صور التعذيب الأمريكي في ذاكرة شاهد إثبات
د. مثنى عبدالله
December 15, 2014
■ أقسى ما يواجهه سُجناء الرأي والموقف، هو أنهم لا يملكون حق الحديث عن معاناتهم وقت ما شاءوا، والأكثر قساوة أن يبقى السجّان هو من يقرر لهم ذلك. حصل هذا في أماكن كثيرة في العالم، حين يدعي السجّان بانه قد ندم ويريد فتح صفحة جديدة، فيسمح لبعض الأوراق أن تُفتح ولبعض الألسن أن تتكلم، لكن كل ذلك يبقى بمقدار ولن يعطي صورة واضحة تماما عن ما الذي جرى، لأن بعض من وقع عليهم الضرر إما غادروا الحياة وطويت ذكرياتهم إلى الأبد، أو أن البعض يعتبر فتح كل الملفات غير جائز، بعد أن أعترف السجّان بأنه قد ظَلَم.
أنظروا كيف أن الكثيرين يبقون يُراعون مشاعر السجّان حتى وهو يعلن عن جرائمه، بينما لا أحد لديه الاستعداد كي يسمع الضحية، حتى وسائل الإعلام والصحافة ومنظمات حقوق الإنسان تفتح ألسنتها فقط عندما يعلن السجّان. حصل هذا مع زملاء قضوا فترة قصيرة في السجون الأمريكية في
العراق، وعندما خرجوا وأعلنوا عن أساليب التعذيب التي مورست ضدهم، لم تكتب شهاداتهم بعناوين كبيرة، لكن عندما فضح الجانب الأمريكي ما حصل في سجن أبو غريب، استنفرت كل وسائل الإعلام والمنظمات الدولية جهودها لهذا الغرض، لأن السجّان دائما صادق لأنه قوي والضحية دائما كاذب لأنه ضعيف.
وإذا كان البعض قد صفق للديمقراطية الأمريكية التي سمحت بنشر تقرير لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي، فإن هذه الممارسات السادية لن تتوقف حتى لو نشر ألف تقرير وتقرير، لأن تاريخ هذه الوكالة بل تاريخ النخب الحاكمة في الولايات المتحدة قائم على الاضطهاد والعدوانية والنظرة الدونية للآخرين. لقد أقاموا سجونا سرية في العديد من دول العالم، واعتمدوا على شركات أمنية ومقاولين اختصاصهم التعذيب، وتشكلت فرق خاصة للأعمال القذرة والاغتيالات، وأنشأوا أسطولا من الطائرات بدون طيار كي يقتلوا بدون محاكمة، ورسموا سيناريوهات سيئة لحكومات ودول كي يبرروا الغزو والاحتلال.
أقرأوا ما قاله نائب الرئيــــس الأمريكــــي الســـابق ديك تشيني، حيث يصف ما ورد في التقرير بأنه كلام فارغ، ويقول لقد قمنا بما كان يفترض بنا القـــيام به، ويؤكد على أن بـــوش كان على علم بتفاصيل عمليات الاستجواب، بل أن وزير العـــدل الأمريـــكي في عهد بوش يقول ليست هنالك جـــرائم ارتكبت من جراء تلك الاساليب.
وإذا كان يحلو للبعض تبرئة ساحة باراك أوباما، فلينظروا إلى حرب الطائرات بدون طيار التي مازالت تقصف وتقتل من دون سند قانوني، وإلى مساندة إدارته المطلقة للعدو الصهيوني، وإلى أحجامه عن تقديم من ارتكب جريمة العراق وأفغانستان إلى العدالة، وتعويض عن كل ما لحق بهم من ضرر. كما يؤسفنا أن نقول إنه من العار على الأمم المتحدة، أن تدعو واشنطن إلى محاكمة المسؤولين عن ارتكاب انتهاكات أثناء الاستجواب، فهي كذلك تستحق المحاكمة لأنها كانت شريكا فعليا في كل عمليات الغزو والاحتلال التي جرت في العقدين الماضيين، وكان مسؤولوها شياطين خُرسا في كل مجازر
فلسطين.
لقد عدد التقرير بعض وسائل التعذيب التي مورست، كالإيهام بالغرق وخفض درجات الحرارة والإجبار على التعري والبقاء في حالة يقظة، والاعتداءات الجنسية والتغذية القسرية والحبس بمكان موبوء بالحشرات، كلها وصفها التقرير بأنها تعذيب إلى ما وراء الحد القانوني، لكن هل هذه هي كل الوسائل؟ لقد وُضع كاتب هذه السطور مقيد اليدين والقدمين ومعصوب العينيين أحد عشر يوما في المرافق الصحية، في مركز تحقيق شمال بغداد، بأمر من ضابط التحقيق الأمريكي، وقد سمعته يقول لجنده تبولوا عليه كي يتخلص من كرامته وعندها سوف يعترف، ولكوني لا أملك ما أعترف به سوى أنني قلت بأن الأمريكان لصوص وغزاة ومحتلون جاءوا لتدمير العراق، في معرض إجابتي لسؤال عن وضعية الوجود الأمريكي في العراق، هل هو احتلال أم تحرير كما كان يحلو للبعض وصفه، وجّهه لي طلبتي في الجامعة التي كنت أحاضر فيها في علم السياسة، فقد قضيت عامين ونصف العام سجينا بتهمة تحريض الطلبة على مقاومة المحتل وتهديد أمن القوات الأمريكية، على الرغم من أنهم تعمدوا قتل أحد أبنائي لحظة اعتقالي كي يُسهّلوا وصولي إلى حالة الانهيار النفسي.
لقد كنتُ خلال الفترة المذكورة شاهد إثبات على الكثير من صور التعذيب التي مورست ضدي وضد الكثير ممن عايشوا تلك الفترة، غفلها التقرير الأخير ولم يشر اليها إطلاقا، كان أقساها هو وضعنا عراة مقيدين على ألواح معدنية تكتسب الحرارة، في ظهيرة شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس، حيث تتراوح درجة الحرارة في هذه الفترة في العراق من 50 إلى 55 درجة مئوية، كما كان الجنود يرفهون عن أنفسهم ليلا باجبارنا على تقليد الحيوانات في مشيها وأصواتها ونحن عراة، ثم يطلقون علينا كلاب الحراسة التي تقترب أنيابها من المناطق الحساسة في الجسد، كي نصل إلى حالة الانهيار النفسي والجسدي. أما في جلسات التحقيق فقد تعاون الطب وعلم النفس في هذا الجانب، حيث كان زرق فيتامين سي تحت جلد المعتقل، ما يسبب حالة هرش وحكة، يجعل الموت أمنية لنا نطلبه كي يريحنا مما نحن فيه. وإذا ما استعصى انتزاع الاعتراف فهنالك وسائل أخرى منها، ضخ تيار الماء إلى داخل الانف أو إدخال أنبوب مطاطي إلى داخل المعدة من الفم للوصول إلى حالة الغثيان والتقيؤ المستمر، أو تثبيت الأيدي والأرجل على لوح آلة ميكانيكية تتحرك فيبتعد وسطها في اتجاهين متعاكسين، فينسحب الجسد بشكل متضاد حتى يكاد الانسان يتمزق من نقطة الوسط، مضافا إلى ذلك الايهام بالقتل بإطلاقات تقترب من محيط الجسد، ونتف شعر الصدر والافخاذ والمناطق الحساسة من قبل كادر التحقيق، والصعق الكهربائي، والاجبار على أكل الحشرات والجرذان الميتة، والسجن في غرف تبث فيها أصوات عالية جدا، ودلق كمية كبيرة من الماء المثلّج على السجين عند الفجر في ليالي الشتاء، والتعليق من الأطراف السفلى عند السقف.
وفي نهاية المطاف سلمني أحدهم إلى مخابرات دولة عربية شقيقة، بعد أن ختم على أوراقي عبارة (إبعاد لتهديده أمن القوات الأمريكية). هل التقرير المذكور صحوة ضمير أمريكي؟ يقينا لا.. بل هو صراع سياسي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. فالاستخبارات المركزية الأمريكية تميل سياسيا إلى الجمهوريين، وقد أعطوها الضوء الاخضر للتجسس على لجنة شؤون الاستخبارات في الكونغرس التي يرأسها الديمقراطيون، وعندما شعر الأخيرون بهذا الفعل أصدروا التقرير في هذا الوقت بالذات كي يضربوا شيئين في آن. أولهما معاقبة الـ»سي آي أيه» بالتقرير وفضحهم في الداخل والخارج، والثاني هو ضربة استباقية لسيطرة الجمهوريين على المجلس، لأن تأخير إصدار التقرير عن هذا الوقت يعني عدم صدوره لاحقا.
٭ باحث سياسي عراقي
د.
مثنى عبدالله