خندق كركوك والخياط دافيدهيفاء زنكنة
May 24, 2013
قد يظن البعض ان مفهوم سيادة الدولة يعني أن يكون لها ‘الكلمة العليا واليد الطولى على إقليمها وعلى ما يوجد فوقه أو فيه’. وان السيادة ركن اساسي من تعريف استقلال الدولة ، مما يعني ‘عدم خضوع الدولة لدولة أجنبية أخرى، وبالتالي تمتعها بالاستقلال الكافي الذي يجنبها الارتباط والتبعية لدولة أخرى’.
غير ان مجريات الامور اليومية في ‘العراق الجديد’ تثبت بان لساسته القدرة على تسويق ومط الكثير من المفاهيم المتعارف عليها، وبضمنها المذهبية التي، غالبا، ما تسوق باعتبارها ابدية مقدسة. وكأنهم يصبون الناس بأجيالهم المتعاقبة، في تزاوجهم وتغيير مذاهبهم بين قرن وآخر من الزمن في مجرى التحالف والصراع، أو حسب مكانة وسمعة الأخوال والأعمام، في كتل كونكريتية تحمي مواقع الحكام المهددة.
فماهو مفهوم السيادة في ‘العراق الجديد’ الذين يتقاتل ساسته على جثامين ابناء الشعب؟ تخبرنا وزارة التعليم العالي، بمبادرة تم الترويج لها اعلاميا باشراف علي الأديب، احد قادة حزب الدعوة الطائفي الحاكم ووزير التعليم العالي، بأن سيادة العراق مرتبطة بافتتاح أطول سارية للعلم العراقي في جامعة بغداد، مما قد يعني ان قصر السارية او عدم وجودها هو السبب في فقدان العراق لسيادته!
ويأتي خبر افتتاح وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لاطول سارية للعلم العراقي، في جامعة بغداد، على لسان مدير دائرة العلاقات والاعلام في الوزارة مبينا: ‘وسيبلغ طولها 75 مترا’. واذا ما كان مفهوم السيادة لايزال مبهما في اذهان البعض فان قاسم محمد بشر المواطنين بأن ‘وزارة التعليم العالي ستفتتح ساريات في كل الجامعات العراقية لتكون عنوانا للسيادة والاستقلال والشموخ’. السارية، اذن، هي عنوان ‘السيادة والاستقلال والشموخ’، فما هو المخفي وراء العنوان؟
في شمال العراق، في اقليم كردستان، قامت الحكومة التركية بخطوة تماثل ما تقوم به الدول المتقدمة من تصدير نفاياتها الصناعية والنووية بعيدا عنها لدفنها في أراضي دول العالم الثالث، في الوقت الذي يحرم استخدامها في بلدانها، حرصا على مواطنيها. حيث بدأ مقاتلون حزب العمال الكردستاني بالانسحاب من تركيا الى الاراضي العراقية، يوم الثامن من ايار/مايو، في اطار مفاوضات السلام الجارية منذ نهاية السنة الماضية بين زعيمهم المعتقل عبد الله اوجلان والسلطات التركية. وهو اتفاق تم ‘على حساب العراق وسيادته واستقلاله’ ويعتبر خرقا ل ‘مبادئ القانون الدولي ودستور العراق’، حسب تصريح لوزارة الخارجية العراقية وعدد من النواب. وقد مرت التصريحات مرور الكرام، كما مر غيرها بصدد قصف القرى الحدودية سواء من قبل تركيا او ايران. وتم تنفيذ الاتفاق بدون ان يصغي احد لهمهمة ساسة العراق. فما هي قيمة بضعة تصريحات اعلامية اذا كان الجيش العراقي، خلافا لجيوش العالم، غير معني بحماية الحدود وصيانة سلامة الوطن، بل مشغول باستهداف المعتصمين وقتل المتظاهرين كما حدث في مجازر الفلوجة والحويجة؟ وهي المجازر التي ارتكبت امام العراقيين والعالم اجمع لتستفز وتغضب كل من لديه ضمير.
ويمتد عنوان ‘السيادة والاستقلال والشموخ’ ليستر نشاطات المخابرات الاجنبية بانواعها. فمن جهاز المخابرات الامريكية المهيمن بحضوره المباشر وغير المباشر على المنطقة الخضراء و’الحكومة’ والبرلمان الى المخابرات الايرانية عبر ساسة يمتد بساط ولائهم في البلاد التي ترعرعوا فيها. ولم يعد تصدير خلاف النظام الايراني مع امريكا الى العراق محط شك. اذ باتت الاراضي العراقية ‘ذات السيادة والاستقلال’ حلبة صراع وحقولا للقتل لكل قوة تريد تصدير نزاعاتها واستثماراتها وفسادها، بالاضافة الى ساسة الاقطاعيات العراقيين، المتضاحكين اعلاميا (ما أكثر تبادلهم للقبلات!) والمتصارعين واقعيا، بمختلف الاساليب من الاغتيالات الى المفخخات في الاماكن المزدحمة الى حملات الترويع والتهجير القسري. وهو اسلوب يشبه ما يقوم به جهاز الموساد الاسرائيلي كلما يلوح في الافق بريق توقف في مسارالنكبة الفلسطينية ذات الـ65 عاما.
كما تطفو على سطح السياسة، الآسن، بين الحين والآخر، دعوات طائفية لتفتيت الوطن وتجزئته الى اقاليم سنية وشيعية ودينية وعرقية. وهي دعوات يطلقها ذات الساسة الذين شاركوا في العملية السياسية واستفادوا منها نفوذا وفسادا ليغطوا على مسؤوليتهم في ارتكاب الجرائم وتهديم البلد، وتصوير الحال وكأن الشعب هو السبب. والحل الوحيد المتفق عليه، هو التخلص من الشعب، أو تقسيمه الى طوائف واعراق تسهل السيطرة عليها. وافضل مثال على ذلك، ما يجري حاليا، حول مدينة كركوك.
واذا كانت دولة الكويت قد اقامت جدارا فاصلا بينها وبين العراق منذ عام 1991 لحماية حدودها، وشرعت السعودية ببناء سور لتعزيز امنها الحدودي ، فأن الاراضي العراقية لاتزيد عن كونها مرتعا، بلا حدود، للتدخلات والارهاب الاقليمي والعالمي. وقد تفتقت اذهان الساسة العراقيين، اخيرا، عن خطة جهنمية ‘للحد من الهجمات الإرهابية’ مفادها حفر خندق ‘بطول 52 كيلومترا وعمق 2م وعرض 3م بالإضافة إلى ساتر ترابي’، حول مدينة كركوك، حسب رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة كركوك. وهذه الخطة، اذا ما انجزت فانها كارثية، من الناحية البشرية، لأنها ستعزل السكان وتعيق حركتهم واختلاطهم مع بقية المدن التي تعاني، بوضعها الحالي، من كثرة نقاط التفتيش. اما اذا لم تنجز، فانها كارثية، من الناحية المادية، حيث ستقوم الجهات المشرفة والمشاركة في المشروع، كالعادة، بسرقة الاموال المخصصة له.
لقد اثبتت سنوات الاحتلال وحكوماته المتعاقبة بانها، خلافا لما هو شائع، ذات سياسة واضحة لم تحد عنها منذ عام 2003 وحتى اليوم. انها سياسة تفتيت الشعب بكل الطرق الممكنة. وهي السياسة الوحيدة التي اتفق عليها شركاء العملية السياسية، من جهة والقوى الاقليمية ذات المصلحة من جهة اخرى. وكان الجنرال دافيد بتراياس، قائد قوات الاحتلال بالعراق، سابقا، والأب الروحي لسياسة مكافحة التمرد وزيادة عدد القوات الامريكية، والذي خدمه نوري المالكي بحماس شديد، قد رسم منظورها بمقولته المعروفة: ‘ان ما نحتاجه في العراق هو العنف المستديم’ لتسهل السيطرة عليه. وها هو النظام الحالي يرتدي الفستان الذي تم تفصيله له دون ان يجرؤ على خلعه يوما ولو لغسله.
‘ كاتبة من العراق