إن من ضمن أهداف القرآن: أن يُنشئ لدى المسلم العقل السُّنَني، الذي يتعامل مع الكون وأحداثه على أن كل ذلك منظومة من القوانين، وليس جُزافاً ولا فوضى ولا عبثاً ولا خبط عشواء، ولذلك يردُّ القرآن على من اعتقد شيئاً من ذلك بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون:115].
وموضوعنا المحدَّد هو: القوانين المتعلقة بالنصر، لا مُطلق النصر، أو مطلق تغلُّب قوة على قوة، أو تفوُّق خصم على خصوم، وإنما غلبة أهل الإيمان على أهل الباطل والكفر. ورَأَينا في حلقة سابقة طرفاً من هذه القوانين وهذه السنن؛ منها: أن الصراع حتمية من الحتميات بحسب الواقع، لا بحسب ما نرغب أو نتمنى. ولو كان الأمر على ما نتمنى لتمنينا السلام والوئام، والأماني شيء والفكر الواقعي شيء آخر.
ورأينا أن الباطل صائر إلى المَحْق، لكن وفق قانون التدرج الذي أسميته: "قانون قطع الأطراف" {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:127]، وأنّ الحضارات تُنتقص من أطرافها إلى أن تهوي صريعة. وننبِّه إلى أن هذه السنن لم تأت مجتمعة في مكان واحد من القرآن، وإنما جاءت موزعة على القرآن كله فمن أرادها فليقرأه كله.
والنصرة من مولاها سبحانه؛ فنحن قوم أعزَّنا الله بهذا الدين، ومهما ابتغينا العزة في غيره، وعن غير طريق اليقين أذلَّنا الله.
والتوحيد يقتضي أن يتوحَّد مصدر الخوف والخشية، فلا تكون أبداً مطلقاً من قوة العدو، ولا نرهبه مهما حشد ومهما بلغت قوَّاته، فلا خشية في قلب المؤمن الموحِّد إلا من الله - توحدت جهة الخوف - فما عاد المؤمن يخاف إلا من الله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]. {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150]. {أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13]. ويرتبط بقضية التوحيد أن لا مصدر للنصر والعزة إلا من الله، وأن مُبتغيها من غير مصدرها وهو الله، ضارب في التيه والعمى ..
{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الله} [آل عمران: 126]، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160]، وما لنا سوى الله {فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [التوبة:74].
ومما يرتبط بقضية التوحيد: توحيد الأمة، فلا توحيد إلا مع التوحيد، أعني أن توحيد الإله سبحانه، وتوحيد أمة لا إله إلا الله قضية واحدة مرتبطة، وأن الشرك يقتضي الشقاق: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32]. إن توحيد الكلمة وكلمة التوحيد أمران هما أمر واحد، ومقدمة ونتيجة. وكما يحرص المؤمن الموحد على كلمة التوحيد فليحرص على توحيد الكلمة. وإذا كان الكافرون يجتمعون على باطلهم أفليس ذلك أحرى بالمؤمنين أن يجتمعوا على حقهم؟ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].
واعلم أيها المؤمن أن أقوى قوتنا بل إن سرَّ قوتنا في جمع كلمتنا، وأن أضعف نقاط ضعفنا فُرقتنا، وأقوى أسلحة عدونا ضدنا: تَشتُّتنا: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]. {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران:152].
ومن سنن النصر التي لا يتحقق إلا بها: الإعداد والاستعداد، على أقصى ما نستطيع من حشد أسباب القوة بكل صنوفها وصروفها وأنواعها. والله لا يحتاج أسبابَنا لينصرنا، ولكنه علَّمنا أن نأخذ بالأسباب، ثم نتوكل على مُسبِّب الأسباب سبحانه.
وفي هذا المعنى آية واضحة في قلب سورة بدر - سورة الأنفال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60].
إن الله تعالى يريد منا أن نتحشَّد ماديّاً ومعنويّاً؛ فهو لا يحب المتقاعسين المتخاذلين الجَزِعين، ولكنه يحب العاملين الفعَّالين النَّشِطين.
ونواصل الحديث: في الصراع بين الحق والباطل، الجولة الأخيرة والنهائية تكون دائماً للإيمان وأهله. وهذا وعدٌ من الله تعالى ألزمَ به نفسه، لم يفرضه عليه أحد، وحاشا لجلاله، وفي هذا عدد من الآيات:{كَتَبَ الله لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]. {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. بل إن مولانا سبحانه اعتبر حرب الكافرين للمؤمنين إعلان حرب عليه هو سبحانه، ولما كان هو لا يُغلب سبحانه؛ فإن العدوان ينتصر والإيمان لن يندحر.
ولما كان الكفر في معسكر إبليس، والإيمان في معسكر الرحمن، ومعسكر الرحمن الذي يمثله في الأرض الأنبياء ومن تبعهم؛ فإن النصر مضمون: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12]. { والله غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21]. { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 59]. { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى} [الأنفال: 17]. { فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]. { ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]. { فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76].
ومن هنا، فإن حرب العدو النفسية علينا لن تجديه نفعاً، وهكذا نقرأ قوله تعالى في سورة آل عمران: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ . إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:173-175].
ومن سنن النصر التي لا محيد عنها ولا بد من توفرها: التوحيد الخالص والإيمان اليقيني العميق بالله تعالى. ونحن أمة لا تنتصر بعددٍ ولا عُدَّة، وإنما تنتصر أولاً بإيمانها، وتستمد القوة والعزة