"" إسرائيل والسيطرة على غاز القطاع المحاصر ""
ليس من الحصافة في زمن الحرب، استعجال إعلان النصر. لعل من الرصانة الإيمان بمقولة تفاؤل الإرادة وتشاؤم العقل. فالمقاومة في غزة منتصرة بمجرد صمودها، لكن حرب إسرائيل الوحشية عليها مستمرة ومتصاعدة. هل ثمة نور في نهاية النفق؟
لا نور البتة. ثمة نار تؤججها مطامع إسرائيل في وضع اليد نهائياً على احتياط غزة الضخم من الغاز الطبيعي في مياهها الإقليمية. وإلى الغاز، ثمة أسباب أخرى ربما أكثر أهمية لإسرائيل تتطلب استمرار الحرب، كتحويل قطاع غزة برمته أرضاً محروقة غير صالحة لقيام دولة ذات سيادة على مساحة ولو ضئيلة من الأرض تكفي لإطلاق صواريخ من مختلف الأنواع والأمداء، أو كافية لرعاية مجتمع يغصّ بشعبٍ حي وقيادات وقدرات متوثبة تذكّر العالم بأن شعب فلسطين لم ولن يتحول شتاتاً من «هنود حمر»، كالذين فاضوا عن حاجة الغزاة من المستعمرين الأوروبيين القدامى في أميركا، فكان أن «تكرّموا» بإبقائهم على قيد الحياة.
إلى ذلك كله، ثمة حاجة لدى إسرائيل إلى تعزيز مركزها التفاوضي في المباحثات السياسية الدائرة من أجل تفادي العودة إلى الوضع السابق لاندلاع الحرب الصهيونية الثالثة على الشعب الفلسطيني. فإسرائيل ما عاد يناسبها أن يكون قطاع غزة صالحاً لأن يمثّّل حتى مجرد جسم مدجّن في دولة فلسطينية يرأسها رجل من طراز محمود عباس أو سلام فياض. السبب؟ لأن لا مصلحة لها في إقامة أي دولة ذات سيادة بين النهر والبحر، تحول بمجرد وجودها، دون محو اسم فلسطين، وتعيق سيطرة الكيان الصهيوني على الموارد والإمكانات والفرص في باطن الأرض وفي فضائها.
إذ ينشغل بعض الدول في محادثات ومناورات من أجل إيجاد مخرج من حربٍ بات استمرارها إدانة صارخة لتواطؤ فريقٍ منهم وتقاعس فريق آخر، تنكشف الحرب الوحشية عن دافع أساس لشنها هو مخطط إسرائيل للسيطرة على احتياط ضخم للغاز الطبيعي كامن في المياه الإقليمية قبالة غزة، قدّرت شركة «بريتش غاز» الدولية حجمه بما لا يقل عن 1,4 تريليون قدم مكعبة. وفي دراسة موثقة لميشال شوسودفسكي بعنوان «الحرب والغاز الطبيعي: الغزو الإسرائيلي وحقول الغاز قبالة شاطئ غزة»، نشرتها «غلوبال ريسارتش» بتاريخ 8 /1/ 2009، ثَبَتَ أن «للغزو العسكري لقطاع غزة بواسطة القوات الإسرائيلية علاقة مباشرة بالسيطرة على احتياطات الغاز الاستراتيجية الكامنة قبالة الشاطئ وتملّكها».
بحسب شوسودفسكي، اكتشفت احتياطات غزة الاستراتيجية من الغاز الطبيعي سنة 2000. وقد منحت السلطة الفلسطينية شركة «بريتش غاز ــ بي جي غروب» وشريكتها التي تملكها عائلتا صباغ وخوري اللبنانيتان (من أصل فلسطيني) والمعروفة باسم «سي سي سي»، رخصة للتنقيب على النفط والغاز بموجب اتفاق موقع في شهر تشرين الثاني 1999. وجرى تقاسم الحقوق المتعلقة بهذه الحقول الغازية على أساس النسب المئوية الآتية: 60 في المئة لـ«برتيش غاز»، و30 في المئة لـ« سي سي سي»، و 10 في المئة للسلطة الفلسطينية (صحيفة «هآرتس» بتاريخ 21 /10/2007). كما انطوى الاتفاق المذكور على بنود بخصوص تطوير حقول الغاز وإنشاء أنابيب لنقل كمياته المستخرجة (مجلة «ميدل ايست ايكونوميك دايجست»). ويقول شوسودفسكي إن الرخصة المعطاة لـ«بريتش غاز» تغطي كامل المساحة البحرية قبالة شاطئ غزة وتجاور بضعة مرافق غازية إسرائيلية تقع إلى الشمال منها. مع العلم أن 60 في المئة من احتياطات الغاز على طول ساحل غزة وإسرائيل تخصّ فلسطين (التاريخية). حفرت «بريتيش غاز» بئرين سنة 2000 وقدّرت أن احتياطات الغاز قبالة شاطئ غزة يبلغ حجمها 1,4 تريليون قدم مكعبة ولا تقل قيمتها عن 4 مليارات دولار أميركي. أما حجم احتياطات الغاز العائدة لفلسطين، فإنها أكبر بكثير. ويؤكد شوسودفسكي أن السيادة على حقول غزة الغازية مسألة بالغة الأهمية. إنها، من الناحية القانونية، تخص فلسطين (أي سكانها جميعاً قبل إقامة الكيان الصهيوني سنة 1948)، غير أن تل أبيب أحكمت سيطرتها عليها بعد وفاة ياسر عرفات وتداعي السلطة الفلسطينية، كما تجاوزت حكومة «حماس» في كل ما يتعلق بتطوير حقول الغاز.
مثّل وصول أرييل شارون إلى السلطة سنة 2001 نقطة تحول رئيسية في قضية حقول الغاز. فرفض سيادة فلسطين على احتياطات الغاز البحرية وقدم دعوى بهذا الخصوص إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، وصرح بأن «إسرائيل لا يمكن مطلقاً أن تشتري غازاً من فلسطين»، موحياً بذلك أن حقول غزة الغازية تخص إسرائيل. ولم يتوانَ سنة 2003 عن نقض صفقة كانت تخوّل «بريتش غاز» تزويد إسرائيل بكميات من بئري الغاز قبالة شاطئ غزة (صحيفة «إنديبندنت» بتاريخ 19/8 2003).
ومع وصول إيهود أولمرت إلى السلطة حدث تغيير طفيف في سياسة إسرائيل إزاء استثمار حقول الغاز. فقد أجازت الحكومة اقتراحاً لأولمرت سنة 2007 يقضي «بشراء الغاز من السلطة الفلسطينية». كانت قيمة الصفقة 4 مليارات دولار وقيمة أرباحها 2 مليار دولار، يذهب مليار واحد منها إلى السلطة الفلسطينية.
غير أنّ تصميم إسرائيل على عدم مشاركة الفلسطينيين في تقاسم عائدات الغاز، دفع حكومتها إلى تأليف لجنة من الخبراء من أجل إعادة درس القضية لأن «سلطات إسرائيل الدفاعية تريد أن يجري تسديد الفلسطينيين حصتهم ببضائع وخدمات مع التصميم على ألّا يذهب أي مال للحكومة التي تسيطر عليها «حماس» (صحيفة «ذي تايمز» بتاريخ 23/5/2007). إزاء تصميم حكومة إسرائيل على عدم تمكين الفلسطينيين من الحصول على مال من استثمار حقول النفط بدعوى الحؤول دون منع الإرهاب، اضطرت «بريتيش غاز» في كانون الأول 2008 إلى قطع المفاوضات مع إسرائيل وإغلاق مكاتبها فيها.
ومع وصول القضية إلى هذا المفترق، يقول شوسودوفسكي، بدأت إسرائيل تخطط لغزو غزة، وكان أن وضعت «عملية الرصاص المصهور» قيد الإعداد في حزيران 2008.
في هذا المجال تعزو صحيفة «هآرتس» إلى مصادر عسكرية إسرائيلية قولها إن «وزير الدفاع ايهود باراك كلف جيش الدفاع الإسرائيلي إعداد خطة الغزو خلال ستة أشهر (أي في حزيران أو قبل حزيران 2008) وذلك في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل قد بدأت بالتفاوض لعقد اتفاق وقف إطلاق النار (التهدئة) مع «حماس»!
وفي حزيران، اتصلت السلطات الإسرائيلية بـ «بريتيش غاز» من أجل معاودة المفاوضات المتعلقة بشراء الغاز الذي تستخرجه من حقول غزة. كان واضحاً، يقول شوسودوفسكي، أن قرار حكومة أولمرت بتسريع المفاوضات مع «بريتيش غاز» تطابق زمنياً مع التخطيط الناشط لغزو غزة. وبالفعل، جرى استئناف المفاوضات في تشرين الأول 2008، أي قبل 3 أشهر من مباشرة قصف غزة جواً في 27 كانون الأول 2008. أكثر من ذلك، فقد جرى إعداد ترتيب سياسي ــ إقليمي لقطاع غزة لاعتماده في مرحلة ما بعد الغزو.
هكذا يتضح، دونما شك، أن أحد مقاصد الغزو الإسرائيلي هو إيجاد وضع سياسي وقانوني جديد يمكن استثماره لتحويل السيادة على حقول الغاز الغزاوية إلى إسرائيل، الأمر الذي يتنافى تماماً مع أحكام القانون الدولي.
يتحصّل من مجمل هذه المعطيات والتطورات، أن دوافع إسرائيل إلى شن حربها العدوانية متعددة ومتشابكة وواسعة الآثار والمفاعيل. لذا فإن من المبكّر، رغم بسالة المقاومة وحؤولها دون تقدم العدو إلى عمق التجمعات السكانية في قطاع غزة، استعجال إعلان النصر. بالعكس، ثمة حاجة ملحّة إلى تصعيد المقاومة المدنية في الضفة الغربية ومناطق فلسطين المحتلة سنة 1948 لإيجاد حال من الاضطراب الأمني الواسع تؤدي إلى مشاغلة سلطات إسرائيل الأمنية وخلخلة جبهتها الداخلية. كل ذلك لأن كثيراً من أوراق القوة تلزم الفلسطينيين، كما العرب، في المواجهة السياسية والدبلوماسية القائمة حالياً والمرشحة لمزيد من التصعيد في المستقبل المنظور. تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة. لعله النهج الأمثل للتصرف السياسي والكفاحي الحكيم في زمن الصراع التاريخي المرير والمديد.