من موت الآخر إلى موت الذّات
في ديوان 'الموتى يقفزون من النافذة' لفتحي عبد السميع:
ممدوح فرَّاج النَّابي
January 30, 2014
شَغَلَ الموت بمعناه الوجودي والمجازي الإنسان، ومثَّلَ هاجسًا مُقْلِقًا للشُّعَراء الذين تنوَّعت رؤاهم له، فبعضهم رأى فيه وجه الحقيقة الغائب والمتخفي في أبعادٍ فلسفيةٍ، فاستحضره دون قلقٍ أو جزعٍ وهيَّأَ نفسه له عبر رثائه لذاته كما فعل الشَّاعر القديم مالك بن الريب في قصيدته التي يقول فيها: ‘ولـــما تراءت عند مرو منـيّـتـي / وخلَّ بها جسمـي وحـانت وفـاتـيـا / أقـول لأصحـابي: ارفعوني فــإنني / يقـرّ لعينـي أن سُهيـل بـدا ليـا / فيا صاحبي رحلي دنا الموتُ فانـزلا / برابيـة؛ إني مـقـيـم لـيـالـيـا’. وبعضهم رأى فيه وسيلةً للتمرُّد على فداحته وأهواله، بمقاومته والتمسُّك بالحياة، على نحو ما فعل أمل دنقل في مراوغاته للموت فقاوم ملاكه الذي خايله في كُلِّ الموجودات والملموسات، إلى ثالثٍ رأى في حضوره وسيلةً لاستدعاء صوَّر الرَّاحلين واجترار الذكريات.
لا تنفصلُ تجربة الشاعر فتحي عبد السميع في ديوانه الجديد ‘الموتى يقفزون من النافذة’ الصَّادر مؤخرًا عن سلسلة تجليات أدبية عن هذا السِّيَاق، فالموت يحاصره من الإهداء إلى الخاتمة، بل تُلِحُّ تجربة الموت داخل النصوص، بكافة مستوياتها الواقعية عبر استحضاره لصور مَن فَقَدَهم بالموت (الأصدقاء، والأب، والجدة، والأقرباء..)، أوعبر صوره المجازية التي تعكس قتامة واقعه في صورة عبثية حاضرة من المؤشر الأوَّل العنوان الذي يقلب الصورة السائدة للموت الساكنة والمستسلمة إلى صورة متمردة عليه، الموتى فيها يهربون ويقفزون مِن النافذة، ولكن دون أنْ ندري إلى أين؟! ومع غياب الاتجاه المقصود تنفتح مجموعة النصوص على تساؤلاتٍ كلها تعود وتصبُّ في المحك الأوَّل الموت وماهيته, وأسبابه وألامه ونتائجه وأيضًا طقسيته.
رسائل الاحياء
يُقَسِّمُ فتحي عبد السميع ديوانه إلى أربع مجموعات لا تنفصل عن التيمة الأساسية التي تُشكِّل خيطًا ينسرب إلى جميع نصوص الديوان، بل إنّ الأقسامَ الأربعةَ تأخذنا في لُعَبةٍ مع الموت بغرض إظهار حقيقته في اصطياد فريسته، ومِن ثمَّ يغدو كـ ‘طُعم لاصطياد الروح’ في بعض لحظاته الخادعة، لينتهي في مآله الأخير إلى ‘جنازة هادئة’ تتناقض مع قسوته وآلامه. كما يشير الجزء الأخير من الديوان والذي يحوى ثماني قصائد كلها بمثابة احتفاء بطقسية الموت كما تتجلَّى في بيئة الصعيد، وكأن الشَّاعر لا يقتصرُ على وصف الموت في أبعاده المختلفة، وإنما يتتبعه فيما يخلِّفُه مِن آثارٍ على ذات مَن وقع عليها فِعله أو أصابها سهمه. هكذا تأتي القصائد بترتيب حدوثه (معهم وراء النعش / مندرة العائلة / طمأنينة الأشقاء / الناحرون كأصدقاء / نشيد الميتم / تهم بابتسامة ولا تتمها، ليصل في نهاية الطقسية لشكر الله سعيكم لمن جاء وقدَّم واجب العزاء، ثم دقيقة بعد الختام). ويولِي الشّاعر عناية وترتيبًا لما بعد الموت منذ خروج النعش ثم ما يتبع هذا من طقسية العزاء في مندرة العائلة، لمواساة أشقاء الميت، إلى النحر والذبح كقربان للميت، إلى عديد النساء، وصولاً إلى تعقُّب المُعَزين وشكر سعيهم الحميم. كما يقدِّمُ الشَّاعر احتفاءه بالموت الذي لا ينفصل عن بيئته التي ينهل منها وهي بيئة شديدة الخصوصية منذ أن جسّدت الصورة الجنائزية له على معابدها في احتفاء طقسي بهذه الشعيرة، وما تواردَ مِن برديات الموتى ورسائلهم للأحياء. العجيب أنَّ الشَّاعر يرى في الموت الذي غَافَلَ مِن قبل صديقه (كرم الأبنودي) وأخذ ساقه لتدفن مع الأخرين / الأموات، فخدعته بأنْ صارت وسيلةً لاستدعاءِ بقية الأجزاء؛ صورةً مناقضة لحالة الفِقْدِ والتَّفَرُّق والتَّشتُّت التي يَخْلفُها، بل يراه ‘وحده يلمّ شمل العائلة/ ويربك الحداثة / يجمع الخُطى من الشوارع البعيدة’. هكذا يخلق فِعْل الموت معنىًّ مُنَاقِضًا لما هو سائد، معنى مفعمًا بالحيوية والحميمة والألفة والحينن لزمن فيه ‘ثمَّة بهجة’ مع الأسف ‘لم تعد تجمعنا بها إلا الجنازات’، أو أشياء مفتقدة كالأحضان الدافئة التي ‘تتم في السِّرّ’.
التبرك بالأولياء
منذ العتبة الأولى الإهداء يطل الموت في صورة استدعاء الغائبين شخصية ‘سليمة أحمد محمود العَفِي’، الغائبة بفعل الموت، ليقوم الشاعر في لعبة مضادة باستحضارها وبعث الحياة إليها على الورق بإهداء الديوان إليها، وأيضًا عبر أفعالها التي تجعل مِن فعل الموت طقسية تُمارسها كُلَّما ضاقتْ بها الدُّنْيَا حيث ‘تجلس عند السُّلَّم الطيني / تكرُّ غناءَ الجنائز / وتُحرِّض الموتى على العالم’ في أشبه بفعل طقسي سيتكرّر كثيرًا داخل النُّصوص. ومع أن الموتَ يُضْعِفُ النفوس ويصيبها بالهشاشة إلا أننا في الديوان نلمح له بُعدًا آخر حيث النَّفْس تزداد صَلفًا وَعِنادًا وكأن الموتَ الذي هو فعلُ انكسارٍ لا تأبه به الذَّات ليَحْمِلهَا على القسوة والغلظة فالعم لا ينسى أنَّ البنتَ تزوجت الغريب من العائلة الأخرى ولذا فما أن تنزل من السَّيارة يكاد يتفجر غيظًا ‘لأن الكلبة دخلتْ بيته ولم تمكث دقيقة بعد الختام’ كي ‘يفجِّر كفَّه فوق صدغيها / ويثنِّي علي ساقها بشمروخ’
كما تحضر في الديوان عناصرُ البيئة الصعيدية، سواء في أعرافها وأنساقها، مثل عدم زواج البنت من الغريب كما في قصيدة ‘دقيقة بعد الختام’ أو في عاداتها مثل عادة التبرُّك بالأولياء كما في قصيدة ‘مكابر يبكي بشكل مختلف’، حيث الطفل الذي تطوف به الأم حول مقام السيد عبد الرحيم القناوي، فيشرب مِن القِرْبَةِ فلا يسيلُ اللعاب مرَّة ثانية، وأيضًا عادة ‘رسم الوشم’ كما في قصيدة ‘الوشم’ التي يصرخ فيها الضعيف مُستدعيًا قوَّة الأسد التي يفتقدها فيقول:’أريدُ أسدًا يا دقّاق الوشم / أريده غاضبًا، بأنياب حادة’، أو حتى العِدّيد والنحيب كجلوس العواجيز على سلالم الطين للنحيب، أو خط الفَصى (نواة التمر) لمعرفة الطالع، أو عبر أدواتها ومفرداتها، كما هو واضح في قصيدة ‘قُلّة أبي’ و’المسرات القديمة’. فتتردد على طول الديوان ألفاظ كـ (نُقَّارة، البوص، قراونة، الجرَّة، الزير، السُّلم الطيني، جردل، مقشة، المزمار، العصا، الفصى، قلة، دِكَّة، ليفة، الزرازير، شمروخ، الشال، التسبيل، جميزة) فيقدِّم لنا الشَّاعر مُعْجَمًا مُفْعمًا بالألفاظ المحلية وفي سياقاتها المختلفة، ومع احتفاظه بمجازاتها وشعريتها رغم إفراطها في الواقعية والبساطة.
حضور الموت
يأتي توظِيف الشَّاعر للأشياءَ الملموسة، توظيفًا يتلاءم مع الطرح العام للديوان، حيث ثمَّة حضور لأدوات الموت، وإنْ كان حضورها مرتبطًا بالفعل ذاته، بدءًا من النبابيت والبندقية التي ‘ينظفها بالزيت والقسوة’، إلى الـ (أر بي جي) الذي يتوهّم أنّه حامله، مرورًا بالشمروخ والعتلة والمسامير، وجميعها أدوات تُسَاهِم بشكلٍ مُبَاشِرٍ في فِعْلِ الموت. وتفاعل ذات الشاعر مع الأشياء التي حوله، يُضفى عليها أنسنة بتجرديدها من ماديتها، حيث يقيم معها حوارًا، على نحو طرف بنطلون الصديق المنكَّس كرايةٍ وهو: ينظر له ويهمس قائلا ‘لا فراغ في العالم / لا فراغ إلا في النفوس المعطوبة’، أو ما نجده بارزًا بصورة كبيرة في قصيدة ‘منديل ورقي’ التي يتتبع فيها حالات المنديل وأشكال استخدامه وما يعتريه مِن حُزن داخلي منطوٍ وكأنَّه موات معنوي، وهو ما يتكرّر في قصيدة ‘مندرة العائلة’ التي يُخاطبها الشَّاعر مُظهرًا حالات الابتهاج التي تكون عليها أثناء الجنازات ‘تنتظرينه بصبرٍ مسلوخٍ / لتدور المراوح / ويختفي الصمت والغبار / تختفي الخنافس والعقارب’ وما أن تنتهي أيام الجنازة الثلاثة حتى تعود:’عجوزًا تلمّ في حجرها الصّمت والتراب’ وهي التي كانت في أثناء العزاء ‘كطفلة تنامين قبل الفجر / مسرورة بتهريج اليتامي’
حسرة وألم
في الديوان حسرةٌ وَأَلمٌ وَفِقْدٌ ونَحِيبٌ حيث’..صرخاتها تَشْرُك الصدور’ وأيضا غضب وثورة على الواقع المزري الذي جَعَلَ الموتَ لا يأتي في صورته الطبيعية وإنما منحه منحىّ تراجيديًا، فيكتب عن أشكاله غير المتوقَّعَة كـ (اصطدام سيارة بأخرى / أو انفجار أنبوبة الغاز / أو تجلُّط المخ؟)، أو حتى صوره التي تأتي كإدانة لسياسة الدَّولة التي عجّلت به، كأنْ يأتي الموت (في عبّارةٍ غَارِقَةٍ / أو قطارٍ مشتعلٍ / أو بيتٍ مُنْهَارٍ)، أو حتى في صورة ‘صندوق’ لشابٍ مُغترب عَاد به الأقارب إلى ذويه. كُلُّ هذه الصّيغ تشير إلى ثمّة فَسادٍ متحقِّق وإنْ لم يُسَمّه، لكنه متحقّقٌ بنتائجه، ومن ثمَّ فعندما يأتي الموت في غير صورته الأليفة التي اعتادها تُمثِّل دهشة للشاعر لذا يقول ‘لم يحدث في تاريخ البلدة أنْ ماتَ شقيق في عزاء شقيقه’، وهو ما يبيّن لنا أسبَاب حزن الشاعر التي بعضها يعود لأسباب ذاتية كفقده أصدقاء أو أقرباء، أو أسباب موضوعية تتعلّقُ بالواقع المأسوي الراهن، ومَا خَلَّفَهُ مِن أَمْرَاضٍ وَأَحْزَانٍ.
تلعبُ المفارقة التي يعتمدها الشَّاعر كبنية أساسية في كثير من قصائد الديوان إلى إيصال المعنى الآخر الذي يتجاوز بساطة الألفاظ، إلى فداحة المصاب. ففي القصيدة التي تحمل عنوانًا مناقضًا لدلالتها ‘عيد الحب’ يأخذنا الشَّاعر في مفارقةٍ تبدأُ من العُنوان، يُهيئ بها أفق القارئ إلى مناسبة تحمل قدرًا من السَّعادة والبهجة بانتشار اللون الأحمر الذي يتهادى المحبون هداياه، إلى معنى آخر يكون اللون الأحمر هو صلته الوحيدة بهذه المناسبة فيقول الشَّاعر ‘في عيد الحب / لم ألتقِ إلا بقاتل / يفكّ بندقيتَه / ويغسلها بالزيت والقسوة / يطهّر الفوهة مِن الصرخات / والزنادَ مِن تطفُّل الندم’ نفس هذه المفارقة التي تشغلها مرثية الشاعر لصديقة الشاعر كرم الأبنودي، حيث تُصْبح أعضاء الشَّاعر الرّاحل حاضرة مع أصدقائه في حين ذاته مع السَّاق المبتورة التي دفنت مع الآخرين (الرَّاحلين)، وكأنّ الشّاعرَ وهو يلفت انتباه صديقه إلى أنّ وفاته لم تأتِ خدعة، أو احتيالاً مِن مَلاك الموت، بل كان يُعِدُّ لها منذ أنْ سبقته ساقه لتهيء المكان لباقي الجسد، وهو ظاهر في حالة التشتت بين الحضور والغياب التي رأه عليها الشَّاعر (فمُكَ معنا / عَيناكَ معنا / لكنك مع ساقك المبتورة / وهي تنام وحيدة مع غرباء / جاءوا بكامل أعضائهم./ هل تحسدها / لأنها سبقتك إلى رؤية الملائكة؟ / أمّ تخشى نداءها على أشقائها؟). ثم يستمر الشَّاعر رابطًا بين المأساة التي عاشها صديقه، وبين حياته التي ارتبطت بفن الحزن وهو يجمع المأثورات مِن أفواه العجائز في إشارة إلى كتابه ‘فن الحزن’. وبالمثل تطل المفارقة السَّاخرة في قصيدة ‘أر بي جي’ حيث الذَّات الشّاعرة المشبَعة بالخيالات، والتي تنسج أحلامًا من واقع أسطوري شاهدته في معبد حورس، وما بين الحُلم والأمنيات، في صراع الوحش المتخيَّل، يطل الواقع الذي يكشف عن هشاشة الذَّات في مواجهة أشباح الواقع، وبينما هو غارق في أحلامه ‘وعند المنعطف المعتم / تقفز قطة من صندوق القمامة / يهتز الأر بي جي / وتخرج طلقة من مؤخرتي’ في سخرية تعكس الفرق بين طلقة الأر بي جي وطلقة المؤخرة، فالأولى طلقة الشَّجاعة والثانية طلقة الخوف والجبن، وما بين الاثنتين تظهر فداحة الواقع الذي يحيل الأحلام إلى كابوس.
تفاصيل التفاصيل
تبدو الذَّات الشَّاعرة في حالة صراعٍ بين رفضها لما تقوم به الجماعة امتثالاً للنَّسق، من خلال السُّخرية والتهكّم مِن هذه الأفعال، وتلك الأنساق التي تحكم الأفراد والجماعة، كما واضح في معاملة الفتاة التي تتزوج من خارج العائلة لتصبحَ في حكم الغريبة والمطاردة فما أن جاءت لحضور العَزاء بأطفالها من السويس، وهي المتزوجة ‘من قبيلة أخرى’ حتى تناسى القائمون أمر الجنازة وتذكروا في حشدٍ جماعي ‘عار العائلة / زوجة ابن الكلب / والكلبة / والكلاب / نسل القبيلة المجاورة’، وكأننا أمام مراثي اليمامة بنت كليب في أبيها وهي تحضُّ على الثأر، وفي بعض الأحيان يَنْسَاقُ الشَّاعِر لترديد أفعال النَّسق، كأن يَذْكُرُ الشَّاعر الأفعال التي تحدث مع النعش الذي يطوف حول البيوت التي يحبها وأخرى يطلب منها الغفران امتثالاً لتلك الرُّوح الشعبية الغارقة في معتقداتها الخاصة والتي تتردَّد في مثل هذه البيئات فيقول الشَّاعر: ‘يجبرهم علي الدوران حول بيوت يحبها / وأخري يطلب منها الغفران / يحلق لحظات في الهواء / برجال يكبِّرون ويهللون’، وهو ما يشير إلى أن وعى الذّات الشَّاعرة في صراعه مع أنساقه، وعي محكوم بلا رفض كلي، أو تأييد كلي، وإنما هو خاصغ لمدى قبول ما يفرضه النسق مع وعي الذات.
ثمة حضور كثيف للتفاصيل المشهدية وولع بتجسيدها، وهو ما يجعل القصائد في جانب منها تميل إلى الطابع السَّردي، دون أنْ تتخلى عن شعريتها، حيث ثمَّة حكاية قابعة خلف التفاصيل المكتنزة والمقتضبة، التي يقدُّمها الشاعر، وهو واضح (في قصائد: ناى فى الهواء، وليلة في عروق أخرى بمقاطعها الأربعة: يد تدفع الظهر، الشوارب في غيابنا، عشية الحرب، هامش وربما المتن، والمسرات القديمة، وقلَّة الأب) وتفاعل الذَّات الشَّاعرة مع حضور الموت بأشكاله المتعدِّدة وأسبابه المختلفة يجعلها تزداد حنقًا، لدرجة التماهي مع الموت ذاته، وإنْ كانت سيطرة الموت المعنوي تصل بالذَّات الشَّاعرة إلى حالة من الاستسلام التي تكشف عن كم الفواجع والانكسارات التي مُنيت بها هذه الذَّات على مستوى أناتها، مِن فقدٍ متعدِّد إلى مستوى العام حيث الفواجع متكثرة، ومتوالية تنتهي بها في خاتمة الديوان إلى حالة من الضبابية والسوداوية، حيث ظلال الموت منسوجة على كل ما يراه وهو ما يبعث في ذاته الحنق والغضب حتى أن هذه الذَّات لا تجد مفرًا كما تقول ‘أينما وليت وجهي / ثمة ما يستحق التحطيم’ ومع إصرار الذَّات على فعل المواجهة إلا أنه يتسرب اليأس إليها بل والعدمية حتى إننا نخاله يسير ‘مثلما يسير أي ميت / ببطء وبلا اكتراث’ ويستمر في حالة الموات المعنوي: ‘لا أحاولُ العثور على تفسير / لاستحالة أن يحيا الخلق بلا عداوات / ولا أجد مبررًا للسؤال / عن سرّ بقاء الأقنعة والأكثر توحشًا لا أجد مبررًا لأيّ انشغال بالآخرين / كأيّ ميتٍ’.
ومن ثمّ تقع الذّات الشاعرة في الدائرة التي كانت تنظر إليها من خارجها، أي دائرة الموت، فلا يرجو الشَّاعر من ذاته إلا أفعال جميعها تكشف عن حالة استلاب الروح والذات معًا، كأن لا يفكر إلا في ‘رعاية الطحالب التي تنمو حول جروحي / أو تّفَقّد الذين أحببتهم / دون أمل في أن يروني’، العجيب أن عجزه يصل إلى الاستسلام لقاتله الذي أخرجه من حساباته، فبينما هو ينظر إليه يتحسّس موضع خنجره أما القاتل فـ ‘لا يتوقف عن جرع الماء’.
بهذه المعاني التي نثرها الشَّاعر ثمَّة تأكيد على شيئين؛ الأَوَّل أنَّ ثَمَّة شُعَراء مخلصين لأعمالهم بالتجريب تارة والمغامرة تارة ثانية للوصول إلى مَرحلة الصُّقل والفرادة، دون الالتفات للصخب الدائر عن مشروعية المنجز الذي يعملون عليه وفتحي عبد السميع واحد منهم, والشيء الثاني أن قصيدة النثر مع الجدل حول مشروعيتها تأخذ مَسارًا مُختلفًا بابتعادها عن المستهلك واليومي والمبتذل الذي سعى روادها لتكريسه كنوع من التمييز لها، إلى الإخلاص لغرض من أغراض الشعر المهجورة، وهو شعر الرِّثَاء، وإحيائه بما يتلاءم مع مستجدات الواقع الجديد، في إشارةٍ ذات مَعنى لعدم انفصالها عن التراث الشعري، حتى ولو تبّنت إتجاهاتٍ وأفكارًا مغايرةً عن السَّائد والمطروق.
‘ ناقد مصري