'التهويد' بالبندقية والدولار
خليل قانصو
تواصل ،السيدة فدوى شيـّا، الفلسطينية، أبنة مدينة يافا، عروس البحر، وكـنـّة الأرشمندريت سليم خوري شيـّا، في الحاضر، في سنة 2010، صراعها ضد نظام المستوطنين الإسرائيليين العنصري، الذي يريد أن تبتلعها النكبة، مثلما إبتعلت سنة 1948، عشرات الألاف من أبناء مدينتها، وأن تزيل الجرافات منزلها ،مثلما هدمت في سنوات الستين والسبعين، من القرن الماضي، آلاف المساكن، في حي العجمي، الذي كانت القوات الصهيونية قد حشرت فيه سنة 1948، البقية المتبقية من سكان المدينة العربية، وذلك بقصد تهويدها .
إن قانون 'الغائبين' الذي سنه المستعمرون أنفسهم، يعطي دولة أسرائيل، بحسب زعمهم، الحق في 40'، من الدار التي إبتناها الإرشمندريت شيا سنة 1920، لأن ثلاثة، من أبنائه السبعة كانوا في لبنان، في 22 نيسان/ابريل 1948، تاريخ سقوط المدينة في أيدي قوات (الهاغانا). ولم تسمح لهم هذه القوات، بعد هذا التاريخ، بالعودة إلى مدينتهم . والغائبون، في قاموس المستعمرين، هم الفلسطينيون الذين طردوا من وطنهم . كتب ماكسيم رودنسون تحت عنوان 'أسرائيل ظاهرة أستعمارية' 'هاجر اليهود الذين جذبتهم الصهيونية إلى فلسطين، ثم أحكموا سيطرتهم عليها. لقد قاموا عمليا بأحتلالها، ثم اشترعوا القوانين لتبرير هذا الإحتلال'.
. لقد بدأ النزوح من حيفا، في كانون الأول/ديسمبر 1947. والسبب هو أن 'القوات اليهودية التي كانت قد تلقت الأمر بقتل كل العرب الذكور، الذين تراهم أثناء توغلها في المدينة، أتبعت أستراتيجية تقضي بأرهاب السكان المدنيين. فقتلت منهم عددا يتراوح بين المئة والمئة والخمسين' .(Henry Laurens ,La Question de Palestine ,T 3.).
ولكن القانون الإسرائيلي، لا يمنع 'الغائبين 'من العودة وحسب، وإنما يلغي حقهم أيضا بالتخلي عن أملاكهم لصالح أبنائهم وأشقائهم وأقاربهم. رفضت المحاكم الإسرائيلية قبول المستندات التي قدمها السيد جورج شيا ،زوج السيدة فدوى، الموقعة من أخوته الثلاثة في لبنان، يعلنون فيها تنازلهم له، عن حصصهم في منزل العائلة. توفي السيد جورج، وبقيت زوجته وأولادهما وأحفادهما، في حيفا، يواجهون قانون المســـتعمرين.، لقد بدأ في 16 حزيران/يونيو 2010، النظرمن جديد، في القضية المرفوعة ضدهم، من أجل إخلاء الدار، بحجــة أنهم لم يدفعوا للدولة، مبلغا يساوي القيمة التأجيرية، لـ 40 '، هي مجموع الأسهم التي تملكها في الدار ،عن الفترة من سنة 1948 وحتى يومنا هذا. ' طردنا الإسرائيليون سنة 1948 من منازلنا، بالبندقية , واليوم يطردوننا بالدولار ' (اللومند 23.حزيران(يونيو) 2010، ص 3)
إن قانون المستعمر، كان أقوى إذن، من قرارات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وتحديدا من قرارها، في 11 كانون الأول/ديسمبر 1948، رقم 194، الذي نص على 'السماح للاجئين الذين يرغبون بذلك، بالعودة إلى ديارهم في أقرب وقت ممكن، للعيش بسلام مع جيرانهم. ويجب دفع تعويضات عن أملاك الذين يفضلون عدم العودة، وعن الأملاك التي أتلفت أو تضررت ...'، كما انه أقوى من شرعة حقوق الإنسان التي جاء في مادتها 13: 'من حق كل إنسان الإنتقال بحرية وإختيار مكان إقامته في بلد من البلدان، ومن حق أي إنسان مغادرة أي بلد، وبلده ضمنا، والعودة اليه'. يحسن التذكير هنا، بإن قرار تقسيم فلسطين، الذي إجازته الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، إحتوى على تناقضات عديدة، منها أنه أبقى مدينة حيفا جزءا من الدولة العربية، ولكن ضمن حدود 'الدولة اليهودية'. و تجدر الإشارة، في هذا السياق أيضا، إلى أن قوات الهاغانا، كانت قد أعدت 'خطة دال' التي كان من بين بنودها، المبادرة، بعد جلاء البريطانيين في 15 أيار/مايو 1948، إلى الهجوم ليس فقط من أجل الإستيلاء على أراضي 'الدولة اليهودية' التي حددها قرار التقسيم ولكن أيضا لضم مناطق إضافية إلى هذه الدولة، أنطلاقا من مبدأ إعتمدته الحركة الصهيونية، دائما، وهو 'أن حدود أسرائيل تكون حيث تصل فعالية قوتها'.
هـدّم المستعمرون الأسرائيليون سنة 1948، جزءا من مدينة حيفا، لتسهيل إعادة بنائها وفق، تنظيم مديني، (هنري لورنس)، يلائم هويتها الجديدة. فكانت تلك، المرحلة الأولى في عملية تهويدها، التي أشتملت أيضا على إسكان عدد كبير من المهاجرين اليهود، في منازل الفلسطينيين 'الغائبين' بحسب زعم الإسرائيليين، والصحيح أنهم 'منفيون' أو أن وجودهم 'ممحي' بإرادة المستعمر. وهي مرحلة تم تنفيذها كما هو معروف، بالقوة والإرهاب. تحت ستار وفـّره المجتمع الدولي بواسطة، قرارت من الأمم المتحدة، ولجان تحقيق، ووساطات، ووكالة لغوث اللاجئيين، ووعود بحل عادل أنسجاما مع سلوك أنساني يتميز من سلوك الحيوانات الكاسرة.
وأغلب الظن أن الصعاب التي تلقتها عائلة شيـّا في حيفا، لا تختلف لا في الشكل ولا في الجوهر، عن تلك التي تعاني منها عائلات فلسطينية كثيرة، في طول فلسطين وعرضها. لا فرق بين المناطق التى أقدم المستعمرون على أحتلالها سنة 1948 أو قبلها أو بعدها. فليس بإمكان رب عائلة فلسطينية، مقدسية على سبيل المثال، أن يسدد ضريبة على ملكيته، لدار في القدس، وضريبة ثانية، لكونه يسكن في هذه الدار، وأن يتكفـّـل أيضا بالأعباء المادية المترتبة على ضرورة إلتزامه بأمور أخرى، على علاقة بها، كالعناية بواجهتها، أو القيام بترميم بعض أقسامها، خصوصا عندما يكون هذا الرجل، ممنوعا من العمل أو معتقلا لدى سلطات المستعمرين. ففي معظم الأحيان، ليس هناك إلا خياران أثنان: التنازل عن ملكية الدار 'طوعا'، لقاء ثمن بخس، لصالح مستوطن أسرائيلي، أو شركة عقارية إسرائيلية، وأما أستصدار حكم ضده، بالإخلاء، دون مقابل.
فالتهويد، يبدأ بالبندقية، ويتواصل بنزع حق السكان الأصليين في ملكية الأرض والمسكن، أستنادا إلى قوانين مجحفة يشترعها المستعمرون، وتبررها ذهنيتهم الإستعلائية العنصرية، التى لا تقبل المساواة بين الناس في الواجبات والحقوق. ولقد بلغ التهويد، في الراهن، مرحلة ثالثة، هي دليل على العلاقة العضوية والتكاملية، بين النظام الرأسمالي من جهة وبين مشروع الصهيونية في فلسطين من جهة ثانية. يتمظهر ذلك 'بالهدم الخلاق' وبإعادة هيكلة المدن وتنظيمها، لتصبح أكثر ملاءمة، في أطار التحول الذي طرأ على النظام الرأسمالي، حيث طغت الثروات المالية الطائلة، وتراجعت حصة العمل من الإنتاج وتقلص عدد العاملين. فأنتفت الحاجة لهم، وأجبرهم الأغنياء والمستخدمون في إدارة الثروات الكبرى على النزوح من الأحياء التي كانوا يعيشون فيها، في داخل المدن، إلى أحياء بعيدة تقع في ضواحيها أو عند أطرافها. وبكلام أوضح، يتجسد التهويد، في هذه المرحلة، من مراحل تنفيذ المشروع الصهيوني، بالفصل العنصري، والجدران، والحصار، وإخراج العائلات من بيوتها وبمشاهد، من نوعية تلك التي تظهر أما فلسطينية وأطفالها على رصيف مقابل لمنزلهم الذي أحتلته أم يهودية وأولادها. ولكن هذا يجري أيضا، وإن بدرجة أقل قساوة، على الصعيد العالمي وليس في دول الغرب فقط، وأنما في مدن مثل هانوي وبكين، وفي عواصم ومدن عربية وكذلك. (jean Pierre Garnier,une violence 'minemment contemporainr ). الفرق الوحيد، هو ان المستعمرين الإسرائيليين عنصريون ذوو فظاظة، تجعلهم لا يتميـّزون من أعضاء الأحزاب القومية الفاشيستية التي عرفتها أوروبا في بداية القرن الماضي،. إذ يعتقد الكثيرون منهم أن 'العرب هم غرباء في فلسطين'(هنري لورانس).
وجملة القول وقصاراه، أن مسألة التهويد، في حيفا وفي القدس ونابلس وسائر مناطق فلسطين، سواء تلك التي إستولى عليها المستعمرون سنة 1948 وتلك التي تمكنوا من إحتلالها سنة 1967، أنما ترتكز على ثلاث دعائم. الدعامة الأولى، هي الإستعمار. وهذا يعني أن إحتلال فلسطين، وإنشاء دولة المستعمرين الإسرائيليين على أرضها، ليسا بحد ذاتهما، كل المشروع الإستعماري، ولكنهما جزء منه فقط. ويكفي للإقتناع بذلك، معاينة أنعكاسات السياسة العدوانية التي يمارسها المستعمرون الإسرائيليون وحلفاؤهم، في الفضاء الممتد من شبه الجزيرة الهندية، إلى تركيا وإلى القرن الإفريقي. أما الدعامة الثانية، فإنها تتمثل بالتمييز العنصري، بناء على مقولة الشعب المختار، وعلى القصص التوراتية. وأعتمادا عليه يسمح المستعمرون لانفسهم، بالحط من إنسانية الآخرين، ومصادرة حقوقهم، والإعتداء عليهم، دون أن يخامرهم شعور بأنهم يرتكبون عملا، شنيعا، لا أخلاقيا. وأخيرا، للتهويد، كما ورد أعلاه، دعامة ثالثة هي المال. عندما، تـُسن قوانيين، لا شرعية، تفرض، بشكل مباشر أو غير مباشر، بأن يصير الحقل، والمنزل والناس سلعا، والوطن كله سلعة، وبأن تـُعرض جميع السلع في سوق المزاد، فإن المستوطن الغربي، الذي يتلقى الدعم المادي من الدول الإستعمارية، سيكون أوفر حظا ً، من الفلاح أو العامل أو الحرفي الفلسطيني، في شراء ما يريده، ونزع ملكية هذا الأخير عنه.
تتوجب الإشارة العابرة هنا، لاننا لسنا بصددها، ألى أن الثروات الكبيرة، التي يحتقبها، بعض من الأمراء والمشايخ والرؤساء، بالوراثة، أو ممن منحوا مثل هذه الألقاب حديثا، أربكت الناس المساكين، في المدن العربية، وأدخلتهم في منافسة بلا حدود وبلا رحمة. . حتى صار ت الأحياء والساحات والموانئ والقصور، والأحزاب والفصائل، والحكومات ملكا لهؤلاء الأمراء والمشايخ والرؤساء.
فيحق لنا من بعـد، أن نتساءل ما العمل، حتى يتمكن الناس من البقاء في بيوتهم، ومن جني غلـّة حقـــــولهم ؟ ولكن، مهما يكن، فمن البديهي أن الإستــــعمار لا يستهدف الفلسطينيين وحدهم، وأن 'القيادة الفلسطينية' إن وجــــدت بالوسائل الشرعية، كممثل للشعب الفلسطيني، ليست معنية، دون سواها، من الممثلين الشرعيين للشعوب العربـــية، في دول الطوق والعراق، بالبحث عن حل عادل، للقضية الوطنية الفلسطينية. ينبــــني عليه، ان النضال ضد المستـــعمرين الإسرائيليين، هـــو بالضـــرورة، مهمة ملقاة على عاتق الشعـــوب العربـــية جميـــعها، وعلى عاتق الأحرار في العالم.
وغايته أسقاط التمييز العنصري، وأستبدال النظام الذي يسمح، بتراكم المال، بين يدي قلة قليلة من الأشخاص. مما يجعل غالبية الناس في عيشة بائسة خلف جدران، باتت عنوانا، لانحطاط وقبح، وتوحش، الذين أمروا ببنائها.
' كاتب لبناني
kansukhalil@gmail.com