قراءة في مشهد عمليّة التّبادل
بقلم: صلاح حميدة
لا يمكن أن تمرّ عمليّة تبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينيّة ودولة الاحتلال دون قراءة مستفيضة لفصولها ومشاهدها، وأولى هذه المشاهد كان مشهد الفرح، الّذي كان المشهد العام في الشّارع الفلسطيني، وأثبت الشّعب الفلسطيني أنّه شعب وفيّ لأسراه، وكرّمهم بصورة قلّ نظيرها في تاريخ القضيّة، وحظي هؤلاء المحرّرون بكمّ كبير من الحب والعرفان من الصّغير والكبير، فالّذين خرجوا في المرحلة الأولى من عمليّة التّبادل من أصحاب الأحكام المؤبّدة، و إخراج هؤلاء من السّجن يعتبر عمليّة إنقاذ لهم من حكم إعدام بطيء، وللمرء أن يتصوّر كيف يكون شعور من يقضي عشرات السّنوات في السّجون بانتظار الموت، ثم تأتيه فرصة نادرة للخروج وتنسّم هواء الحرّيّة، و هذه معادلة لا يمكن لأيّ كان أن يشكّك في فاعليّتها وأهمّيّتها مهما كانت المبرّرات.
مشهد العزّة، الّذي شعر به المحرّرون وأهاليهم وقادة الشّعب الفلسطيني والجمهور الفلسطيني العادي، فالمحرّرون خرجوا بنفسيّات تلامس عنان السّماء، كان الفخار يصبغ كل حركة وكل كلمة وكل بسمة تخرج منهم، فقد شعروا أنّ هناك من يهتم بتحريرهم، فالأسير لا يرغب إلا بالحرّيّة، وهو مقاتل من أجل الحرّيّة، وعندما يرى أنّ شعبه لم ينسه وأخرجه من الأسر، فكيف نستطيع وصف تلك المشاعر؟ وكيف كان وقع كلمات الشّيخ أحمد ياسين " بدنا ولادنا يروّحوا غصباً عنهم" على من يسمعها؟ كل متابع لاحظ أنّ ملامح العزّة والفخار كانت بادية على غالبية أفراد الشّعب الفلسطيني.
مشهد التّواضع والوحدة، كان لافتاً أنّ حركة "حماس" لم تستغلّ عمليّة التّبادل لتحقيق مآرب حزبيّة ضيّقة، فلأول مرّة منذ توقيع اتفاقيّة أوسلو يخرج أسرى من كافّة الفصائل الفلسطينيّة ومن المستقلّين في عمليّة تحرير للأسرى، ولأوّل مرة يخرج أصحاب المؤبّدات الّذين نفّذوا عمليّات كبيرة وبأعداد غفيرة، وبالتّرافق مع هذا الإنجاز عملت حركة "حماس" على جعل المشهد الاحتفالي بالإفراج عن الأسرى مشهداً يعكس الألوان السّياسيّة المختلفة – باقة زهور- للشّارع الفلسطيني، وحرصت قياداتها على الاحتفال بمشاركة من قيادات الشّعب الفلسطيني في رام الله وغزّة، ولأول مرة منذ سنوات كسرت حواجز كثيرة بين جماهير ألوان الطّيف الوطني المختلفة، وإن تمّ البناء على هذه الحالة بمسؤوليّة فسيتمّ تحقيق وتطبيق المصالحة الفلسطينيّة على أرض الواقع بسرعة كبيرة.
مشهد الذّل والخزي، بمقارنة بسيطة بين تعابير وجوه وكلام قادة الاحتلال وناطقي الدّولة العبريّة الإعلاميين قبل عمليّة التّبادل وخلالها وبعدها، يظهر بشكل واضح من هو المنتصر ومن هو المنهزم في هذه العمليّة، وبالرّغم من لجوء قادة الاحتلال للتّبرير والإنشاء لتسويق موقفهم لجمهورهم، إلا أنّ الحقائق على الأرض تتحدّث بلغة أخرى تتعلّق بالإستراتيجيا والتّاريخ وحياة ومستقبل الشّعوب.
مشهد المسؤوليّة، كل الأسرى الّذين تحدّثوا للإعلام أعربوا عن فرحة منقوصة لتركهم إخواناً لهم خلف القضبان، وأعربوا عن دعمهم لأي عمل لتحريرهم من الأسر، وفي نفس الوقت أعربت فصائل المقاومة عن حملها لدين في رقبتها إسمه تحرير بقيّة الأسرى، وبالتّوازي مع ذلك دفعت هذه العمليّة الفلسطينيين للتّسابق للعمل على تحرير الأسرى، فخدمة القضيّة هي محل التّنافس ولا شيء غير ذلك، وهذا بحدّ ذاته عنوان تجميع لا عنوان تفريق، وإذا تمّ ما أعلن عنه الرّئيس الفلسطيني خلال استقبال الأسرى، بأنّ هناك اتفاقاً على الإفراج عن عدد إضافي مماثل من الأسرى، فهذا إنجاز إضافي تراكمي للفلسطينيين، ويوضّح مدى التّراجع والضّعف الّذي تعاني منه دولة الاحتلال أمام تبعات تنفيذ عمليّة التّبادل.
مشهد الإمتنان، فلم ينس المحرّرون من قام بعمليّة الأسر وأدارها حتّى مشهد التّحرير، وهم بالمناسبة أسرى محرّرون مكثوا في السّجون سنين عديدة، وكان هذا عنوان كل مقابلاتهم مع الإعلام، ولم ينس هؤلاء المحرّرون الشّهداء الّذين ارتقوا في عمليّة الأسر، أو الّذين استشهدوا بعدها، فهؤلاء وأهاليهم لهم حقّ على هؤلاء المحررين أن يشكروهم، وهكذا كان.
مشهد الحديث عن الثّمن، بعض النّاس لا زال يتحدّث عن ثمن ما تمّ من إنجاز للإنتقاص منه، وردّاً عليهم أعلن الآسرون أنّ مسؤوليّة العمل على تحرير الأسرى واجب ديني التزاماً بحديث نبوي شريف " فكّوا العاني…………." والتزاماً بفتاوى علماء المسلمين بفدية الأسير حتّى آخر قرش في خزينة المسلمين، والتزاماً بنهج المعتصم الّذي جرّد جيشاً لتحرير أسيرة، وفي مقابل هذا الإلتزام لا يمكن الحديث عن أثمان غاليّة لعمليّة الأسر والتّحرير، فالقيمة الإنسانيّة للأسير لا يمكن أن تخضع للمزاودات، فهذا الميدان مفتوح للمنتقدين لتحقيق حرّيّة الأسرى بلا أثمان يدفعها الشّعب الفلسطيني.
المشهد الإنساني، كان لكاتب هذه السّطور شرف مصافحة بعض المحرّرين ومعرفة بعض عائلاتهم، ولا يمكن الكتابة عن هذا الموضوع دون ذكر اللمسات الإنسانيّة، فمن ذا الّذي يستطيع تقييم وتوصيف لقاء الإبن مع أبيه الذّي اعتقل وعمره تسعة عشر يوماً، ويلتقيه عندما يكون عمره ثلاثين عاماً – كما جرى مع المحرّر حسن سلمة- ومن ذا الّذي يستطيع وصف لحظة وصول نائل وفخري البرغوثي إلى قرية كوبر بعد خمسة وثلاثين عاماً من الأسر؟ وكيف يمكن وصف دخول الأسير المقدسي علاء البازيان للأقصى للصلاة فيه بعد غيابه عنه لعشرات السّنوات؟ وكيف يمكن وصف شعور المحرّر أحمد التكروري الّذي أسر لسبع سنين، وخرج من السّجن نهاية ثمانينات القرن الماضي، ولم يمكث حرّاً إلا لشهرين قام خلالهما بعمليّة ضدّ الاحتلال حكم على إثرها بالمؤبّد وبقي في السّجن أكثر من عشرين عاماً، وخرج مبتسماً في هذه العمليّة.
مشهد الحزن، الأسر في سجون الاحتلال يخلّف جروحاً وأحزاناً في نفوس الجمهور الفلسطيني، وبما أنّ هناك العديد من الأسرى لا زالوا في الأسر، فالحزن لا زال حبيس نفوس الأسرى وأهاليهم وجمهور الفلسطينيين، ولا يمكن أن تعمّ الفرحة بين كل هؤلاء إلا عندما يتنسّم هؤلاء عبير الحرّيّة.
مشهد معاملة الأسير، سئل الأسير جلعاد شاليط من قبل المخابرات المصرية عن ظروف احتجازه ومعاملته فقال أنّه عومل معاملة حسنة، وكذلك قال لبعض من زاروه من أصدقائه وجيرانه، وهذا المشهد لا يمكن إغفاله، فهو يظهر سموّ أخلاق رجال المقاومة الفلسطينيّة الّذين لا تحرّكهم الضّغائن ولا الأحقاد، بل تتحكّم بها الأخلاق والمبادىء، فليس من الرّجولة الانتقام من أسير لا حول له ولا قوّة مثلما تفعل دولة الاحتلال مع رجال المقاومة الفلسطينيّة الأسرى في سجونها.
مشهد "إسرائيل" الشّرق أوسطيّة، قبل سنوات قال زعيم حركة ميرتس اليساريّة أن إسرائيل أصبحت دولة شرق أوسطيّة، وكان هذا تعقيباً على اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السّابق إسحاق رابين، وهو هنا كان يشير إلى السّمات السّيّئة للشّرق أوسطيّة، ظهرت سمات الشّرق أوسطية في السّلوك الرّسمي والشّعبي لدولة الاحتلال في مشهد عمليّة التّبادل، فقد حرص نتنياهو على استقبال شاليط ببزّته العسكريّة في مشهد يماثل استقبال حسن نصرالله لسمير القنطار ورفاقه بعد تحريرهم، وقام بحضنه وتقبيله على الطّريقة الشّرق أوسطيّة، وقامت جماهير إسرائيليّة باستقبال شاليط بطريقة تماثل تلك الّتي جرت للمحرّرين في قطاع غزّة ورام الله، وهذه كلّها إضافات على عدوى الانحدار الحضاري للكيانات الاستيطانية والّتي تظهر قرب انهيارها بعدم قدرتها على منع نفسها عن تقليد محيطها المعادي.
مشهد الحذر، تعرّضت دولة الاحتلال لجرح عميق في كرامتها، وهذا قد يدفعها للتّفكير والتّخطيط للإنتقام من المقاومة الفلسطينيّة، وقد يتجلّى هذا في اغتيالات أو خطف أو غير ذلك، وهذا يتطلّب حذراً مناسباً لا تحجبه فرحة الانتصار والإنجاز، فالمعركة مع الاحتلال لم تنته بعد كما يثبت الواقع، وتحقيق إنجاز في جولة لا يغني عن الحذر خوفاً من خسارة جولات.
أجمل فصول هذا المشهد الجميل هو مشهد الحرّيّة التي لا يمكن تقديرها ولا وصفها، حرّيّة تنسّمها هؤلاء الأبطال بعد سنوات طويلة من القهر والعذاب خلف القضبان، والتي نتمنّى أن يتنسّمها إخواننا الأسرى الّذين لا زالوا في الأسر.
...