الليلةُ الثانيةُ والثلاثون
الشاعر سليمان العيسى
فلما كانت الليلة الثانية والثلاثون(1)
قالت شهرزاد:
بَلَغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي السديد، والحُلُم البعيد، أن الفتى "خَوْلان" كان يحملُ ربابَتَه، ويُذيبُ قلبَه حبَّاتٍ على الوَتَر يُسمُّونها قصائد، تشتهيها الأعناقُ الحلوةُ قلائد..
فلما رأى "خولةَ" الصبيَّة الناعمةَ السمراء، وكانت أعنفَ من الشعرِ، وأعذبَ من الضياء، وقد قَدِمَتْ لتوِّها من مكانٍ بعيد(2)، بفكر متوقد وروح جديد، أحس أن هذه الصبية التي تتفجر حيويةً ورقة، هذه الأُغنيةَ الشاردة قد خُلِقت لربابه، وخُلِق لها.. وأنه منذُ اللمحة الأُولى قد صار واياها نغمةً واحدة.
كان يحمِلُها.. ويَطير بها بعيداً في ضوء القمر، يمشيان حول المدينة العريقة الكبيرة(3)، مدينة الصخرِ والنسمة الجافة الناعشة.. يمشيانِ منذ هبوطِ المساءِ، حتى يتعبَ الليل.. يداهما متشابكتان، وعيناهما تَبرقان بالحب والسعادة، وخُطاهما أشبهُ بنقرات "البيانو" المتلاحقة الرشيقة، في واحدةٍ من المعزوفات التي تَزخَر بالشعر والحياة.
وعلى درَّاجة عادية لا يتردد احياناً أن يحتضنها أمامه، ويطوف بها بعض الشوارع الظليلة، إذا تعبا من السير على قدميهما، غير مبالٍ بشيء.
فإذا ما طَلَع النهار..
انغمسَ هو في عمله المضني الدَّؤوُب..
وانغمستْ هي أيضاً في عملٍ مماثل..
المُتحابَّانِ الشابَّان.. كلاهما كان يَعمَل.
والعمل في نظرهما جوهَرُ الحياة..
وينبوعُ مَسَرَّاتها الحقة..
ومقياسُ الجدارة الإنسانية.
كان "خَوْلان" أيها الملكُ السعيد، يَطمح الى تغيير العالم.. عالَمِ الوطنِ الذي يعيشُ فيه، والأُمةِ التي ينتمي اليها على الأقل..
وكان مقتنعاً في كل ذرَّة من ذرَّاتِ وجوده أن تغيير العالم شيء ممكن.. وأن ذلك رهن ارادتنا ومشيئتنا، حين نَهَبُ حياتنا كلَّها لفكرة التغيير.
وكانت "خَولةُ" تُشاطره الرأي..
بل ربما بدت، بجسمها الأسمر النحيل، ووجهها الصغير المعبِّر، وعينَيها المُشِعتين، الزاخرتين بالأسرار، أشدَّ حماسةً، وأكثر اندفاعاً منه.
أتمَّت ذات يومٍ عَمَلها عند الغروب..
ووجدَت نفسها تنطلقُ، دون أن تفكر كثيراً، للقائِه في الغرفة الصغيرة المتواضعة التي كان يسكُنها على أطراف حيٍّ قديم من أحياء المدينة الكبيرة، مدينة الصخر، والنسمةِ الجافة الرائعة.
كان ضوءُ القمر..
والنزهةُ الطويلةُ حول المدينة..
النزهةُ التي لا تَتعب..
والأحاديثُ والمناقشاتُ التي لا تنتهي..
حُلُمَ النهار المُرهَق بالعمل.
هذه المباهج الصغيرة المُسكرة
كانت كلُّها بانتظارها.
مَن يُصدِّق، أيها الملكُ السعيد، ذو الرأي السديد، أن شابَّينِ مُتَحابَّينِ يُنفِقان الساعاتِ الطوال، سيراً على الأقدام في ضوء القمر، وهما يتحدثان ويتناقشان في كل ما يخطر على البال من شؤون الفكر والفن والسياسة والمجتمع، والحب، والحياة؟
من يُصدِّق أنهما كانا ينتظران المساءَ بنفادِ صبر، المساء الصافي الجميل، حتى يغرقا في مثل هذه الأُمور؟
حَسبُهما من العالم.. أنْ يكونا معاً..
ذلك كان رأيُهما.. وتِلكَ كانت قناعتُهما.
O
ونَقَرت على الباب..
ونهض هو ليَفتَح.. ويستقبلَ الوجهَ الأسمر الصغير بلهفة مرتعشة، لا تخلو من ارتباك.
واذا هي تُفاجَأُ بالمشهد..
خمسون شاباً – على وجه التقريب – كلُّهم في مطلع العمر، تزدحم بهم الغرفةُ ازدحاماً، لايدري أحدٌّ كيف حَشَروا أنفسَهم في ذلك المكان الضيق، في تلك الغرفة التي يُفترَض أن تكون غرفةَ نوم الفتى، وعَمله وسكناه ووقفوا صامتين، يستمعون الى حديث متوترٍ ملتهب يُلقيه عليهم الشاعر الشاب، وهم يتَلقَّوْن الكلمات بأعينهم وقلوبهم قبل أن يلتقطوها بأسماعهم.
وهمست "خولة" في ابتسامة حلوة مُقتضَبَة:
- ماذا تفعل؟
- أُلقي حديثاً على طُلاَّبي.. سأشرح لكِ فيما بعد بقية الموضوع.
وبسرعة الفَرَاشة التي تطير من سياج الى سياج، في بستان وارف الخضرةِ والظلال، قفزت السمراءُ النحيلة الدَّرَجَ القصير الذي يفصل بين الغرفة والرصيف، وعادت، دون أن تقطع على شاعرها موضوع حديثه.
ولم تمضِ أكثر من ساعة، وبعض الساعة حتى كانا معاً يسيران في ضوء القمر، كما اعتادا أن يفعلا كل مساء.. يداهما متشابكتان، وعيناهما تبرقان بالحب والنشوة.
وفي هذه المرة: قَصَّ الفتى "خَوْلان" على حبيبته الصغيرة "خولة" قصة "العمل الكبير" الذي قرر أن يَهَبه نفسه، وأن يقفَ عليه حياتَه وشعره، قصةَ تغيير العالم، عالم الوطن الذي يعيش فيه، والأُمة التي ينتمي اليها.. على الأقل.
ومنذ تلك اللحظة.. كانت "خولةُ" الصبيَّةُ الناعمةُ السمراء، العنيفةُ كالشعر، العذبةُ كالضياء رفيقةَ طريقه، وشريكته في كل شيء.
كانت واحدةً من الجيلِ الذي ينتمي اليه..
جيلِ الحب والرُّؤى والصَّدَمات..
O
الليلةُ الثانيةُ والثلاثون..
العامُ الثاني والثلاثون..
لا أدري أيها الملكُ السعيد ماذا أُسمي هذا الحُلُم، هذا الطريق الطويل الذي قطعه "خَوْلان" و"خولة" يدين متشابكتين، وقدَمينِ على الأرض، وعينينِ لا تنسيان القَمَر والنجوم.. مهما انهارَ الضوء، وعَرْبَدَ الظلام، ولفظت أنفاسَها النجوم.
انهما ما يزالان معاً، على طريق الحياة..
أحلامٌ تتبدَّد وتتجدَّد.. وكفاحٌ لا يهدأ..
يرتاحان قليلاً.. ويَتعَبان كثيراً.
يَشقَيان.. ويَسعدان..
يَفرحان.. ويتألَّمان..
يحققانِ بعض ما يُريدان..
ويُصدَمان في الكثيرِ مما يُريدان..
شيءٌ واحدٌ.. قَرَّرا معاً أن يكونَ الخيطَ العميقَ المتين الذي يربط أعماق حياتهما، ويَهَبُ وجودَهما معناه هو ارادة التطلُّع والتجديد، ومعاداةُ الراكد والبليد..
إن لم يكن تجديدَ العالم..
كما يرددان دائماً..
فليكن تجديدَ ذاتِهما،
واضاءةَ حياتهما.. قَدرَ ما يستطيعان.
O
وهنا.. أدرك شهرزادَ الصباح..
فسكَتَت عن الكلام المباح.
أيلول 1982
(1) سجل الشاعر هذه اللمحات في عيد زواجه الثاني والثلاثين. وإنه ليعدُّها – بلا تردُّد – أهمَّ الصُّوى وأجملَها على طريق العمر.
ترجمت هذه اللمحات إلى الفرنسية والانكليزية مع ما تُرجم للشاعر من نتاج. انظر: رائحة الأرض، والفراشة
وقصائد أُخرى.
(2) من جامعة بروكسل حيث أتمت تحصيلها العالي في بلجيكا .
(3) مدينة حلب.