بقَلَمْ: هيام أبو الزّلف
تراب الكرمل
قيلَ لي أنَّهُ حينَ كنْتُ طفلةً تَحْبو، تَوَجَّهْتُ نَحْوَ حَوْضِ أزهارٍ كانَتْ جدّتي تَعْتَنِيَ بِهِ، وبعْدَ أن أفلحْتُ في الْوَقوفِ، مَدَدْتُ لِساني وَلَعِقْتُ منَ التُّرابِ. هكذا أصْبَحَ ترابُ الكرملِ جزْءًا من تَرْكيبَةِ دَمِ الرّوحِ.
صَحيحٌ أَنَّها ذِكرى بَعيدة، مضى عَلَيْها أكثرَ مِنْ أرْبَعَةِ عُقودٍ، إلاّ أنها ما زالَتْ تَبْعَثُ إلى الْحواسِّ نَشْوَةً يَشوبُها الْفَخْرُ والْحُبُّ.
لَقَدْ اشْبَعَ تُرابُ الْكَرْمِلِ لَدّيَّ حاسَّةَ اللّمْسِ أيْضًا، أَلْمَسُهُ كَأنَّهُ الْحَبيبُ، أَذْروهُ بَأنامِلي لأغْرِسَ فيهِ أشْتالَ الزَّهْرِ، أو لأجْتَثَّ مِنْهُ الْعُشْبَ، أوْ لأجْمَعَ "الْعِلْتَ" و"الْخُبيزَةَ" و"الصَّعْتَرَ".
وها هو الْيَومَ يُناوِشُ حاسَّةَ الشَّمِّ حينَ أرْسَلَ لي عِطْرَهُ الْمَمْزوجَ بِرائِحَةِ الْمَطَرِ، فَوَقَفْتُ على شُرفَتي، مُغْمَضَةَ الْعَيْنَيْنِ أسْتَنْشِقُ رائِحَةَ التُّراب مِلْءَ رِئَتَيَّ، وأُفَكِّرُ بِهِ مُتْعَةً للمسِ والذَوْقِ والنَّظَرِ والشّمِّ.
وَهُنا ثارَتْ حاسَّةُ السَّمْعِ تَحْتَجُّ، فَقُلْتُ لَها: "هَوِّني عَلَيْكِ"، فَإنّي أصْغي إلى التّرابِ يُحَدِّثُني وَيَقول: "أحِبُّكُمْ كَما تُحِبّونَني، وأفَضِّلُ أنْ تكونوا في حِضْني تَسْكُنونَ بي وَتَسْكُنونَ إلَيَّ، مِنْ أن تَكونوا بِعادًا عَنّي وَأسْكُنُ أنا فيكُمْ. فابْقَوْا! حافِظوا عَلَيَّ! فَأنا إرْثُ أجْدادِكُمْ، لا تُلَوِّثوني بِنِفاياتِكُمْ! لا تَلْقوا إليَّ بِأعْقاب السَّجائِرِ مِنْ سَيَاراتِكُم! ازْرَعوني أغراسًا، وَمَحَبَّةً، وانْتِماءً! فَأُعْطيكُمْ ثِمارَ الْكَرامَةِ والْبَقاء."
ملاحظة: كتبت هذه الخاطرة بسيطة المعاني ومشكولة، لتلائم طلابنا في المدارس الابتدائية، ليمارسوا حب الوطن قولا وفعلا، وليحافظوا عليه، حين نكون نحن قد افترشناهُ وتلحفنا به، مرقدًا أبديًّا.
_________________
لَمْ أَعُدْ أَنْشُدُ الْخَيْرَ مِنْ نَفْسي،
لإدْراكي أنَّ الْمَرْءَ يَنْشُدُ ما يَنْقُصُه.