الذي يضم 30 جنديا اسرائيليا، كان يملك قبضتين اثنتين فقط من صواريخ "لاو" المضادة للدروع. كما ان معظم جنود الاحتياط كانوا يعانون من نقص في البزات المقاومة للرصاص وحاجيات الطبابة والذخيرة ومعدات الرؤية الليلية، فضلا عن مياه الشرب والغذاء. حتى ان جنود لواء "الكساندروني"، وهو احد الوية النخبة، عانوا بشدة من الجفاف في أجسامهم بسبب النقص في الغذاء والمياه، ما ادى الى عرقلة مهمتهم.
بالاضافة الى ذلك، عانى الاحتياط من قصور في التدريب. العميد ايريز زاكرمان، الذي قاد كتيبة مدرعات من الاحتياط، أمضى حياته المهنية في البحرية، ولم يتلق ابدا تدريبات على استخدام الدبابات أو القوات المؤللة. أما العميد ايال ايزنبرغ فقد تعرض لـ"توبيخ شديد" بسبب ادائه الفاقد للكفاءة التكتيكية.
في النتيجة، وبعد ثلاثة أسابيع من الحرب، لم تقدر القوات البرية على التقدم أكثر من أربعة أميال، وبقيت المنطقة الحدودية غير آمنة، كما هو حال قريتي مارون الراس وبنت جبيل.
على الرغم من ذلك، تألفت مجمل قوة حزب الله جنوب الليطاني من 3 الاف مقاتل فقط. حتى ان الحزب لم يضطر الى استدعاء احتياطيه طوال الحرب.
بحلول 8 آب 2006، كان قد قُتل 61 جنديا اسرائيليا، في حين زعم الجيش الاسرائيلي أن 450 عنصرا من حزب الله قد قُتلوا. إن هذا الرقم الأخير فيه الكثير من المبالغة، ذلك ان حزب الله فقد ما يقارب 184 مقاتلا في الحرب كلها.
في الحادي عشر من آب، أصدر مجلس الأمن القرار 1701 بهدف تطبيق وقف إطلاق النار "بأسرع وقت ممكن". كانت الأيام الأخيرة من الحرب أشدها غرابة، اذ أعطى اولمرت ووزير دفاعه عامير بيريتس الأوامر للقوات بالتقدم شمال الليطاني. وفي حين لا يزال سبب هذه المناورة مشوشا، فهي بالتأكيد لم تكن تهدف لـ"تدمير" حزب الله. بدا ان الجيش الاسرائيلي لا يزال يتبع استراتيجية حالوتس في القتال.
بحلول 11 آب 2006، بدأت كتيبة من احتياط القوات المنقولة جوا، بقيادة العميد ايال ايزنبرغ، بالتحرك شمالا باتجاه قريتي "دبل" و"قانا". فجأة، أصاب صاروخين مضادين للدروع منزلا كان يعج بأكثر من 50 مظليا اسرائيليا في "دبل"، بناءً على اوامر ايزنبرغ نفسه. قتل الهجوم تسعة جنود وأدى الى اصابة 31 اخرين.
ومع دخول قرار وقف اطلاق النار حيز التنفيذ، تحركت كتيبة العميد "غال هيرش" بموازاة الخط الساحلي غربا انطلاقا من شمال بنت جبيل، حيث كانت مقاتلو حزب الله لا يزالون صامدين.أسفرت هذه الخطوة عن حالة من الفوضى شبيهة بما حصل في مارون الراس وبنت جبيل مطلع الحرب.
في هذا السياق، أظهر تحقيق حكومي اسرائيل خللا فادحا في المهنية في اداء الكتائب. استنتج التحقيق أن قادة الكتائب لم يتواجدوا مع قواتهم خلال المعارك وفشلوا في فهم اوامر القيادة العليا. كذلك أشار التحقيق الى أن النقص في التدريب أدى الى الفشل في كثير من المواقع.
بحسب مصدر اسرائيلي موثوق، من بين 11 قائد كتيبة، نجح واحد فقط في اجتياز الحدود مع حلول نهاية الحرب.
نقلا عن عرب تايمز