عملية رفح.. من حضّر العفريت؟!
د. محمد بريك
--------------
من الصعب أن نتعامل مع عملية رفح كحادث إرهابي قامت به مجموعة منفلتة وهذا لأمور ثلاثة: الأول هو طبيعة العملية بذاتها حيث أنها كان لها (شق آخر) تمثل في عمل اختراقي للحدود مع الدولة العبرية وماقد يُتصوّر في هذا بعد مقاوم حتى وإن قل هذا الطرح أو حتى انعدم بسبب حجم الشهداء المصريين في مقـــابل عدم وجود قتلى إسرائيليين، والثاني هو موقع العملــــية في ســـيناء على الحدود ومايمثل هذا الموقع الجغرافي من سحب لمجموعة من التشابكات التي تؤثر في تصورنا لطبيعة الفاعلين وكذلك للآثار الناجمة، والثالث لطبيعة الظرف السياسي المصري والإقليمي.
بالنسبة لطبيعة العملية، فمن المعلوم أن حجم الجرم الحاصل في توقيتها (في وقت الإفطار) وطبيعتها (مهاجمة معسكر مصري وسقوط حوالي سبعة عشر شهيدا) ماينفي شرعيتها وطهارتها النضالية مهما حدث بعدها من فعل مقاوم.. ومثل هذا الخلط والاضطراب في وزن المصالح والمفاسد هو ديدن الفكر القاعدي وتطبيقاته. وهناك أمر آخر حتى بافتراض عدم وجود هذا الشق الإجرامي في العملية وهو ضرورة أن يكون أي فعل مقاوم من الحدود المصرية طبيعته وتوقيته وآثاره ومساءلة حدوثه ابتداء موضوعا بإحكام ضمن خارطة فعل استراتيجي متناسقة للدولة المصرية. وحتى لايزايد علينا أحد فنجد أن حركة مقاومة كحماس حين امتلكت زمام السلطة في غزة وبعد الحملة العدوانية في 2009-2010 قد التزمت بمعادلة تهدئة وفرضت نوعا من الإرغام القسري على أجنحة الفعل المقاوم.. وإن كنا نقبل هذه الحسابات من حركة مقاومة وليست سلطة فلامعنى لسلطة تحت الاحتلال وبالنسبة لي فلا أقبل، فحين نحكي عن دولة لها تصوراتها الاستراتيجية والتعبوية وحقها الشرعي ككيان سياسي مدعوم بقاعدة شعبية في رسم أولوياتها. هذا مع إقرارنا أنه لايوجد حتى اللحظة مشروع أمن قومي للدولة المصرية يضع أبعاد الاستقلال الوطني والتحرك وحدها نصب عينيه.
أما جغرافية العملية فنحن نحكي عن سيناء وهي أشد المناطق حساسية في الواقع الأمني والاستراتيجي المصري لعدة أسباب: أولا كونها المسرح الأساسي لثلاثة حروب (56 والاستنزاف و73) وأعقب ذلك معادلة قيدت السيادة المصرية على هذه الرقعة الهامة (سدس المساحة المصرية ووصلتها الأساسية بالشق العربي الآسيوي ومنطق التماس مع الدولة العبرية) على حسب ماأحدثته معاهدة السلام المصرية وملحقاتها الأمنية. وثانيا أن سيناء عانت من سياسة شديدة السوء على المستوى الأمني والحكم المحلي أسهمت بشكل كبير في إصابة كثير من قطاعاتها وقبائلها بشعور الغبن مما جعلها وسطا مفرخا ومهيئا لأي عمل معادي. وثالثا الصلات السكانية والجغرافية جعلتها مرتبطة بشكل كبير بما يحدث في غزة على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري (خصوصا توسع الفكر القاعدي في غزة مابعد 2006). ورابعا أن سيناء التي وقعت تحت سيطرة أمن الدولة في العقد الأخير لعصر مبارك ثم تمت استعادة السيطرة بعد ثورة يناير لصالح المخابرات العسكرية بالأخص شهدت أحداثا غير متناسقة العام الفائت وتناماي لخلايا قاعدية وإرهاب محلي وعشائري كانت في أغلبها بعلم - إن لم يكن بنوع من التسهيل أجهزة المخابرات المصرية - وهذا لسبب واضح كبير مرتبط بالسياق السياسي المصري الداخلي ؛ إبقاء نوع من الاضطراب الأمني في سيناء وعلى الحدود تحت حدود يتوهمها من وراء ذلك مفيد في شرعنة الهيمنة العسكرية على المعادلة السياسية الداخلية كعادة الأمر.
أما طبيعة السياق المصري والإقليمي فيجعل الأمر أكثر تعقيدا. تحدث حادثة رفع في وضع سياسي مضطرب فيه رئيس منتخب وحكومة ناشئة ولكن تحت وصاية عسكرية في مشهد أعقب ثورة كانت تحمل معها بشارات الدمقرطة والاستقلال ولكن تم احتوائها في الأغلب. المعادلة السياسية التي يرعاها الأمريكي بشكل كبير، ولايفزع منها الإسرائيلي، هي وجود المؤسسة العسكري كحام أساس للتوجه الاستراتيجي المصري - أو بشكل أدق المحددات الثابتة - وموضعها داخل الترتيب الإقليمي وترك الملفات غير السيادية لما تسفر عنه المعادلة المدنية من انتخابات وصنع دستور وحراك اقتصادي وسياسي مع الرغبة ومحاولة امتلاك القدرة على التأثير فيه وتعديل الخارطة السياسية كذلك. ومايجعل مثل هذا النموذج حاكما بشكل كبير هو افتقاد المقومات الأساسية اللازمة لتجربة فرض الهيمنة الديمقراطية على المؤسسة العسكرية في مرحلة تحول ديمقراطي (مقوّم التوافق الوطني بما يمنع استفراد جناح سياسي بالمؤسسات السيادية قبل تطورها المهني وبما يمنع تنقل المؤسسة العسكرية في تحالفاتها وتفاهماتها من طرف لآخر، ومقوّم الضغط الشعبي الذي يجبر المؤسسة العسكرية على التسليم بمسار الدمقرطة، ومقوّم التعامل الحكيم الذي يسمح بالتدرج في ملفات ويحسم في أخرى كالدستور ومنع الوصاية على الحياة السياسية عبر مجلس أمن قومي تنفيذي وملف المخابرات المدنية وفصلها عن المؤسسة العسكرية وملف المحاكمات العسكرية).. وحصول مثل هذا الحادث في هذا الظرف يفتح فرصا وتهديدات لاشك فيها لمسار فرض الهيمنة الديمقراطية والمدنية.
كذلك علاقة ماحدث بمسار الأمن القومي المصري والعلاقة مع الدولة العبرية ومعاهدة السلام، وهذه إشكالات تناولناها في مقالين سابقين بعنوان: معاهدة السلام بين استحقاقات الثورة ومحنة الأمن القومي المصري، ونحو منظومة ثورية للأمن القومي. وباختصار فإن صياغة استراتيجية جديدة للأمن القومي المصري والتصور حيال مشروع الاستقلال الوطني وحسم الصراع العربي الإسرائيلي لايعني ترك هذا الملف الحيوي حتى اكتمال بناء الدولة المصرية وتطورها الديمقراطي أو الاشتباك فيه مباشرة بكل مفاعيله، ولكن حالة وسطى تتحرك في سياق تدريجي وتهتم ببناء مقومات توليد هذه الاستراتيجية القومية وأدواتها، وتشتبك في نفس الوقت مع حالة الاستقلال الوطني بشكل يسمح من توسيع القدرة على الحراك الإقليمي والمتفلّت من الهيمنة ومحاصرة الخصم. وأهم الركائز لهذا الطرح تتمثل في: حسم ملف الهمينة الديمقراطية على المؤسسة العسكرية (على الأقل الجزء الحاسم منه)، والتأكيد على رؤية سياسية استقلالية جديدة للدولة المصرية، وتطوير القابلية الاستراتيجية (فكر ومؤسسات وأدوات) والتعبوية (عقيدة قتالية ومنظومات قيادة وتسليح وتدريب وتعبئة)، والمحور المناور الذي يعيد تعريف العلاقة مع الأمريكي ويتحرك في فضاء إقليمي جديد ويتعامل بشكل متقن مع ملفات ضاغطة على الإسرائيلي (المقاومة، عرب 48، ومعاهدة السلام، والحلفاء الدوليين).
بعد هذه التطوافة في السياقات المحيطة بالحدث وأوجه تشابكاتها بقي أن نحاول الإجابة على تساؤلين هامين: من هو الطرف الفاعل؟ وماآثار هذا الحدث؟
بالنسبة للطرف الفاعل فهو كما يبدو خلايا جهادية منتمية لفكر القاعدة وهي موجودة في سيناء منذ فترة ولها تواصلات فكرية وعضوية بقرينات لها بغزة. هناك احتمالات أن تكون هناك أطراف محركة: إسرائيل أو المخابرات المصرية أو حماس؟ بالنسبة للمخابرات المصرية فالأمر شديد الصعوبة ليس لحاجز قيمي بالضرورة ولكن لأن الاضطراب الأمني والحدودي حتى يمكن الاستفادة به سياسيا لايمكن أن يُسهم في تدمير الشرعية المؤسسية سواء للمؤسسة العسكرية أو جهاز المخابرات، ولكن هذا لاينفي كما أسلفنا صلات بمثل هذه الجماعات ثم فقدان السيطرة وهذا النمط تكرر في مصر وأفغانستان والعراق. وبالنسبة لإسرائيل فالموضوع شديدة الصعوبة كذلك وليس له أي علاقة بأي حاجز سياسي أوقيمي لعدة أسباب: أولها أن هذا الأمر من شأنه توتير لحالة الصراع مع وضع مصري غير مستقر وتحت رعاية أمريكية وفي ظرف استراتيجي معقد لإسرائيل بخصوص المشكلة الإيرانية والوضع السوري ومايترشح عنهما، وهذا سيفقدها أي محاولات لتجسير علاقات شراكة مع المؤسسة العسكرية غير موجودة أو احتواء للحالة المدنية ويغلب عليها حتى الآن الإخوان. كذلك فليس للإسرائيلي حتى الآن مقدرة على الاختراق الإيجابي (القدرة على التحريك ورسم المسار) للمجموعات المقاومة والجهادي الفلسطينية بالرغم من قدرتها على الاختراق السلبي (الحصول على المعلومات والردع والضغط لتغيير المسار) وبالفعل كانت هناك معلومات بحوزة الإسرائيلي عن عمليات وشيكة قبل الحادث بأيام ويُقال أنه أوصلها للمصري. أما بالنسبة لحماس فالوضع أبعد كثيرا عن مصالحها المباشرة في توسيع الخناق عن غزة ومحاولة الوصول لصيغة استقرار إقليمي لسلطتها بغزة تحت رعاية مصرية كبديل عن السوري ولو حضانة سياسية ودعم اقتصادي واجتماعي وليس عسكري.
أما الآثار فكعادة أحداث السياسة والعمليات العسكرية فإن هناك مساحة مفتوحة تأتي بها الأحداث وحزم متقاربة للفرص والتهديدات، ويكون الاعتماد في حرف مسار الأحداث لوجهات معينة معتد على قابلية الأطراف في قراءة الأحداث وصنع مهيئات لمسار بعينه تقصده استراتيجيا.. وإن تساوت الأطرف في عجزها (الاستراتيجي) فإن هناك قدر من العفوية والاختلاط في ترتيب الآثار مع تقديم امتياز للأقوى بمعيار مصادر قوى السياسة الداخلية والخارجية.
على السياق الإقليمي فمن الممكن أن يتحرك الجانب المصري لتوسعة تواجده العسكري في شبه الجزيرة ولكن بشكل غير مقلق للإسرائيلي، وكما ذكرنا في مقال سابق فإن التواجد العسكري في حد ذاته جغرافيا قد لايمثل نافذة استراتيجية في صراع مقبل، ولكن التحرك لأجله مفيد في إفقاد الإسرائيلي بعض كروت ردعه وأمانه الجغرافي الهام له، وفرصة إن توفرت نوايا استقلالية وتم البدء في تعديل معادلة الهيمنة الديمقراطية على المؤسسة العسكرية والتحرك في إعادة بناء المقومات الاستراتيجية والتعبوية للضغط للتغيير في جوهر معادلة السلام ذاتها.
وعلى السياق الداخلي فمن الصعب تصور إمكانية الاستفادة به بدون تحقيق مقومات الهيمنة الديمقراطية وتصحيح المسار المقفول الذي تسري فيه الحالة المصرية من تصدر الإخوان للسلطة التنفيذية وتقاسمها مساحات النفوذ مع المؤسسة العسكرية كخطوط عامة ويأتي الصراع على تفصيلات المساحات تحتها. والقرارات التي أصدرتها مؤسسة الرئاسة بخصوص إقالة مدير المخابرات (الذي ادعى أنه كان على علم بمثل هذه الأحداث ولكنه لم يتخيل أن يقدم مسلم على قتل مسلم في ساعة الإفطار) ومحافظ شمال سيناء وقائد الشرطة العسكرية في الأغلب هي نتاج تفاهم وليس صراع أو اقتناص مدني لها لفرض معادلة قوى جديدة لأسباب: أولا أنها أتت مباشرة بعد لقاء لمجلس الدفاع الوطني الذي يسيطر عليه العسكر والذي هو مخوّل قانونيا بإدارة هذه الملفات كما أن المجلس العسكري ورئيسه مخوّلان دستوريا بالقرارات التفصيلية في التعيينات العسكرية، وثانيا أن مسار الإخوان السياسي منذ ماقبل الثورة وبعدها يتحرك في سياق عدم التصادم الصريح مع المؤسسة العسكرية ومثل هذه القرارات لو أتت بدون توافق مع المؤسسة فهي تمثل أعلى درجات الاصطدام وتستدعي حالة انقلابية وهذا غير واقعي، وثالثا أنه بالنظر لطبيعة هذه القرارات نجد أنها نتاج وفاق وليس صدام؛ فمن تم إقالته هو مدير المخابرات العامة وليس العسكرية مع أن الثانية هي المسئولة بالأساس عن الوضع بسيناء.
ماالحل إذن؟ من الصعب أن نحكي عن حل دون تغيير المعادلة السياسية برمتها وتصحيح مسارها لتتشكل قيادة وطنية معبرة عن التجربة الثورية المصرية بكل فسيفسائها وانحيازها الديمقراطي ولفكرة الاستقلال، والتحرك حقيقة بدعم شعبي كامل وحس متوازن في طمأنة المؤسسة العسكرية وفي نفس الوقت حسم النقاط الأساسية السابق ذكرها.
' باحث مصري في الدراسات الاستراتيجية