قال الله تعالى : " وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين * رب هب لي من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا
أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله
للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين *
إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه في الآخرين *
سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين *
وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين * وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما
محسن وظالم لنفسه مبين " .
يذكر
تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه ، سأل ربه أن يهب له
ولداً صالحاً ، فبشره الله بغلام حليم ، وهو إسماعيل عليه السلام ، لأنه
أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل . وهذا ما لا خلاف فيه
بين أهل الملل ، لأنه أول ولده وبكره .
وقوله
: " فلما بلغ معه السعي " أي شب وصار يسعى في مصالحه كأبيه . قال مجاهد : "
فلما بلغ معه السعي " أي شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل .
فلما
كان هذا ، رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا ،
وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعاً : " رؤيا الأنبياء وحي " قاله عبيد بن عمير
أيضاً .
وهذا
اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على
كبر ، وقد طعن في السن ، بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد فقر ، وواد
ليس به حسيس ولا أنيس ، ولا زرع ولا ضرع . فامتثل أمر الله في ذلك ،
وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلاً عليه ، فجعل الله لهما فرجاً ومخرجاً ،
ورزقهما من حيث لا يحتسبان .
ثم
لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه ، وهو بكره
ووحيده الذي ليس له غيره ، أجاب ربه وامتثل أمره ، وسارع إلى طاعته .
ثم
عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قسراً ويذبحه
قهراً : " قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " .
فبادر
الغلام الحليم ، سر والده الخليل إبراهيم ، فقال : " يا أبت افعل ما تؤمر
ستجدني إن شاء الله من الصابرين " وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة
للوالد ولرب العباد .
قال
الله تعالى : " فلما أسلما وتله للجبين " قيل : أسلما أي استسلما لأمر
الله وعزم على ذلك . وقيل : وهذا من المقدم والمؤخر ، والمعنى : تله
للجبين أي ألقاه على وجهه . قيل أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حال
ذبحه ، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك . وقيل : بل
أضجعه كما تضجع الذبائح وبقي طرف جبينه لاصقاً بالأرض وأسلما أي سمى
إبراهيم وكبر ، وتشهد الولد للموت . قال السدي وغيره : أمر السكين على حلقه
فلم تقطع شيئاً ، ويقال : جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس . . والله
أعلم .
فعند
ذلك نودي من الله عز وجل : " أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا " أي قد حصل
المقصود من اختبارك وطاعتك ، ومبادرتك إلى أمر بك ، وبذلت ولدك للقربان ،
كما سمحت ببدنك للنيران ، وكما مالك مبذول للضيفان ! ولهذا قال تعالى : "
إن هذا لهو البلاء المبين " أي الإختبار الظاهر البين .
وقوله : " وفديناه بذبح عظيم " أي جعلناه فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه .
والمشهور
عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن ، رآه مربوطاً بسمرة في ثبير . قال
الثوري ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ،
قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً ، وقال سعيد بن جبير : كان يرتع
في الجنة حتى تشقق عنه ثبير ، وكان عليه عهن أحمر ، وعن ابن عباس هبط عليه
من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه ، وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل
منه . رواه ابن أبي حاتم .
قال مجاهد : فذبحه بمني ، وقال عبيد بن عمير : ذبحه بالمقام .
فأما ما روى عن ابن عباس أنه كان وعلاً . وعن الحسن أنه كان تيساً من الأروى واسمه جرير ، فلا يكاد يصح عنهما .
ثم
غالب ما هاهنا من الآثار مأخوذ من الإسرائيليات . وفي القرآن كفاية عما
جرى من الأمر العظيم ، والإختبار الباهر ، وأن فدى بذبح عظيم ، وقد ورد في
الحديث أنه كان كبشاً .
قال
الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا منصور ، عن خاله نافع ، عن صفية بنت
شيبة قالت : أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا قالت : أرسل
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة ، وقالت مرة : إنها سألت
عثمان : لم دعاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قال لي رسول الله : "
إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت ، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما
فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي " .
قال سفيان : لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت فاحترقا .
وكذا روى عن ابن عباس أن رأس الكبش لم يزل معلقاً عند ميزاب الكعبة قد يبس .
وهذا وحده دليل على أن الذبيح إسماعيل ، لأنه كان هو المقيم بمكة وإسحاق لا نعلم أن قدمها في حال صغره . . والله أعلم .
وهذا
هو الظاهر من القرآن ، بل كأنه نص على أن الذبيح هو إسماعيل ، لأنه ذكر
قصة الذبيح ثم قال بعده : " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " ومن جعله
حالاً فقد تكلف ، ومستنده أنه إسحاق إنما هو إسرائيليات ، وكتابهم فيه
تحريف ، ولا سيما هاهنا قطعاً لا محيد عنه ، فإنه عندهم أن الله أمر
إبراهيم أن يذبح ابنه ووحيده وفي نسخة من المعربة : بكره إسحاق ، بلفظة
إسحاق هاهنا مقحمة مكذوبة مفتراة ، لأنه ليس هو الوحيد ولا البكر إنما ذاك
إسماعيل .
وإنما
حملهم على هذا حسد العرب ، فإن إسماعيل أبو العرب الذي يسكنون الحجاز
الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإسحاق والد يعقوب - وهو
إسرائيل - الذي ينتسبون إليه ، فأرادوا أن يجروا هذا الشرف إليهم ، فحرفوا
كلام الله وزادوا فيه وهم قوم بهت ولم يقروا بأن الفضل بيد الله يؤتيه من
يشاء .
وقد قال بأنه إسحاق طائفة كثيرة من السلف وغيرهم ، وإنما أخذوه - والله أعلم - من كعب الأحبار ، أو من صحف أهل الكتاب .
وليس
في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى نترك لأجله ظاهر الكتاب العزيز ولا يفهم
هذا من القرآن ، بل المفهوم بل المنطوق بل النص عند التأمل على أنه إسماعيل .
وما
أحسن ما استدل به ابن كعب القرظي على أنه إسماعيل وليس بإسحاق من قوله : "
فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " قال : فكيف تقع البشارة بإسحاق
وأنه سيولد له يعقوب ، ثم يؤمر بذبح إسحاق وهو صغير قبل أن يولد له ؟
هذا لا يكون ، لأنه يناقض البشارة المتقدمة . . . والله أعلم .
وقد
اعترض السهيلي على هذا الإستدلال بما حاصله أن قوله : " فبشرناها بإسحاق
" جملة تامة ، وقوله : " ومن وراء إسحاق يعقوب " جملة أخرى ليست في حيز
البشارة . قال : لأنه لا يجوز من حيث العربية أن يكون مخفوضاً إلى أن يعاد
معه حرف الجر ، فلا يجوز أن يقال مررت بزيد ومن بعده عمرو ، حتى يقال ومن
بعده بعمرو . وقال : فقوله : " ومن وراء إسحاق يعقوب " منصوب بفعل مضمر
تقديره : ووهبنا لإسحاق يعقوب ، وفي هذا الذي قاله نظر .
ورجح
أنه إسحاق ، واحتج بقوله : " فلما بلغ معه السعي " قال : وإسماعيل لم يكن
عنده إنما كان في حال صغره وهو وأمه بجبال مكة فكيف يبلغ معه السعي ؟
وهذا
أيضاً فيه نظر ، لأنه قد روى أن الخليل كان يذهب في كثير من الأوقات
راكباً البراق إلى مكة ، يطلع على ولده وابنه ثم يرجع والله تعالى أعلم .
فمن
حكى القول عنه بأنه إسحاق : كعب الأحبار ، وروى عن عمر والعباس وعلى وابن
مسعود ، ومسعود وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والشعبي ومقاتل وعبيد بن
عمير ، وأبي ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق ، والزهري والقاسم وابن
أبي بردة ومكحول ، وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة ، وأبي الهذيل
وابن سابط ، وهو اختيار ابن جرير ، وهذا عجب منه وهو أحدث الروايتين عن ابن
عباس .
ولكن
الصحيح عنه - وعن أكثر هؤلاء - أنه إسماعيل عليه السلام قال مجاهد وسعيد
والشعبي ويوسف بن مهران وعطاء وغير واحد عن ابن عباس : هو إسماعيل عليه
السلام .
وقال
ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن قيس ، عن عطاء
بن أبي رباح ، عن ابن عباس أنه قال : المفدى إسماعيل وزعمت اليهود أنه
إسحاق وكذبت اليهود .
وقال
عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه : هو إسماعيل . وقال ابن أبي حاتم ،
سألت أبي حاتم : وروى عن علي وابن عمر وأبي هريرة ، وأبي الطفيل ، وسعيد بن
المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن ومجاهد ، والشعبي ، ومحمد بن كعب ، وأبي
جعفر محمد بن علي ، وأبي صالح أنهم قالوا : الذبيح هو إسماعيل عليه السلام .
وحكاه البغوي أيضاً عن الربيع عن أنس والكلبي وأبي عمرو بن العلاء .
قلت
: وروى عن معاوية ، وجاء عنه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا ابن الذبيحين . . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ومحمد بن إسحاق بن يسار ، وكان الحسن البصري يقول : لا شك في هذا .
وقال
محمد بن إسحاق عن بريدة عن سفيان بن فزوة الأسلمي ، عن محمد بن كعب : أنه
حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام - يعني
استدلالة بقوله بعد العصمة : " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " -
فقال له عمر : إن هذا الشيء ما كنت أنظر فيه وأني لأراه كما قلت .
ثم
أرسل إلى رجل كان عنده بالشام ، كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه ، وكان يرى
أنه من علمائهم ، قال : فسأله عمر بن عبد العزيز : أي ابني إبراهيم أمر
بذبحه ؟ فقال : إسماعيل والله يا أمير المؤمنين ، وإن اليهود لتعلم بذلك ،
ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه
والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به ، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه
إسحاق ، لأن إسحاق أبوهم .
وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة بأدلتها وآثارها في كتابنا التفسير . . ولله الحمد والمنة .