سلطان باشا والجدول القدسي في جبل العرب...
بقلم:الكاتب الكبير آرا سوفاليان
2010-04-14
يفتتح الكاتب المقال فيقول :الأنباء السيئة ترد تباعاً من الجبهة... قتلوا يوسف بك العظمة... استشهد وزير الحربية، وخسرنا المعركة... ضاعت الحكومة وضاعت مملكتي... يوسف أي صنف من الرجال أنت يا يوسف، لقد سجد لك إخوتك في بلاط فرعون، فما أحوجني لفعل ذلك الآن... ما أحوجني لأن ألمس جراحك الطاهرة... وملابسك العسكرية المضرج
ة بالدماء، وهي كفنك... أنت البطل الحي وأنا الملك الميت... لا لا لم أعد الملك... ربما حتى الساعات المتبقية التي يصلون بعد زوالها إلى دمشق.
قلت له: أن المعركة خاسرة... قال لي: أعرف يا جلالة الملك، ولكن على جثتي، وجثته يلفٌّها الطيب هناك في ميسلون وهم قادمون... الرابع والعشرون من تموز عام 1920 يوم ميسلون، والصفحة الأولى من صراع لا يعرف مداه وآجاله إلاّ الله، احتلال جديد والأعين لم تكتحل بعد بفرحة زوال الاحتلال السابق، ويرتفع على الصواري علم غريب علم دنيء علم بغيض قابل أصحابه المروءة بالعقوق والشهامة بالندالة والبسالة بالمكر والتضحية بالغدر، وينحدر علم آخر إلى مكانه الجديد القديم... ويختفي في القلوب.
قائد الحرس الملكي: تم تجهيز العربة الملكية وسيرافق موكبكم بعض الأشراف من الشام وسيتولى آخرون مرافقتكم حتى مشارف فلسطين، وطلب بعض السادة الوزراء أن يبقوا بمعيتكم في الظعن والترحال حتى تصلوا جلالتكم والعائلة المالكة إلى الحجاز، لتعاودوا الكر والفر من جديد بعد عقد راية التحرير، والنصر آتٍ بإذن الله.
الملك: سأبقى قائد الحرس الملكي: ستبقون! وعدوكم يرفع أقواس النصر ويزينها بأغصان الغار! مولاي لقد أكرمنا الله وأكرمكم بتحرير بلاد الشام على يدكم بعد أربعمائة سنة انخسفت فيها شمسنا العربية حتى وصلتم جلالتكم وإخوتكم، ونعمنا بشمس الحرية بعد طول انتظار، ولا بد أن تعيدوا الكرَّة من موقع جديد تعودون منه وقد أعددتم لهم ما استطعتم من قوة والله جلَّ جلاله يؤيدكم بنصر من عنده وهو السميع المجيب.
الملك: والثوار والمجاهدون والأرامل واليتامى ورفاق الدرب وفرسان التحرير ويوسف وإخوة يوسف وأصحاب يوسف والأرض وبلاد الشام ودمشق وأهل دمشق وغوطة دمشق والخيل والسلاح والناس الأخيار والأبطال في درعا والسويداء وطلائع المستقبلين لفيصل وجيشه وطلائع المجاهدين الذين وقفوا معه وقفة الأبطال؟ هل أطرق أرضهم وحيداً راحلاً وأنا ذليل وبالأمس طرقتها على الضوامر قادماً والسيوف مشرعة ورايات النصر معقودة وتخفرني الأسود؟
قائد الحرس الملكي: مولاي لا تأخذ منا ما بقي لنا من الأمل والرجاء... فأفضل ألف مرة أن يكون لنا ملك غائب يتعهد الشعب مُلكه، من أن يكون لنا ملك قتيل تجوب عربته الملكية شوارع دمشق وهي تجرٌّ جثته.
ولم يتمكن فيصل من وداع دمشق وطرق دمشق ومساجدها ومآذنها وكنائسها وأسواقها وحاراتها وناسها وأشرافها أخوة السلاح ورفاق الدرب ومضى باتجاه الجنوب يطلب الحجاز.
ومرَّ في ذهنه وأمام ناظريه جبل العرب وسهول حوران وميادين البطولة حيث ينبئك كل شبر من الأرض بقصص بطولة وتضحية وفداء وفي الطريق أعلام حمراء لا تخطئها العين ترشد إلى المواقع التي سقط فيها الأبطال والأعلام الحمراء هي على شكل زهرة أو اثنتان أو ثلاثة وأحياناً مرج من شقائق النعمان.
كان يودع بلاد الشام ودمشق الشام، والشام السهل والجبل بناظريه وهو يعلم بأنه قد وضع الأمانة في يد الشرفاء ويتذكر قوات الجيش الشمالي الذي كان تحت قيادته في مسيره نحو الشمال باتجاه مدينة دمشق ويتذكر يوم تحريرها في 23 تشرين الأول 1918.
حيث عين الأميرالاي اللواء علي رضا باشا الركابي حاكماً عسكرياً لسوريا وأوفد الأميرالاي اللواء شكري باشا الأيوبي ورستم حيدر إلى بيروت لإعلان قيام الحكومة العربية فيها بناء على طلب أهلها يوم 6 تشرين الثاني 1918 وتذكر إعلان انضمام لبنان إلى الحكومة العربية في دمشق وتذكر حبيب باشا السعد الذي عينه حاكما مدنيا على لبنان وتذكر علم الثورة العربية وقد رفعه الأهالي في كل مكان في دمشق وحمص وحماه وحلب واللاذقية وطرابلس وصور وبقية المدن الساحلية، أما اليوم، فهو يوم المجد الآفل وضياع الملك.
مرت في ذهنه تداعيات تذكر فيها الأبطال الذين شاركوا في الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين تذكر سلطان باشا الأطرش ابن الشهيد ذوقان الأطرش هذا الشاب المقدام الذي يعود الفضل إليه في تحرير الجبل وهو صاحب أول علم عربي يرفرف في سوريا وقد رفعه بيده فوق قلعة صلخد، وكان في طليعة الجيش العربي الذي دخل دمشق 1918 هازجاً مع فرسانه أغنية الفرسان المنتصرين: (زينو المرجة المرجة لينا شامنا فرجة هي ومزينة) وذلك بعد انتصاراته المتعددة على العثمانيين في مناطق جبل العرب وأهمها معركة تل المانع، وقد رفع أعوانه (صالح طربيه وعلي ذوقان الأطرش وحمد البربور) أول علم عربي فوق سرايا دمشق في المرجة عند تحرير دمشق بعد مرور 400 عام من الاحتلال العثماني البغيض، ومضى الملك بعد أن مضى المُلك فسبحان هادم اللذات مفرق الجماعات.
ولم تغرب شمس ذلك النهار إلاَّ وكان الجنرال غورو قد توجه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي واقدم على فعلة قيدته في سجل الذل لأنه فقد فيها أجمل ما يتحلى به العسكري وهو الشرف العسكري، فلقد أقدم على ركل مقدمة ضريح صلاح الدين بقدمه وقال مخاطباً صلاح الدين: ها قد عدنا يا صلاح الدين وهي رد على مقولة صلاح الدين إبان طرد آخر صليبي من بيت المقدس والتي خاطب بها الصليبيين المندحرين قائلاً: ها قد خرجتم من هذه الأرض المقدسة ولن تعودوا إليها أبداً.
وذهب الفرنسيون بدباباتهم ومدافعهم إلى المعقل، فلقد درسوا التاريخ جيداً وعرفوا أن الشرارة الأولى تبدأ دوماً من جبل العرب، وكذلك الشهامة والإباء، وآن آل معروف لا ينامون على الضيم، وأن تضحياتهم المتعلقة بالثورة العربية الكبرى وآمالهم ودروب الحرية وشلالات الدم ومروج شقائق النعمان لن تذهب أدراج الرياح ولا بد أن تكون الشرارة الأولى من جبل العرب وهذا يوجب الاستعداد والحذر، لأن هناك جدول قدسي يسبح في السماء وفوق جبل العرب والجولان وقرى الجولان ترفده الروافد في كل يوم ليبقى قوياً صلباً يهيمن على فضاءات الجبل ويحمي أهله ويحفزهم ليهبوا قبل الداعي للزود عن حمى الوطن.
كشف المجاهد سلطان باشا الأطرش حقيقة المؤامرة الأوربية على بلاد الشام، وعرف أن وعود الفرنسيين والانكليز هي وهم وسراب، أما شعارات الثورة الفرنسية فهي حبر على ورق وأصحاب السلطة في دول الغرب لديهم خط واحد يسيرون عليه وهو إرهاب وقتل وتشريد الشعوب الواقعة تحت نير الاحتلال ونهب خيرات البلاد وتدمير حركة التطور والنمو فيها، حيث لا جدوى من أية مفاوضات مع مستعمر لديه برنامج مسبق يخلص إلى استغلال المستعمرات ومص دماء أهلها وسرقة خيراتها وغلالها ومالها وأرضها وأقوات مواطنيها وبالتالي فهناك طريق أوحد وهو استرداد الحق بالقوة وتحرير الأرض والإنسان.
قرر استمرار النضال ضد المستعمر الفرنسي الجديد الذي طرح مشروع تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية ورفض صيغة مشيخة جبل حوران، وشكل طلائع جبهة المقاومة من الثوار في الجبل وفي سوريا مع شكيب وهاب وحمد بربور وابراهيم هنانو 1922.
بدأت شرارة الحرب ومقاومة الفرنسيين الأولى بعد أن قدم حمايته للمجاهد أدهم خنجر الثائر المقاوم المنتمي إلى مجموعة من المقاومين اللبنانيين منهم شكيب وهاب، الذين حاولوا قتل الجنرال غورو قائد القوات الفرنسية والذي نجا بأعجوبة بعد أن أطلقوا النار على سيارته في كمين في موقع كوم الرويسة وقتلوا أحد مرافقيه وهو الليوتنانت برانيه وجرح حقي العظم حاكم دمشق، والتجأ خنجر إلى بيت سلطان في الجبل وبعد اعتقاله في غياب سلطان وامتناع الفرنسيين عن إطلاق سراحه هاجم سلطان والثوار مقر اعتقاله وحرروه فقام الفرنسيون على أثرها بحرق بيت سلطان باشا الأطرش وهدمه انتقاماً.
أسس مع القوى الوطنية في دمشق بعد اتصاله بالزعيم المجاهد الدكتور عبد الرحمن الشهبندر (الذي شغل منصب إدارة القيادة السياسية للثورة) وزعماء حزب الإستقلال في دمشق ومنهم الرئيس الأول لسورية شكري القوتلي نوى القوى الثورية في سوريا.
أعلن الثورة وقاد الثورة السورية الكبرى سنة 1925، والتي استمرت عامين كاملين.
قاد الأطرش عدة معارك ظافرة ضد الفرنسيين أشهرها معركة الكفر (21 تموز 1925) ومعركة المزرعة (2 آب 1925) التي تعتبر من أهم المعارك في تاريخ سورية حيث مرغ عدة آلاف من الفرسان والمقاتلين العرب السوريين، رأس أكبر جيش عالمي منتصر في الحرب العالمية الأولى في التراب وأبادوا حملة ميشو (13000 ثلاثة عشر ألف مقاتل مدجج) وغنموا كل ما حملت من سلاح، كما خاض عشرات المعارك الحاسمة.
رفض عرض فرنسا بمنح الجبل الاستقلال وتأسيس دولة ذات طابع ديني درزي، وأكد على وحدة الأرض السورية الجغرافية وطرح مع رفاقه المخلصين من كل الطوائف شعار:
"الدين لله والوطن للجميع"
مقابل مشروع المستعمر الفرنسي الذي دعا بمساعدة كثير من العملاء والجاهلين الأميين اللذين صنعتهم فرنسا قادة في أنحاء سوريا لتقسيم الوطن إلى دولة علوية في ساحل وغرب سورية، ومسيحية مارونية في جبل لبنان، ودرزية في الجنوب، وسنية في الداخل.
لمعت أفكار سلطان باشا الأطرش في تحرير وبناء الوطن وأسس للعيش المشترك والسلم الأهلي في الوطن الواحد تماما كما لمع سيفه في المعارك التي خاضها.
واستطاع بذلك أن يجمع المخلصين والوطنيين الشرفاء من أبناء الوطن في ثورة لن ينساها السوريون، وستبقى بصمة في تاريخ التحرر العربي والعالمي، لأنها الأساس الذي بنيت عليه الثورات المتلاحقة وتشكلت على أسسها معظم الأحزاب السياسية التحررية والقومية والتي أسست لمقاومة شعبية كبيرة استطاعت تحرير الوطن عندما ضعف الأعداء.
طالب بالوحدة السورية الكاملة (سورية قبل التقسيم تعني سوريا الحالية ولبنان وفلسطين والأردن) وطالب ببناء جيش وطني.
طالب بعدم اختصار الثورة السورية في شخصه فهي ثورة أهل العبى الفقراء كما كان يقول (ماذا نفعل بدونهم) ووضع بذلك فكرا مميزا ومدرسة كبيرة تركت آثارها على قوى التحرر فهي تحمل رسالته في التحرر وبعدا إنسانيا لم يكن معروفا وقتها في جيوش المرتزقة.
رفض تسلم عفو من رئيس الجمهورية الفرنسية في محاولة لتخفيف نار الثورة، وأبلغ مندوب ساراي (المندوب الفرنسي) دون أن يمسك أو يقرأ أمر العفو بأنه لم يعتد على فرنسا ليأخذ عفواً من رئيس جمهوريتها. وبذلك حدد المجاهد سلطان باشا الأطرش معنى المقاومة وحق الشعوب في المقاومة والتحرر والاستقلال.
حاول سلطان ورجال المقاومة المخلصين ضبط التجاوزات التي قام بها عدد من قادة المجموعات الذين تزعموا بعض المناطق السورية مثل فرض الإتاوات باسم الثورة ومهاجمة بعض القرى بغاية سلبها والتي أساءت لسمعة الثورة في تلك المناطق.
نجحت فرنسا في زيادة قوتها وفي إخماد الثورة 1927.
لجأ إلى نجد وأقام في النبك وقضى مع رفاقه الثوار وأهله سنينا صعاب.
عاد إلى سوريا عام 1937 بعد توقيع المعاهدة السورية الفرنسية واستقبل استقبال الفاتحين.
استمر في معارضة الاحتلال الفرنسي لسوريا حتى الاستقلال سنة 1946.
تنزه عن المناصب السياسية أيام الاحتلال وبعده، واتخذ موقفاً معارضاً للحكم الفردي ولسلسلة الانقلابات التي عصفت بسوريا في مطلع الخمسينات.
توفي شيخ الثوار في بيته في القريا بين أهله إنسانا هانئا مكرما عن عمر يناهز الـ 94 سنة، في 26 آذار 1982.
حيا رفاته آلاف القادة والمواطنين، وشيعه يوم 28 آذار1982حوالي المليون شخص في تشييع مهيب تحول إلى عرس وطني.
وتختزن ذاكرة السوريين مآثر جبل العرب وثوار جبل العرب ومآثر هذا الشيخ الجليل الذي وحد الثوار تحت رايته وحارب المستعمر الفرنسي وأبلى بلاء الأبطال، وكان يتمتع بفكر قومي تحرري ودعى إلى إنشاء جيش عربي موحد متكامل لمواجهة مخططات الغرب ومخططات إسرائيل ربيبة الغرب.
وبتوجيه من سيادة الرئيس الدكتور بشار الأسد تم نقل رفات المجاهد سلطان باشا الأطرش في عرس قومي إلى النصب التذكاري المقام لشهداء الثورة السورية الكبرى في السويداء تخليداً لذكرى شهداء النضال ضد الانتداب الفرنسي، ووفدت الحشود إلى القريا مسقط رأس المجاهد سلطان باشا الأطرش محيية بطلها القومي بالهتاف في ظاهرة تعبير عن امتنان سوريا ورئيسها لتضحيات الشهداء والمقاتلين في كفاحهم من أجل الاستقلال وألقى المهندس ثائر الأطرش كلمة أبناء وأحفاد المجاهد الراحل وقال ممثلون عن دروز الجولان المحتل، في بيان لهم: {إننا نعتبر تكريم القائد العام للثورة السورية الكبرى تكريماً لكل القادة والمناضلين والمجاهدين ولقيم النضال والجهاد والشهادة}... وأضاف البيان {نحن أبناؤكم في الجولان السوري المحتل نعاهد شعبنا العربي السوري أن نسير على طريق الآباء والأجداد محافظين على الأرض والهوية السورية حتى يعود الجولان لأصحابه الشرعيين وتتحرر كل ذرة من ثراه الطاهر}.
ونقل نعش المجاهد سلطان باشا الأطرش ملفوفاً بالعلم العربي السوري على عربة مدفع، وحملته ثلة من ضباط القوات المسلحة ليوارى الثرى وسط النصب التذكاري الذي شمل مساحة 6200 متر مربع تم بناء الصرح فيها مع ملحقاته والموقع العام الذي يتضمن متحف يحوي بعض الأسلحة المستخدمة في الفترة والوثائق التي تعود لعهد الثورة.
أما الجدول القدسي السابح في سماء جبل العرب والجولان وقرى الجولان وفيه نصيب من كل نقطة دم سالت على هذه البطاح، والذي ترفده الروافد في كل يوم ليبقى قوياً صلباً يهيمن على فضاءات الجولان وجبل العرب ويحمي أهله ويحفزهم ليهبوا قبل الداعي للزود عن الوطن، فهو البرهان الحاضر في الأذهان الذي يؤكد على عروبة الجولان كأرض عربية سورية لا يمكن التفريط بذرة من ترابها مؤيداً النهج الوطني الذي يعرفه السوريون الذين حافظوا عليه منذ الأزل والمتجسد في الشطر ـ كل شبر من ثراها دونه حبل الوريد ـ وعلى أن شرارة مقارعة المعتدي وترويعه تنطلق أولاً من جبل العرب لتتحول إلى مرج من الشهب في بلد مروج شقائق النعمان.
الأبجدية الجديدة