‘أبو عرب’.. ‘زجال فلسطين الأكبر’ رحيل لاجئ حالم بالعودة
لحن وغنى أكثر من 300 أغنية وطنية أشهرها 'من سجن عكا'
سعيد أبو معلا
March 6, 2014
عاش الفنان الفلسطيني إبراهيم محمد صالح الملقب بـ’أبو عرب’ لاجئاً وبقي يحلم بالعودة إلى أرضه
فلسطين التي أحبها حتى درجة العشق، حتى غيبه الموت، الأحد الماضي، بعد صراع مع المرض في مدينة حمص السورية عن عمر يناهز 83 عاماً.
شُيع ‘أبو عرب’ كـ’الشهداء’ تماماً، ولف بالعلم الفلسطيني، والكوفية التي كان يتوشح بها وهو حي يرزق، وسار به لاجئون ‘بسطاء’ مثله عرفوه وسمعوه وتربوا على أغانيه بحزن وخشوع.
ورمزية الفعل الشعبي الفلسطيني هذه تدلل على طبيعة الفنان الراحل، فلقب ‘الشهيد’ لا يوجد أرفع منه في قاموس النضال الفلسطيني، فكيف لو كان لصيقاً ‘بزجال’ و’حادي’ فلسطين الأكبر، الذي لطالما أمتع آذان محبيه بأغانيه، وأهازيجه الشعبية، والوطنية، والثورية، والفولكلورية ذات النكهة الفلسطينية، تلك الأغاني والمواويل التي رددتها الحناجر الفلسطينية في المناسبات الوطنية والكفاحية، وحتى الأعراس العامة.
و’الزجل’ أو ‘الحداء’ هو أحد أشهر أنواع الغناء الشعبي الفلسطيني (وعموم بلاد الشام) لكنه، في الحالة الفلسطينية، رمز للحفاظ على الهوية والتراث الفلسطيني والتمسك به، والراحل ‘أبو عرب’ (1931 – 2014) يعتبر خير من قام بذلك وزاد عليه حتى عرف باسمه وتجذر.
بهيئته الشعبية (الكوفية والعقال) والتي لم تتغير طوال سنوات كثيرة، كرس ‘أبو عرب’ ذائقة فنية وثقافية طالت الشخصية الفلسطينية أينما حلت أو ارتحلت، وتشكلت نجوميته التي تتجاوز وسائل الإعلام التقليدية، وأغاني الفيديو كليب.
فمن أغاني الثورة القديمة التي كان يسمعها الفلسطينيون خلسة عبر الإذاعات الخاصة بالثورة، أو يتبادلونها عبر مسجلات الصوت، تشكلت نجومية الفنان الفلسطيني الراحل، وهي نجومية لم يوازها مثيل، نجومية صنعها البسطاء والمشردون والحالمون بالأرض و’الدار’ و’البيارة’(أرض واسعة تمتلئ بالأشجار) والبحر…الخ، وعموم مفردات اللجوء والشتات، لترتبط هذه النجومية بضمير ووجدان الفلسطيني.
كانت أغاني ‘أبو عرب’ تعبيراً عن ربط اللاجيء الفلسطيني بأرضه، ويقين عودته إليها مهما طال الغياب، وهو ما جاء مقروناً بأحزان دفينة، وغائرة، وحنين راتع بالبكاء والتمنى تارة، وبإيمان عميق بالعودة والنصر اعتماداً على خيار المقاومة والنضال واستعادة الحقوق تارة أخرى.
ويعتبر ‘أبو عرب’ أحد أبرز فناني وشعراء الشعب الفلسطيني، وصاحب الصوت ‘الثوري’ الذي كان له بالغ الأثر في المحافظة على الموروث الثقافي التراثي الفلسطيني المهدد دوماً بـ’المحو والطمس′.
والفنان الراحل من مواليد قرية الشجرة، قضاء طبرية في فلسطين المحتلة سنة 1931، وتنقل من
لبنان إلى
سوريا وتونس ومخيمات الشتات في العالم، محملاً الأغنية التراثية (قديمها وحديثها) مفردات القاموس النضالي الفلسطيني.
شهد في طفولته انطلاقة الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 ضد الاحتلال البريطاني، والتي كرس لها جده أشعاره للإشادة بالثورة، وتشجيع الفلسطيني على المقاومة والصمود، وتحريض الشعب ضد المحتل البريطاني.
وفي دفتر تاريخه، فجع ‘أبو عرب’ بمقُتِل والده عام 1948 خلال اجتياح ‘الميليشيات الصهيونية’ لفلسطين، فيما ‘استشهد’ ولده عام 1982 خلال اجتياح جيش الإحتلال الصهيوني للبنان.
وقدم ‘أبو عرب’ أول أغانيه عام 1966، كما أعاد توزيع مجموعة من أغاني التراث الفلسطيني بعد تغيير مفرداتها لتتلاءم مع الواقع الجديد، مثل الأغنية الأكثر شهرة ‘يا ظريف الطول’ وهي من أغاني الأعراس التي تحولت على يده لأنشودة تتغنى بـ’الفدائي الفلسطيني وعملياته الجريئة’، ومن ثم أغنية ‘شيلوا (ارفعوا) شهيد الوطن’.
واستكمل حياته الفنية بشكل مكثف ومنتظم عام 1978 حين طلب منه عضو اللجنة المركزية في حركة ‘فتح’ الراحل، ماجد أبو شرار، العمل في إذاعة ‘صوت فلسطين’، وتسجيل الأغاني، والأهازيج الوطنية، وسجل في الإذاعة أكثر من 16 شريطاً يحتوي على أكثر من 140 أغنية استمر تسجيلها حتى عام 1982، ومن ثم أصبح مسؤولاً عن الغناء الشعبي في الإذاعة.
وكان قد أسس فرقتة الأولى في الأردن سنة 1980، وسميت حينها بـ ‘فرقة فلسطين للتراث الشعبي’، وكانت تتألف من 14 فناناً، وبعد مقتل رسام الكاريكاتير الفلسطيني ‘ناجي العلي’، وهو أحد أقاربه تم تغيير اسمها لتصبح فرقة ‘ناجي العلي’.
في رصيد ‘أيقونة’ الأغنية الشعبية الفلسطينية تأليّف، وتلحّين، وغناء أكثر من 300 أغنية وطنية، من أشهرها: ‘من سجن عكا’، ‘العيد’، ‘الشهيد’، ‘دلعونا’، ‘يا بلادي’، ‘يا موج البحر’، ‘هدي يا بحر هدي’، ‘يا ظريف الطول زور بلادنا’، ‘أغاني العتابا والمواويل’.
وفيها تنوعت الكلمات والمضامين والأشكال وامتد تأثيرها إلى حيث تواجد الفلسطيني في الوطن والشتات ما جعله يوصف بكونه ‘مكتب تعبئة وتنظيم متنقل’، فسكن الوطن بكلماته الحارة الملتهبة شوقاً وحزناً. فغنى للبحر، والحجر، والشجر، وطائر الحسون، والدار…الخ، جاعلاً من أغانية ‘جسراً حياً ربط ذاكرة اللاجىء بالأرض التي هُجر منها’.
وتنوعت أغاني ‘أبو عرب’ بين ثيمات ومضامين مختلفة، لكنها جميعاً تسير في طريق واحد من دون أن يمل منها المستمع المستغيث بفن يعكس مشاعره، ويقدم لوعاته، ويشفي جروحه التي لم تندمل بعد، فأغانيه كانت وما زالت تندمج مع المستمعين من دون أن تبتزهم عاطفياً أو ‘تضحك عليهم’ بل كانت تلعب دورها الكبير في حثهم على النهوض، وإيقاظ ذاكرة مليئة بالوجع، والمصائب والهزائم.
ومع قدوم أوسلو واتفاقيات السلام عام 1993 خبى وهج حضوره أسوة بغيره من المطربين الوطنيين، فبدا وكأن المسار السياسي الجديد قد حيده تماماً، لكنه كان يستعاد من الإدراج والذاكرة مع كل هبة شعبية أو ذكرى أليمه إلى أن عاد إلى أرض الوطن عام 2011 (عبر زيارة قصيرة) حيث قدم مجموعة من الحفلات الناجحة، فظهر في أبهى حلة.
لكن أغاني ‘أبو عرب’ التي حفظها الجمهور عن ظهر قلب بدت غريبة عن اللحظة السياسية الراهنة المرتبطة باتفاقات التسوية، والمفاوضات، ومساومات الساسة، ومع ذلك كان تفاعل الجمهور معه خلال زيارته لفلسطين عفويا، فاستحضر أحلامه القديمة ونفخ في روحه من جديد.
أما لحظة فراق ‘زجال’ فلسطين، وصاحب ‘الكلمة الحرّة’، وصوت ‘المنفى الأكبر’، فهي كما يقول نقاد فلسطينيون ‘فرصة نادرة وثمينة للنظر بعيداً في الخطاب الغنائي الفلسطيني الجديد، وفي الحلم الفلسطيني ذاته، ذلك الحلم الذي تهشم كثيرا بعد أن لعب الغناء الوطني وأبو عرب دوراً كبيرا في بنائه وصيانته’.