عرفات… حساب تاريخي
صحف عبرية
November 7, 2014
قبل عشر سنوات توفي رئيس م.ت.ف وأول رئيس للسلطة الفلسطينية، ياسر عرفات، وخلف الجمهور الفلسطيني دهشا دون وريث طبيعي، وفي خضم انتفاضة لم تكن قد انتهت بعد، وخلف العالم مع علامات سؤال كثيرة عن ماهية نواياه الحقيقية. ولا يمكن أن نسلبه شيئا واحدا وهو أنه جعل القضية الفلسطينية في مكان عال في برنامج العمل الدولي، حتى إن الدول العربية بسطت عليه رعايتها واستعملته لغاياتها (مصر في المرحلة الاولى، وسوريا في مرحلة بعد ذلك).
كان عرفات في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بالنسبة لاسرائيل ما كان عليه رئيس مصر جمال عبد الناصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي: كان عدوا لدودا، يُسخر منه سخرية كبيرة، كل قصده أن يقتل اسرائيليين وأن يبيدنا ايضا اذا أمكن. ولم يشأ طوال سنين كثيرة أن يكون محادثا لنا وحينما وُجد حوله اشخاص حاولوا أن ينشئوا صلة رفضناهم باعتبارهم متنكرين.
اذا كانوا في اليسار قد اقترحوا شروطا لمحادثة المنظمة التي كان يرأسها (وهي التبرؤ من العنف والاعتراف باسرائيل وبقرار الامم المتحدة 242) فقد استمروا في حزب العمل على الحديث عن حل مشترك اردني فلسطيني، ورفضوا أي محادثة مع م.ت.ف. وكانت الذروة في 1985 حينما ساعدت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة شمعون بيرس على قانون سخيف منع أي نوع من انواع الاتصال برجال م.ت.ف وأفضى الى دخول اشخاص مثل ايفي نتان السجن، لم يكونوا مستعدين للتخلي عن محادثة العدو.
النضال للاعتراف بـمنظمة التحرير
بدا لنا ذلك الرجل القبيح، مع اللحية المشكوك فيها على خده وملابسه العسكرية الأبدية وكوفيته مثل رسم كاريكاتوري. ولم نفهم كيف رآه الفلسطينيون زعيما قوي الحضور يثير الاجلال بل الحب.
كان عرفات مغضبا وكان مضحكا شيئا ما ايضا، وفي مقابل ذلك كانت افعاله أقل اضحاكا. ففي سبعينيات القرن الماضي زاد في استعمال سلاح الارهاب الذي اعتقد أنه سينجح به في التخويف اكثر من الخطب العصماء. ونجح أيضا في الحث على تنفيذ غير قليل من الاعمال الارهابية ولا سيما في اوروبا، وفي البلاد ايضا.
وكان من نتيجة ذلك أن بدأنا سيرنا دولة تقود حربا للارهاب. واعتقدنا أن الطريقة الوحيدة لعلاج م.ت.ف هي القضاء عليها، وحينما تولى مناحيم بيغن رئاسة الوزراء حرص على ألا يدعو المنظمة باسمها – منظمة التحرير الفلسطينية – بل بلقب أوجده لها حظي بشعبية كبيرة وهو مقف (منظمة قتلة فلسطينيين).
لكن النوايا في جهة والواقع في جهة اخرى. في الثمانينيات المتأخرة من القرن الماضي تغلغل الى قيادة م.ت.ف معرفة أن التمسك بهدف تأسيس دولة «علمانية ديمقراطية» تشمل فقط اسرائيليين عاشوا في ارض اسرائيل قبل تصريح بلفور أمر لا أساس له. وليس الحديث عن أن القيادة الفلسطينية انقسمت بين مؤيدين لاسرائيل ومعارضين لها؛ فمن الواضح أنه لم أمكن الخلاص من اسرائيل لفرح أشد الاشخاص اعتدالا بذلك. لكن كما هي الحال في حركات قومية اخرى في العالم – كان هؤلاء اكثر براغماتية وفضلوا الاحتفاظ بالحلم الى نهاية الزمان.
في مؤتمر م.ت.ف في الجزائر في 1988، عقب وساطة ستين اندرسون وزير خارجية السويد في تلك الايام، وبفضل دعم امريكي للاجراء، جاء عرفات بقرار غيّر المنظمة الجامعة التي كان يرأسها وقبل في واقع الامر شروط الغرب للاعتراف بـ م.ت.ف.
رفضت اسرائيل الرسمية ذلك الاجراء بزعم أن الحديث عن حيلة علاقات عامة ويوجد من ورائها شيء، لكن العالم عامل القرار بجدية، وبعد 14 سنة من اعتراف العالم العربي في مؤتمر الرباط بـ م.ت.ف أنها الممثلة الوحيدة للشعب الفلسطيني، اعترفت بذلك اكثر دول العالم، وبعد ذلك بخمس سنوات اعترفت اسرائيل ايضا بذلك.
إن المحاولات التي تمت لانشاء قيادة فلسطينية من قبلنا (رابطة القرى) في عهد بيغن، فشلت فشلا مطلقا، أما الاردن فأعلن في صيف 1988 أنه يسقط كل مسؤولية عن الضفة الغربية. وتبين أن الوفد الاردني الفلسطيني المشترك الى مؤتمر مدريد في محادثات واشنطن التي تلته تشبه منعطفا، فقد عمل الفلسطينيون وحدهم، وكانوا قبل كل جولة محادثات يطيرون الى تونس لتلقي توجيهات من عرفات. وقال قادة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة لكل من كان مستعدا للسماع أنهم لا يستطيعون أن يبتوا أمرا وألا نعتمد عليهم. وكان واضحا لهم سواء أحبوا عرفات أم تحفظوا منه أنه لن توجد تسوية سياسية اذا لم يقدها.
وفي البلاد استمرت الانتفاضة الاولى وارهاب افراد ومنظمات. وزعزعت حالات اختطاف وقتل الدولة وقوي الشعور بأنه لا يمكن الاستمرار على ذلك. وبدأت حماس التي أنشئت في كانون الثاني 1988 تحشد تأييدا وكان الشعور عند اشخاص من الكبار بأنها قد تتغلب على فتح في الشارع الفلسطيني.
تمت المحادثات المباشرة التي بدأت في اوسلو بعد الغاء القانون الذي منع اجراء اتصالات بـ م.ت.ف، بين مندوبين اسرائيليين كانوا مستعدين لتقاسم البلاد لضمان مستقبل اسرائيل دولة يهودية ديمقراطية، وبين المنظمة الفلسطينية الرسمية، التي تخلت عن طلب الحصول على ارض اسرائيل كلها واصبحت مستعدة للاكتفاء بحدود 1967.
بعد التوقيع فقط في مرج البيت الابيض التقينا لاجراء محادثات حقيقية مع عرفات. وقد خرج عن طوره يحسن استضافتنا وكنا نتضاحك بيننا لأنه كان يطعم ضيوفه عند تناول الطعام ولم يكن مستعدا أن يقبل قولنا إننا أكلنا ما يكفي، لكنه تحدث من جهة اخرى دائما وكأن يده هي السفلى، وخُتم كل تصالح وافق عليه بقوله إنه لا مفر له، وإننا الطرف القوي. فقد كان شخصا مصابا بداء الشعور بالمطاردة وآمن بالمؤامرات على أنها حقيقة مطلقة.
كان يحدثني دائما عن مؤامرة تحبك في «الشباك» على اسحق رابين ولم يدرك لماذا أبتسم. وحينما قتل رابين أظهر حزنا حقيقيا وجاء ليعزي العائلة عن موته. يصعب علي أن أصدق أن ذلك كان تمثيلية. وبعد أن بدأت الانتفاضة الثانية ركب الموجة خشية أن يفقد منظمته اذا قبل نصائح أبو مازن وامتنع عن تأييد العنف المتجدد.
قلص شارون منزل عرفات غرفة بعد غرفة، ولم ينه حياته بسبب ضغط امريكي فقط. وتوفي عرفات شخصا مختلفا فيه باعتباره كان مستعدا للاتجاه الى السلام مرغما، لكن اغراه استعمال القوة مرة اخرى في ظروف مختلفة.
ومحاولة أن نجزم في مسألة هل الحديث عن رجل سلام أو عن محارب خدعنا هي محاولة تبسيطية جدا. كان وطنيا فلسطينيا حاول أن يبلغ بمصالحه الحد الاقصى في كل زمان. وقد اخطأ خطأ حياته حينما رجع في 2001 عن التزامه التخلي عن طريق العنف. وهناك من آمنوا بأنه لولا أن قتل رابين لاستطاع الاثنان التوصل الى سلام. وهناك من آمنوا بأن الحديث عن ممثل لم يقصد قط أية كلمة مما قال. فاذا كان عنده سر فقد أخذه معه الى قبره.
يوسي بيلين
إسرائيل اليوم 7/11/2014
صحف عبرية