هذا الفتى المقدسيّ
باسم النبريص
6/26/2010
من بركات تواجدي في القدس، أن تعرّفت على نجوان درويش. ثلاثة شهور من علاقة يوميّة أو متقطّعة، كانت كافية لأعرف نجوان الإنسان والشاعر والمثقف. والحق، أنّ الصفات الثلاث هذه، لا تحتاج إلى حرف عطف أبداً، فهي متداخلة ومتناغمة، وتبدو واقعياً، كأنما صُبّت في سبيكة واحدة عند نجوان.
إنسان كريم: الأخلاق عنده، سلوك، ومعاملات في الحياة، قبل أن تكون أيّ شأن آخر.
وشاعر ذو بصيرة صافية، تمتح رؤياها ـ لا رؤيتها ـ من الأحشاء والطوايا.
ومثقف راق، لا يلتبس ولا تغيم كلماته، ولا يعرف البين بين في مواقفه. ذلك أن ضميره النقدي يقوده، لا العكس.
ثلاثة شهور، وهو يأخذني من فندق جبل الزيتون، كل مساء، لنجول في القدس بشطريها: يُعرّفني على معالم وحارات وأسرار المدينة، وهي تغصّ تحت ليل الصهيونية البهيم.
هذا الفتى المقدسيّ، الذي كرّس حياته خادماً لسيدتيْن: القدس والثقافة. القدس، بما هي مدينة المدن الذاهبة حثيثاً إلى التهويد [حتى لتبدو في حاضرها أشبه بـ 'بريّة الظلمات'] والثقافة، بما هي أول وآخر جدار للدفاع.
ومع ذلك، لا يُزايد نجوان ولا يثرثر، كعادة بعضنا، بل يعمل بصمت، وبألمعيّة، قصارى جهده، ليكون في طليعة المنافحين عن تينك السيدتين.
أقول لنفسي، وأنا أشاهد خجله الحقيقي من الحديث عن إنجازاته، إنه ما يزال يعيش: زمن الأبيض والأسود.
أقول لنفسي: إنّ من حسن طالع هذه المدينة المنكوبة، أنّ مثقفيها وفنانيها، لم يتلوثوا بعد. لم يدخل عليهم: زمن سكوب الألوان، كما دخل علينا وداهمنا ـ نحن مثقفي الضفة والقطاع.
نجوان يعمل بصمت في القدس، وعلى عدة جبهات: الفكر والنقد والبحث والإبداع والترجمة.
يكتب الشعر، ويُصدر المجلات رفيعة المستوى، ويُترجم. وأثناء هذا المعمعان، يتصدّى بمقالاته المُتقنة، لكل القضايا والهموم الثقافية التي تحدث من حوله.
أصدر ديواناً لافتاً عام 2000 بعنوان 'كان يدق الباب الأخير'، ويستعد لإصدار ديوانه الثاني قريباً. كما أخرج للنور عشرة أعداد من مجلته الفنية 'من وإلى'، إضافة إلى إصدار عدة كتب مترجمة، باذخة المحتوى والإخراج الفني.
كل هذا بمجهوده الشخصيّ، ومن دون رعاية من جهة أو أحد. فهو يعرف مقدار ما يدفعه المثقفون من 'أوزار' لقاءَ تلك 'الرعاية'!
شاعر في الثلاثين فقط، ولديه أجندته ومشاريعه المزدحمة. لا بد أن ينجز شيئاً بين سفريْن، وما أكثر أسفاره، لكنها لم تؤثر عليه سلباً، إنما منحته أسباباً إضافية، كي يتجذّر في القدس أكثر.
لفتني فيه وفاؤه وحماسه لآبائه الثقافيين، وبالأخصّ المقدسيين منهم، أولئك الروّاد الكبار، الذين سبقوه وعاشوا في القدس: خليل السكاكيني، توفيق صايغ، جبرا إبراهيم جبرا، سلمى الخضراء الجيوسي، كمال بلاّطة وسواهم.
كل واحد من هؤلاء له حكاية مع نجوان، وله ذكريات. وهو حريص على التواصل مع الأحياء منهم، يومياً تقريباً.
يأخذني إلى أماكنهم، حيث سكنوا ومارسوا حياتهم العملية: هنا في 'الكلية العربية' كان توفيق يعمل، هنا مرّت خطى الشاعر المنكود.
هنا في البقعة التحتا، عاشت سلمى طفولتها وفتوتها. هنا، في جمعية الشبان، كان يجلس جبرا ..إلخ.
عالم آفل، لا يزال يعيش بكل تفاصيله الحيّة في وجدان نجوان.
أقول لنفسي: سعيد من ينجو من نير النوستالجيا في هذه المدينة!
كل خطوة يمشيها المرء هنا، سبق ومشاها نبي أو رسول أو فاتح أو مثقف.
ومع هذا، يبدو نجوان ابن زمانه ومكانه، بأوفى معاني الكلمة.
إنه فحسب: حوار الجذور والأجنحة، لئلا يغدو المرء منبتّاً عن أسلافه.
أخرج معه في سيارته، كل مساء، ولا نشبع من كآبة الجولان في مناطق المدينة.
تنتهي الشهور الثلاثة، وأعود إلى غزة، مثقلاً بإحساس من عاش في مدينة، وودّعها إلى الأبد.
مدينة تلفظ أنفاسها الأخيرة، على مرأى ومسمع من العالم كله، وما من مُجير.
أعانك الله يا نجوان.
شاعر من فلسطين