عشر سنوات بعد على زوال إسرائيل
عناية جابر
4/2/2010
الضوء الأزرق الفضي الصادر عن جهاز التلفزيون يُنير الغرفة: الطاولة الخشبية الكبيرة نسبياً، ثم المكتبة وأرففها على وسع الحائط، الأريكة الوسيعة بمساندها الأربعة والأرائك الثلاث المحيطة بها وكلها صغيرة وذات مسند واحد، 'الكونسول' الرفيع العالي ويحمل 'لومبادير' برونزي يُرسل إنارة صفراء خافتة، وله درج مُدبّب بالبرونز أحتفظ بداخله بعملات ورقية ومعدنية جمعتها من بلدان كنت زرتها، ثم الرفان الواطئان الثمينان من العاج وعليهما شمعات ذات أشكال وألوان غريبة كنت انتقيتها من أديرة وأماكن سياحية ومحال أوروبية وعربية، فخمة وشعبية .
تفوح في الغرفة رائحة مستكة خفيفة، وعلى الشاشة متحدّث ذو رأس بيضاوي وأصلع، طرح عليه مذيع حلقة 'التوك شو' الجارية امامي، سؤالأ في الهياج الإسرائيلي المحموم، الآخذ في بناء المستوطنات والمزيد منها كل يوم في القدس تحديداً، في صياغة للسؤال بدت مرتبكة ومُبهمة. كان الأمر يتعلّق ببرنامج سياسي أسبوعي يُحاور فيه إعلامي معروف، ضيف حلقته في أحداث الساعة، عربية أو أجنبية، وإن بدت في حلقاتها منذ اغتيال المبحوح، تراوح في ذلك الإغتيال وفي ضلوع الموساد الإسرائيلي به، حتى حفظنا تماماً ما قيل عن كافة المشاركين، وما قيل فيهم، كما علقت بصدورنا اللحظة التلفزيونية المصوّرة عن دخول المبحوع كابينة المصعد في ذلك الفندق وعن مراقبيه ومطارديه حتى لحظة اغتياله غير الموثقة بالصورة، كما لو هوّة إنفتحت في تسلسل الحكاية. ما علينا، حلقة الليلة بدت خائضة (لحقتها على آخر) في محاولة تدارك ما يجري في فلسطين، ما يجري في القدس عموماً حول الهوية الفلسطينية والإبقاء على رموزها الدينية .
لكل بلد في العالم سيرتان: تاريخية وحاضرة، والحديث في الغالب عن فلسطين (على الشاشات أعني) لا يجري إلا في سيرتها الراهنة التي تتناول قائمة مذابحها الطازجة، وعمليات تقويض بيوتها التي لا تنفك، في المحاولة الى هدم ذاكرتها ونسف حضورها من أية مراهنات مقبلة. الأهمّ برأيي (قلت وأنا أتابع) هو تناول سيرة فلسطين الأخرى، فلسطين التي لم نعرف، وعلى الرغم من عدم معرفتنا بها، رغبناها وتشهيّناها لنا وطناً رمزاً الى جانب أوطاننا، فلسطين التي أفلتت منّا وأفلت تاريخها لأنه لم يكن فينا وفي وعينا أو ذاكرتنا. أفلت التاريخ المؤلم لفلسطين (قلت) ولم يتحقق لا في الواقع ولا في الخيال بالنسبة للكثيرين منّا.
سأل المذيع كيف تأتّى لإسرائيل إهانة أمريكا عبر بناء المزيد من المستوطنات في القدس، في الوقت الذي ..! إبتسم الرجل ذو الرأس العارية الضخمة وأجاب بلباقة: لا شيء وليد الصدفة. ليس بناء المستوطنات جديداً، وعلى كلّ ليبنوا ما شاء لهم منها فالأمر في النهاية مجرّد حساب دقيق. احسب معي (قال الرجل للمذيع) سوف تنتهي وتزول إسرائيل هي ومستوطناتها في سنة 2022 بشكل أكيد، أي بعد عشر سنوات من الآن على أكثر تعديل (أردف مفاخراً)، كما أن هذا التاريخ لم آت به من بيت 'أهلي' وبمجرد العودة الى كتب الدين والأحاديث الشريفة سوف يتضح لك أمر هذا الزوال بشكل جليّ، ثم التفت بكليته الى الشاشة مخاطباً جمهورها: ليثق المشاهد أن إسرائيل زائلة لامحالة في الـ2022، بنت مستوطنات أم لم تبن !!
حسناً، قلت أيضاً لعل ما بقي من أعمارنا يسمح لنا بمثل هذه الفرجة، وإن بنظر شحيح. زوال غير مُكلف، وما علينا سوى عدّ السنين وانتظار الوقت الموعود. الحقيقة أن زوالها أو عدمه ليسا من صلب اهتماماتي. ما أريده فعلاً هو بقاء فلسطين، وطناً للديانات كافة. أريدها بناسها جميعاً، بكل ما فيها ومن عليها. مضيت أهزّ رأسي برزانة مُستحسنة تسامحي، مُتخيلة في آن فلسطين وليدة، وجديدة كل الجدة.
أطلّ وجه على الشاشة مستاء، ومضى يُعبّر عن استيائه من عملية حساب السنوات العشر الكفيلة ما أن تمضي، بزوال اسرائيل. سألهُ المذيع: ما الذي يُغضبك هكذا؟ ردّ الغاضب أن أمر إيقاف اسرائيل عن بناء المزيد من المستوطنات في القدس مُهم جداً ولا يحتمل التأجيل، ولقد شرحت هذا (مضى يقول) في مقالتي التي صدرت في جريدة كذا، يوم كذا، قلت فيها إن على العرب، والفلسطينيين على وجه الخصوص، توحيد كلمتهم والإصطفاف جميعاً للدفاع عن القدس، وليس انتظار نبوءة الـ2022 هذه لكي تزول اسرائيل من تلقائها. المُراسل من واشنطن بدا على حيرة من أمره أمام لعبة الأرقام، هو الموكلة إليه مهمة نقل أجواء المحادثات (التأديبية لكلا الطرفين) بين نتنياهو وأوباما، المعقودة في البيت الأبيض. لون وجه المراسل من أمام البيت الأبيض، صار أصفر، ثم أخضر، ثم أزرق حتى خلت لوهلة أنه ساقط لا محالة من الشاشة الى أرضية غرفتي في عملية هي الأولى من نوعها لزوال مراسل، لم تنتظر لحظة واحدة، نتيجة ما كان يدور من كلام في الأستديو.