الحياة مفاوضات والمفاوضات حياة وشهادات وفاة أيضا: المفاوضات السرية بين 'عرفات' و'إسرائيل' قبل 'أوسلو'
براء الخطيب
5/18/2010
عندما ذهب 'عرفات' إلى نيويورك ووقف على منصة 'هيئة الأمم المتحدة' عام 1974 وواجه العالم بغصن الزيتون في يد والبندقية في يده الأخرى وقال: 'لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي ... الحرب تندلع من فلسطين والسلم يبدأ من فلسطين' وصارت أغنية بعد ذلك، لم يكن 'عرفات' يستبعد قيام مفاوضات سرية بينه وبين إسرائيل، لا سيما وأنه كان قد حصل على الضوء الأخضر بالتفاوض السري من منظمة التحرير الفلسطينية التي حدث 'تطور' في نظرتها لحل الصراع مع إسرائيل عندما حدد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة سنة 1974 أن حل الصراع لا بد وأن يكون حلا يستخدم 'طريقة المراحل' الذي سوف يتخذ طريقين: أحدهما 'الحل السياسي' والثاني 'الحل التاريخي'حيث ميز المجلس الوطني الفلسطيني بوضوح بين الحلين واكتسب حل 'طريقة المراحل' شرعيته منذ هذه اللحظة، وقد أحدث هذا تغييرا جوهريا في إستراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تؤكد على أن 'الكفاح المسلح' هو الطريق الوحيد للوصول للحل النهائي من أجل تحرير كامل التراب الفلسطيني، وبذلك تكون منظمة التحرير الفلسطينية قد قبلت رسميا بـ'عملية تدريجية' لتحرير فلسطين بحسب ما تسمح به الظروف السياسية والشروط العسكرية لكن دون تنازل عن 'الكفاح المسلح' ودون تنازل عن شبر واحد من أرض فلسطين.
جلست في غرفتي أجتر تلك الذكريات مع بعض المرارة وكل الغضب الذي لازمني طويلا ومنذ غادرت بيروت عام 1982 عائدا إلى 'مصر' بعد أن طلبت من الأخ 'زياد عبد الفتاح' رئيس وكالة الأنباء الفلســــــطينية 'وفــــا' في هذا الزمان أن يوقف صرف مخصصي المالي، ما أن جلست خلف مكتبي وفتحت جهاز الكمبيوتر لمراجعة بريدي الإليكتروني وما أن أغمضت عيني -مسترجعا ما حدث- حتى اندفع داخلا إلى غرفتي قاطعا الصمت العميق، وجلس في مواجهتي صارخا في عصبية: 'هل رأيت المسؤول الفلسطيني على شاشة فضائية 'النيل' للأخبار يتحدث عن المفاوضات غير المباشرة بينهم وبين إسرائيل؟' - قلت: 'لا'، وبنفس حالة الغضب المختلط بالأسى- قال: 'إلى أين يأخذنا هؤلاء الجدد في فتح؟' وقبل أن أرد عليه أسرع يقول: 'تعرف أني فتحاوي، لكني لا أستطيع تحمل هذا الفساد الذي يجتاحنا' كنت قد عاهدت نفسي على أن أقبل بما يقبله الشعب الفلسطيني لنفسه وأن أرفض ما يرفضه الشعب الفلسطيني، ولأن 'حماس' جاءت بالانتخاب الحر للشعب الفلسطيني فلا مجال لإنكارها أو الوقوف ضدها رغم ميولي 'الفتحاوية' فقد تربيت في أحضان شرفاء قيادات فتح واقتسمت اللقمة معهم أطعمت أولادي من أموال الشعب الفلسطيني، وربيتهم وألحقتهم في طفولتهم بدور الحضانة التي كانت تضم أبناء الشهداء من كل المنظمات الفلسطينية، وبعد 'أوسلو' قاطعت الجميع وعشت في وطني- مصر- لا أتصل بأحد ولا يتصل بي أحد، وتنبهت للرجل وهو يكمل حديثه في غضب وأسى شديدين: 'كان عرفات يؤكد دائما على أنه سوف يبقى أي حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر أية مفاوضات سوف تجرى بعد ذلك من 'مدريد' حتى 'أوسلو' مكتسبا لشرعيته مستمدا هذه الشرعية من الاجتماع الثاني عشر للمجلس الوطني الفلسطيني الذي تم سنة 1974، وكان 'صائب عريقات' لم يكتشف بعد فالرجل كان سنه في 1974 لا يتجاوز الثالثة والعشرين حيث اكتشف سنة 1991 أن 'الحياة مفاوضات، عندما كان يتفاوض مع الإسرائيليين في 'أوسلو' هذا طبعا بعد حصوله على الشهادة الجــــامعية من جـــــامعة سان فرانسيسكو الأمريكية وجامعة برادفورد البريطــــانية- التي حصل منها على درجة الدكتوراه في دراسات السلام ثم تلقى الهدية بعد 'أوسلو' فأصبح هو أول وزيــــــر للحكم المحلي في أول حكومة تشكلها السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات فأخذ يؤكد سنة 2008 في كتابه أن 'الحياة مفاوضات'، والآن يقولون أنهم سوف يبدأون المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل وأنا أسألك ومتى توقفت هذه المفاوضات اللعينة؟ كان ياسر عرفات يتفاوض مع الإسرائيليين عبر كوادر فتحاوية منذ عام 74 - لم يكن صائب عريقات قد ظهر بعد- حيث تقابل 'سعيد حمامي' في لندن مع 'مكسيم جيلان' وهو كاتب وصحافي وشاعر، وهو رئيس تحرير مجلة الدراسات الإسرائيلية والفلسطينية الإستراتيجية المعاصرة التي أسسها في عام 1971 بالتعاون مع 'لويس مارتون' و'مكسيم جيلان' هو أيضاً المؤسس الحقيقي لاتحاد السلام اليهودي العالمي (JPU) وهي أول جماعة يهودية تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية(PLO) كشريك في الحوار، أما 'سعيد حمامي' فقد كان عضوا في 'المجلس الوطني الفلسطيني' وممثلا لـ'منظمة التحرير الفلسطينية' في 'لندن' حيث اغتيل في مكتبه في لندن 1978 برصاصات أطلقها عليه شاب قيل يومها إنه عربي الملامح إلا أنه لم يتم القبض عليه وانصبت الاتهامات على فلسطينيين منشقين حيث كان بعض الفلسطينيين المنشقين على عرفات قد أخذوا على عاتقهم قتل كل من يدخل في حوار مع الإسرائيليين وقد ألّف الكاتب الإسرائيلي المعروف 'يوري أفنيري' كتاباً أسماه 'صديقي العدو' على 'أبو نضال' أشهر المنشقين الفلسطينيين على عرفات، وقد تقابل 'سعيد حمامي' عدة مرات مع يوري 'أفنيري' وزوجته 'راشيل'، وفي عام 75 تقابل 'عبد الله حوراني' مع 'يوسي أميتاي' وفي عام 76 تقابل 'عز الدين قلق' مع 'عاموس كينان' وقد اغتيل 'عز الدين قلق' في مكتبه في باريس، وكان 'عصام السرطاوي' في عام 76 قد ترأس مجموعة مكونة من 'صبري جريس'، و'إلياس فريج' و'عماد شقور' ومعهم 'محمود عباس' قد تقابلوا في عدة جلسات تفاوضية في 'باريس' مع 'متتياهو بيليد'، و'لوفا إلياف'، و'يعقوب أرنون'، و'يوسي أميتاي' و'ماكس تبكتين'، و'عوزا - أولغا - مارجوني'، و'ديفيد غورين'، و'هرمان ايغلسبرغ' وكان 'عصام سرطاوي' ممثل 'منظمة التحرير الفلسطينية' في العاصمة البرتغالية 'لشبونة' وعضو اللجنة المركزية لحركة 'فتح' من أشد الداعين والمتحمسين لعملية التسوية التي كان يرفضها قبل استخدام 'عرفات' له في التفاوض مع الإسرائيليين وقد اغتيل 'السرطاوي' في 'لشبونة' أثناء اشتراكه في مؤتمر مع 'شيمون بيريس' رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق في عام 1984 حيث توجهت أصابع الاتهام كالعادة أيضا إلى 'أبو نضال'، وكــــتب الرصـــــاص المنطلق نحو صدور المفاوضين سرا شهادات الوفاة'. قاطعـــــت استرسال صديقي الفتحاوي الغاضب قائلا: 'هل لديك وثائق تثبت ما تقول؟' ضحك الرجل بقســـوة وقال: 'وهل تريد وثائق لإثبات ذلك أكثر من شهادات الوفــــاة التي كتبت باسم كل من قام بهذه المفاوضات؟' قــال هذا ثم بلـــع ريقه وعاد يقول في أسى: 'قال صائب عريقات في كتابه أن الحياة مفاوضات وها أنا أقول له أن المفاوضات حياة وشهادات وفاة أيضا'.
حل صمت عميق من حولي وعندما فتحت عيني لم يكن الرجل موجودا ولم أعرف حتى هذه اللحظة هل كنت أتحدث فعلا معه أم أني كنت أتحدث مع نفسي.
' روائي مصري
نقلا عن صحيفة القدس العربي