الجنرال وفرية الموت على أرض المذهبد. مثنى عبدالله
January 5, 2015
■ في غمرة التشكل الجديد للشرق الأوسط، فقد تغيرت الحدود الإدارية والسياسية فيه على أرض الواقع، على الرغم من أنها لازالت كما كانت على الخرائط، لكن السياسة علم يبحث في الوقائع على الأرض لا الرسوم على الخرائط.
فما الذي يأتي بالجنرال الإيراني حميد تقوي كي يُقتل في سامراء وليس في الأنبار، إن لم تكن الخرائط القديمة قد تمزقت وباتت الحدود تقام على أسس طائفية؟ وما الدافع في ظهور الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق
القدس الإيراني في ناحية آمرلي وليس في حديثة؟ ولماذا تقاطرت الميليشيات على
سوريا تحت شعار «لبيكِ يا زينب» وليس «لبيكِ يادمشق ولبيكَ ياشعب
سوريا»؟ والاجابة على هذه التساؤلات ستكون بسيطة جدا، حينما ننظر إلى هذه الاسماء ونرى ما تمثله من رمزية مذهبية. لكن الخطأ الأكبر هو النظر إلى إيران على أنها دولة مذهب معين، وأن قتالها في هذه المدن هو نصرة لأتباع هذا المذهب.
قد يكون بعض الجهلاء قد قرأوا الدستور الإيراني ووجدوا فيه تكريس حاكمية المذهب، فتصوروا أن
طهران باتت كما كانت موسكو بالنسبة للشيوعيين في القرن المنصرم، وهذا هراء وقصر بصر. فاذا كانت
طهران ينطبق عليها هذا الوصف في عقول البعض، إذن لماذا لم تعد الطائرات العراقية العسكرية والمدنية، التي وضعها النظام السياسي السابق لديها، خشية تعرضها للقصف والتدمير من قبل الغزاة، إلى رموز أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، الذين احتضنتهم وموّلتهم ودرّبتهم ثم وصلوا للسلطة بفعل الاحتلال؟ لماذا تركتهم عراة من الغطاء الجوي الذي برروا به خروج ثلثي الخريطة العراقية من سيطرتهم وعلقوا عليه كل فشلهم الأمني؟ بل لماذا طرحت إيران على النظام السابق في نهايات التسعينيات من القرن المنصرم، خطة تطبيع شامل بين البلدين، كان أحد بنودها تسليم الميليشيات العراقية، التي كانت تحت إمرتها، إلى السلطات العراقية، مقابل تسليم
العراق مجاهدي خلق إلى السلطات الإيرانية؟ إذن نحن أمام حقيقة واضحة، وهي أن إيران دولة قومية تصهر الدين والمذهب وكل رموزهما، وتضحي بدماء رجالها، وتسخّر مساعداتها المدنية والعسكرية كلها في سبيل مصالحها القومية. فخلال تشييع الجنرال تقوي، ألقى الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني كلمة قال فيها، «البعض يسأل ما علاقة سامراء وحميد تقوي، وبم يعنينا ما يجري في سوريا والعراق؟ الإجابة بسيطة- كما يقول هو- لو لم يكن ثمة أشخاص مثل تقوي يضحون بدمائهم في سامراء، لكان علينا أن نريق دماءنا في سيستان وفي شيراز وفي أصفهان». أي أن المتحدث قالها واضحة بأن الأمن القومي الإيراني هو الدافع للزج بالعناصر الإيرانية في الخارج، ولاعيب في ذلك في السياسة، لأنها لعبة مصالح وعملية جمع أوراق ضغط، لكن المعضلة عندما يتحول الفاعل والفعل إلى نموذج قيمي لدى أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، يثقفون العامة به على أنه حامي المذهب، وطرف آخر وهم أحزاب الإسلام السياسي السني الذين لا يريدون قراءة أدواره بشكل صحيح في المنطقة.
فمع كل الأصوات المختلفة التي انطلقت على مدى عقد من السنين، والتي أدانت ووضحت صور التدخل الإيراني في العراق، يتجرّأ أحد الساسة الممثلين لأهالي محافظــــة صــــلاح الدين في البرلمان العراقي العتيد، حين لقائه جون ماكين العضو البارز في مجلس الشيوخ الامـــريكـي، أثناء زيارته الأخيرة إلى العراق الشهر الماضي، ليعلن بأن الحكومة المحلــــية في صلاح الدين طلــبت من إيران تزويدهم بالسلاح، وقد سبقه في ذلك بعض الرموز السياسية والعشائرية في الأنبار، حين أعلنوا نيتهم التوجه إلى إيران أيضا لتقديم الطلب نفسه.
السؤال الآن هو هل أن البعض غاب لديه الوعي إلى درجة عدم القدرة على التمييز بين عدو وعدو؟ إن الولايات المتحدة تعمدت مؤخرا الدفع بأطراف عراقية كثيرة للارتماء في الحضن الإيراني، لتكريس إيران قوة إقليمية في المنطقة، وبالتالي تليين موقفها في مفاوضات الملف النووي، لاعتقاد الإدارة الأمريكية بأن إعطاء
ايران أوراقا سياسية وأمنية في المنطقة يجعلها أكثر إطمئنانا تجاه النوايا الامريكية، وبالتالي أكثر قابلية على مواجهة النوايا الحسنة بمثيلاتها، لذلك نرى مشاركة الطيران العسكري الإيراني الاجواء العراقية مع المقاتلات الامريكية في الحرب على «تنظيم الدولة»، كما يوجد أكثر من ألف مستشار عسكري إيراني، وما يفوق هذا العدد كثيرا من مقاتلي الحرس الثوري الإيراني على الأراضي العراقية، رغم أن إيران ليست عضوا في التحالف الدولي، لكن رسائل أوباما إلى خامنئي التي أُعلن عنها مؤخرا، يبدو أنها رسمت سياسة أمريكية جديدة تجاه إيران، تقوم على تقاسم مشترك للمصالح في الحرب الجارية في العراق وسورية، وبالتالي لن يكون هنالك مجال للريبة بعد الآن من تخطّي القوات النظامية وغير النظامية الإيرانية للحدود الدولية مع دول الجوار، أو دخولها ساحات توجد فيها القوات الامريكية، لأن القناعة الامريكية باتت يقينية بأن كل القوى الميليشياوية المرتبطة روحيا بإيران، هي مجرد وسائل لتحقيق غاية إيرانية، وبمجرد وصول إيران إلى هذه الغاية سوف تتلاشى أدوار هذه التنظيمات، وتتخلى عن خطابها العدائي وتبقى مجرد أدوات صراع طائفي محلي تستطيع أمريكا هندسة سياستها على ضوئه، وهذا هو الذي يحفظ مصالحها في المنطقة ويعززها. وإذا كانت الميليشيات الطائفية المتحركة بروح صانع القرار الإيراني، قد وضعت حدودها الجديدة على خريطة المنطقة بديلا للحدود السياسية المعترف بها دوليا، فإن تنظيم الدولة هو الآخر وضع حدوده على الخريطة نفسها، واستخدم أيضا رموزا دينية ومذهبية للحشد والتجييش، لكن الفرق بينهما هو أن هذا الأخير هو ميليشيات من خارج إطار الدولة، أي ليس لديه مرجعية سياسية يمكن التحدث والاتفاق معها وصولا إلى تغيير أدواره، بينما الأولى هي ميليشيات منبثقة من داخل نظام سياسي يمكن الاتفاق معه لتغيير الاتجاه.
لقد تعرضت الولايات المتحدة لأقوى ضربة في تاريخها الحديث على يد تنظيمات من خارج إطار الدولة في الحادي عشر من سبتمبر، فتعلمت الدرس واختارت ميليشيات الدولة كي تُطلق لها عنان حرية الحركة. فما الذي يضيرها من مقتل من يريد الموت على أرض المذهب؟
٭ باحث سياسي عراقي
د.
مثنى عبدالله