مع بدايات خدمة غبطة بطريركنا الجديد، تتالت تصريحاته على مدى بضعة ايام، وقد تستمر هذه التصريحات لزمن طويل بعد الآن. وبما ان البطريرك هو بطريرك، وبما انه بطريرك جديد، فان تصريحاته تكتسب اهمية وجدية كبيرتين، وذلك لأن تصريحات غبطته تأتي في زمن يحتاج الى مثل هذه التصريحات التي تجمع ولا تفرق. هذا وقد يمكننا ان نختصر جميع تصريحات غبطته بشعار: الأصالة- الوحدة- التجدد، الذي اطلقه بمناسبة انتخابه بطريركا لكنيسة المشرق الكاثوليكية الملقبة بالكنيسة الكلدانية. غير اننا في هذا المقال نركز على تصريح يكاد ان يكون ملحقا بشعار غبطته الثلاثي الأبعاد المذكور اعلاه، حيث نسمع غبطته يقول بأنه يعد نفسه بطريركا لكل العراقيين، مسيحيين ومسلمين، وليس بطريركا للمسيحيين حسب، ولا بطريركا للكنيسة الملقبة بالكنيسة الكلدانية فقط. فماذا نقول في هذه التصريحات جميعها يا ترى؟
تصريحات ليست بنت الساعة
: وفي الحقيقة نحن نعلم ان تصريحات غبطته ليست بنت الساعة، بحيث يمكن ان يقولها اي بطريرك بمناسبة اختياره بطريركا، من باب العواطف والمجاملات، وربما من باب التمنيات الحقيقية ايضا. فقد كانت التصريحات التي ادلى بها غبطته والمشاريع التي اعلن عنها، بحسب ما نعرفه عن غبطته، مخزونة في ذاكرة غبطته منذ ان كان قسيسا يخدم في ابرشية الموصل، ثم بعد ذلك عندما صار اسقفا لأبرشية كركوك، حيث صار المسئول الديني الأول لتلك الأبرشية. نقول ذلك لأننا رافقنا غبطته، منذ ان كنا نعمل سوية في ابرشية واحدة، والى حد هذا اليوم تقريبا.
تصريحات بناءة تبشر بخير
: وفي الحقيقة، ومن الناحية المبدئية يمكننا ان نبصم بالعشرة على صحة تصريحات غبطته المذكورة ونقول انها تصريحات تبشر بخير وتدعو الى التفاؤل، لأنها تصريحات مبدئية نهلها، على علمنا، من ينابيع تقدمية اصيلة، وأهمها المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، المنعقد في الستينيات من القرن الماضي، هذا المجمع الذي حضره اكثر من ثلاثة آلاف اسقف وبطريرك وخبير لاهوتي، لمدة ثلاث سنوات متتالية ( موسم كامل من كل سنة )، كما استقاها من خبرته الرعويـــة الطويلة، سواء كان ذلك في ابرشية الموصل، او في بغداد بصفة مدير معهد تنشئة القسس، او كان ذلك في كركوك بصفته اسقفا لتلك الأبرشية.
ابن للمجمع الفاتيكاني الثاني
: فغبطة بطريركنا ابن للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني بالروح، وان لم يكن معاصرا، مثل كاتب هذا المقال، للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، طالما ان غبطته يقع زمنيا بين جيلين: جيل المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني وجيل الردة الكنسية الذي اهمل الفاتيكاني الثاني وروحه التقدمية الانسانوية, هذه الردة التي حدثت مع البابا الراحل يوحنا بولس الثاني ومع خليفته البابا بنديكتوس السادس عشر، اثر حلول النظام العالمي الجديد على العالم وقبول الكنيسة لهذا النظام البربري ومهادنتها له، حيث بانت هذه الردة الكنسية على حقيقتها العملية من التوجهات السلفية العقيدانية التي فرضت على الكنيسة بمناسبة يوبيل الألفين لميلاد السيد المسيح، والتي اثرت في الكنائس الشرقية قبل الكنائس الغربية تأثيرا سيئا.
بطريرك لجميع العراقيين
: اما التصريح الذي يهمنا، في هذا المقال، اكثر من غيره، فهو التصريح الذي يقول بأن غبطته يرغب بان يكون بطريركا لكل العراقيين، مسيحيين ومسلمين. اي يكون بطريركا لجميع العراقيين من حيث محبة الجميع وخدمة الجميع، وليس من باب السلطة والانتساب. فماذا نقول في هذا التصريح الأخير.
تصريح جميل ولكن...
: طبعا لا يسعنا ان نقول عن هذا التصريح سوى انه جميل ورائع، لأنه تصريح يجمع ولا يفرق، ولاسيما عندما يكون تصريحا خاليا من اي غرض ومن اي مكسب ومن اية مجاملة. وعليه نرى انه عندما يقول بطريرك بأنه يعد نفسه بطريركا لجميع العراقيين، مسيحيين ومسلمين، فان ذلك يعني ان قلب هذا البطريرك يفيض بالمحبة العميقة لجميع من يقعون في دائرة مسؤولياته الجغرافية والاجتماعية، هذه المحبة التي من طبعها الانثروبولوجي ان تفيض على الآخرين عطاء مجانيا، بحيث لا يبغي المعطي من وراء عطائه سوى ارضاء متطلبات هذه المحبة التي تسكن قلبه، ولا يطلب جزاء آخر من أحد حتى لو كان الله نفسه.
سؤال وجيه:
اما السؤال الذي قد يسأله الكثيرون فيقول: ترى هل علق شيء بغبطة بطريركنا من مخلفات النظام العالمي الجديد ومن آثار النظام الكنسي الجديد الذي ظهر مع البابوين الأخيرين اللذين عادا بالكنيسة الى ما قبل المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، ولاسيما فيما يخص العودة الى العقائد الغيبية التقليدية، وما يمكن ان ينجم عنها من سلطة كنسية تعسفية شبيهة بالسلطة السياسية المستندة الى القوة الغاشمة، متنصلين من روح الحوار الذي كان المجمع المسكوني قد أسسه في مختلف المجالات الكنسية، بحجة ان المسيح هو هو بالأمس واليوم والى الأبد؟
جوابنا الصريح
: اما جوابنا الصريح فيقول بأننا قد لا نستطيع ان نؤكد ذلك التأثير ولا ان ننفيه بسهولة وبشكل كلي عن غبطته، ولا عن كثيرين من اساقفته وقسسه، لكننا نأمل ان تكون روحانية الفاتيكاني الثاني الانسانوية متجذرة في اعماق نفس غبطته فيستطيع ان ينفض ما يكون قد علق بها من آثار كنيسة بداية الألفية الثالثة المتأثرة بالعولمة.
أملنا اذن
: من هنا فإننا نؤمل ان يعود غبطته الى جوهر الفاتيكاني الثاني بعد تحديث بسيط يجريه عليه، لكي يستطيع ان يكتسب الأهلية الروحية اللازمة لأي بطريرك يتمنى ان يكون بطريركا لجميع العراقيين، ويستطيع ايضا ان يثبت سائر اخوته الأساقفة وأبنائه القسس بهذا الاتجاه، ومن ثم يعيد توجيه مؤمنيه جميعهم بالاتجاه الايماني الصحيح، اي باتجاه وصايا وتعليمات المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الانسانوية البعيدة عن الدوغمائية (العقيدانية) ونتائجها السيئة على الروح الانساني المسيحي، هذه الدوغمائية التي افرغت نفوس المسيحيين من محبة الحق والعدل والفضائل الانسانية الاجتماعية الأخرى، حتى سمت الاحتلال تحريرا.
المحبة فياضة
: نعم المحبة فياضة ولا احد يستطيع ان يحصرها في قلبه، ولاسيما اذا كانت هذه المحبة محبة كبيرة مبنية على قناعة ايمانية تقول ان كل انسان يحق له ان ينال من اخيه الانسان محبة مقرونة بالعدل الذي لا يميز بين من يستحق هذه المحبة ومن لا يستحقها، اسوة بأبينا السماوي الذي يشرق شمسه وينزل مطره على الأخيار والأشرار، كما يقول الانجيل المقدس، كما تكون مقرونة بروح المجانية التي لا تطلب مكافأة لنفسها، لا من البشر ولا من الله نفسه. وبناء على ذلك نقول ان المحبة ليست بدون وجه وبدون هوية حتى يخطئها الانسان ولا يعرف السبيل اليها. فإذا كان العقل، على الرغم من وسائل المعرفة الصارمة عنده، لا يعرف ان يميز بين المحبة وما سواها، فان القلب المحتاج الى الحب يميز بين الحب وبين شبيهه بسهولة.
دلالات تلقائية
: هنا يطيب لي ان ادون قسما من هذه العلامات التي نجدها في رسالة مار بولس الى اهل قورنتس، وتحديدا فيما يسمى نشيد المحبة 13- 1- 7 حيث يقول مار بولس: تشوقوا الى المواهب العظمى، واني ادلكم على افضل الطرق. لو تكلمت بلغات الناس والملائكة، ولم تكن لدي المحبة، فما انا إلا نحاس يطن او صنج يرن. ولو وهبت لي النبوءة وكنت عالما بجميع الأسرار، عارفا كل شيء، ولي الايمان الكامل انقل به الجبال، ولم تكن لدي المحبة، فما انا بشيء. ولو فرقت جميع اموالي وقدمت جسدي ليحرق، ولم تكن لدي المحبة، فما يجديني ذلك نفعا. المحبة حليمة مترفقة، المحبة لا تعرف الحسد ولا العُجب ولا الكبرياء، ولا تفعل السوء ولا تسعى الى منفعتها، ولا تحنق ولا تبالي بما ينالها من السوء، ولا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق، وهي تعذر كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء......
مستلزمات المحبة في ايامنا
: من المؤكد ان كل ما ذكره مار بولس في نشيده الرائع يعد من مستلزمات المحبة. غير ان بطريركا يعلن بأنه يرغب في ان يكون بطريركا لجميع العراقيين يحتاج الى بعض هذه الفضائل المذكورة في نشيد المحبة بشكل خاص، ومنها المجانية والتضحية والقيام بأعمال حبية كبيرة ومكلفة تجاه من يحتاج هذه الأعمال. وبما اننا في زمن الاحتلال ومشكلاته الكثيرة والظلم الذي وقع على العراق كدولة وكشعب، فإننا نرى ان تترجم محبة البطريرك الى اعمال تضامن واضحة ومعلنة ونزيهة مع من وقع عليهم ظلم المحتل الأمريكي وظلم أعوانه الذين ملئوا العراق بجثث القتلى بحجة مكافحة الارهاب،ن هذه الحجة الكاذبة التي هي نفسها من صميم الارهاب.
مثلان توضيحيان
: بهذا الصدد اذكر حوارا جرى بين احد القسس انخرط في العمل الشاق في المعمل، حاله حال العمال الآخرين، على امل ان يصير من طبقتهم ويكسب قلوبهم الى الايمان، في بيئة ملحدة. ففي احد الأيام سأل صديق في المعمل زميله القسيس قائلا له: ولكن يا ترى لماذا قبلت ان تترك حياتك السهلة النظيفة والمريحة وتأتي معنا الى المعمل؟ فأجابه القسيس العامل: اعمل ذلك محبة بالمسيح. حينئذ اجابه صديقه العامل قائلا: اذن انت تعمل هذا محبة بالمسيح وليس محبة بنا، نحن العمال، ولا تضامنا معنا، من اجل قضية مشتركة! وهكذا يظهر بأن فعل المحبة لا يؤثر بمن يحتاجه إلا اذا كان فعلا نزيها مقرونا بالمجانية والتضحية الكبيرة.
احداث عشتها شخصيا
: في هذه الفقرة سوف اقدم نموذجا متواضعا وبسيطا آخر يبين كيف يمكن ان يكون بطريرك او اسقف او قسيس ابا للجميع دون ان ينتظر منهم او حتى من الله مكافأة على ذلك. في احد الأيام كانت بعض العناصر الغوغائية المسيحية المسيسة من اهالي تلكيف ومن المهاجرين اليها تتكلم امامي عن طرد العرب من تلكيف، بحجة انهم غرباء. فما كان مني سوى ان اجب الغوغائيين بقولي: حسنا فليكن ذلك بحسب قاعدة واضحة تطالب بإخراج جميع الغرباء من تلكيف، وليس العرب المسلمين وحدهم. وبما ان الجماعة الغوغائية كانت مرسلة من قبل احزابها لجس نبضي، تركني خائبة ومضت في سبيل حالها، ولم اسمع بعد منذ ذلك اليوم حديثا يدعوا الى مثل تلك الدعوة الكريهة. وفي يوم آخر من الأيام الأولى للاحتلال كنت مارا بسيارتي في احد الأحياء الجديدة من تلكيف. فشاهدت رجل دين مسلم متشح بالبياض ومعه شخصان آخران. فنزلت من السيارة وحييت الجماعة وقلت لرجل الدين: انا القس لوسيان جميل مسئول كنيسة تلكيف، ارجو ان تعلم بأننا نحن في هذه الكنيسة ضد الاحتلال. فأجابني للفور بارك الله فيك سوف اقول ذلك لجماعتي في الجامع. اما ما اريد ان اقوله من هذا الكلام فهو ان كلمة بسيطة قلتها في ذلك الوضع الرهيب لا زال يتذكرها كل العرب في تلكيف بامتنان كبير، الأمر الذي جعلني استحق ان يقال: ان القس لوسيان جميل هو قسنا ايضا، وهو الكلام عينه الذي كُتب لي مرات عديدة تعليقا على مقالاتي الايمانية الوطنية.
المحبة مغرية لكنها صعبة جدا
: نعم هنا تكمن صعوبة المحبة وهنا يكمن سر قوتها ايضا: انها تغرينا على الرغم من صعوباتها وقسوتها احيانا كثيرة مثلما تغري قمة جبل عالية (افرست مثلا) متسلقي الجبال. لكن الذي يمكن ان يحدث هو ان من يحبب قمم الجبال العالية غالبا ما يحدث ان يقول في نفسه: نعم ان القمم رائعة، لكنها لا تصلح لي بل تصلح لغيري. وهكذا سوف يكتفي محبب القمم هذا بمشاهدة متسلقي الجبال في التلفزيون. فالسفوح لا تصنع الأبطال ابدا والأمور الصغيرة لا تصنع القديسين ولا الأساقفة ولا البطاركة العظام.
القمم تليق بالروحانيين
: فبما ان البطريرك هو الأب الأول والكبير بيننا فلا تليق به سوى القمم على الرغم من صعوبتها. غير ان القمم لا تسلم نفسها بسهولة إلا لمن يعشقها ويضع الخطى الأولى على دربها، غير مبال بمشقة الطريق، واضعا في حسابه بأن الحداد لا يصير حدادا إلا من خلال ممارسة الحدادة، بحسب المثل اللاتيني الذي يقول: