الحقائق المتحكمة بالصراع في وحول العراق / ١شبكة ذي قـارصلاح المختار
صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ ... وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ
وعَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ ... قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا
فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر ... فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ
وَلَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ ... دِنَاهُمْ كَمَا دَانُوا
مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ ... غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ
بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ ... وَتَخْضِيعُ وإقْرَانُ
وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ ... غَذَا وَالزِّقُّ مَلاْنُ
وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ ... لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ
وفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ ... لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ
الشاعر الفند الزماني ( قبل الإسلام ) ( معرفة العدو كسب نصف الحرب ) تلك من اهم بديهيات الحرب ، ولكن معرفة وتحديد العدو الاكثر خطورة هو اهم ما في هذه القاعدة ، فبدون تحديد العدو الاشد خطورة تصبح معرفة العدو مهلهلة ولا قيمة لها ، لاننا نضطر الى خوض معارك وربما حروب مع اطراف معادية لكن درجات ونوعيات عداءها تختلف فتختلف معها ضرورات الحرب ، ومن ثم فان المنطق يفرض تحديد موقف مختلف من كل منها وصولا الى غلق كافة المعارك وابقاء المعركة متصاعدة مع العدو الاخطر وحشد كافة القوى ضده .
ورغم سطوع هذه الحقيقة فان الكثيرين مازالوا لا يفهمون المغزى الحقيقي لها فيتصرفون خارج اطار قاعدة معرفة العدو الاكثر خطورة بتاريخه وامكانياته وخططة وسايكولوجيته واوضاعه الجيوبولتيكية ...الخ ، بل يعمد كثيرون الى احلال رغباتهم الذاتية القاصرة محل الحقائق الموضوعية عندما ينغمسون في الصراع مع الجميع وبنفس التركيز والاهتمام وتلك هي مسيرة الهزيمة الحتمية . بل ان من بين اهم واجبات اجهزة المخابرات المعادية واجب اقناع بعض الوطنيين ، بطرق مموهة ، بضرورة خوض معارك مع اكثر من طرف في نفس الوقت لتوريطه بمستنقع خطير .
الحرب هي في المقام الاول صراع عقول يريد كل منها الوصول لاهدافه بقدرته على وضع خطط ناجحة لهذا فان السلاح والمال يأتي بعد العقل – اي بعد الوعي – فبدون العقل يصبح استخدام السلاح والمال عشوائيا وربما قاتلا لمالكه ، لهذا فان واجنبا الاول الان وقد تعقد صراعنا بطريقة غير مسبوقة وجعلته من طراز الصراعات المتعددة الاوجه والخاضعة لعدد من الستراتيجيات المتلاقية والمتناقضة لكنها كلها تعمل داخلها ( الصراعات ) مما يجعل الانسان المتوسط الوعي يقع في فخاخ تبسيط الصراع نتيجة تعقده الشديد ومن ثم العجز عن فهم حقائقه الاساسية . اذن الخطوة الاساسية لكسب الحرب هي فك تعقيدات والغام صراعاتنا وتبيان التلاقي والتناقض بين الاعداء لان عدونا ليس واحدا بل هو اعداء كثر متلاقين حول هدف مركزي هو ابادتنا والتمهيد لذلك بتذويب هويتنا القومية لكي نتشرذم ونفقد طاقاتنا وتتبدد امكانياتنا .
ما هي ابرز الحقائق المتحكمة بالصراع في العراق وفي اغلب الاقطار العربية الان ؟
1-ستراتيجيات عظمى متحكمة : ان الاهداف المطلوب تحقيقها اساسا تقع في صلب ستراتيجيات عظمى – وليس ستراتيجية مرحلية – وفي مقدمة اهدافها التدمير المنظم للهوية القومية العربية واستبدالها بهويات فرعية سابقة للامة والوطنية ( الطائفية والعشائرية والمناطقية والعوائلية ..الخ ) ، ولذلك فكل الستراتيجيات المرحلية للعدو المشترك تتمحور حول تحقيق اهداف مرحلية توصل للهدف الاساس وهو تفتيت الهوية القومية العربية لكافة الاقطار العربية . بهذا تشترك اسرائيل الغربية واسرائيل الشرقية وامريكا وبريطانيا واوساط اوربية اخرى . تذكر هذه الحقية الميدانية يمكننا من النجاة من فخ الاعتقاد بان احد هذه الاطراف يمكن ان يساعدنا على منع تحقيق تلك الاهداف . فالذي يقدم لك السم ممزوجا بالماء وانت عطش لا يقدم لك الترياق للنجاة من سمه .
2-من هو العدو الاقدم ؟ يعتقد بعض العرب البعيدين عن منطقة المشرق العربي بان اسرائيل الغربية وامريكا يعاديان العرب منذ زمن اقدم من عداء الفرس للامة العربية ، لكن هذالاعتقاد خاطئ لان اسرائيل الشرقية اقدم في عدائها للعراق من امريكا واسرائيل الغربية فالصراع مع الفرس يسبق تاريخيا الصراع مع اليهود ، فمنذ اكثر من ستة الاف عام كانت القبائل البربرية الفارسية بمختلف مسمياتها تغزو ارض الرافدين كلما اصاب بلاد فارس القحط نتيجة عدم سقوط الامطار فكان خيارها الوحيد التقدم لغزو ارض الرافدين التي كانت غنية بالارض الزراعية والمياه . انذاك لم تكون اليهودية قد وجدت بعد .
اصل صراعنا مع الفرس وسببه الرئيس هو موارد الطبيعة وليس العنصرية والتي تبلورت كنتاج للصراع الجيوبولتيكي وللتمويه عليه وليس العكس، لكن العنصرية الفارسية حلت محل الضرورات الجيوبولتيكية لاخفاء الهدف الحقيقي وهو تحشيد الفرس العاديين خلف اباطرتهم لغزو العراق .
اذن من يعتقد بان صراعنا مع امريكا التي تأسست قبل اكثر من مائتي عام بقليل ، او اسرائيل الغربية اقدم من صراعنا مع الفرس واهم لان الصراع مع امريكا بدأ مع دعمها لانشاء اسرائيل الغربية بعد عام 1948 ، وصراعنا مع اليهود ابتدأ قبل ميلاد المسيح وصل الذروة مع تحرير نبوخذنصر لفلسطين حوالي 586 قبل الميلاد ، وجلب نخب اليهود أسرى إلى بابل ، بينما صراعنا مع الفرس بدأ قبل حوالي ستة الاف عام ، فصراعنا مع الفرس اقدم بكثير واعمق واعقد بما لايقاس. يضاف الى ذلك ان الشخصية الفارسية اشد تماسكا وقوة وعنادا من الشخصية اليهودية والشخصية الامريكية وهما شخصيتان هشتان كما اثبتت الحروب بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني او في حروب فيتنام والعراق مثلا .
من هنا فان تقديم الاعداء في تسلسل ستراتيجي حتمي لفهم اليات وطبيعة الصراع يتطلب وضع اسرائيل الشرقية قبل اسرائيل الغربية وامريكا . هذه اول واهم حقائق الصراع المحتدم الان .
3-امبراطوريات بالنهب : توفر الموارد الطبيعية كالماء والارض الزراعية والمعادن هو اهم شروط اقامة امبراطورية او بلد قوي ، وافتقار اسرائيل الشرقية كما اسرائيل الغربية لاغلب هذه الموارد الطبيعية يشكل احد اهم نواقصهما الجيوبولتيكية وهي حقيقة معروفة ، فاسرائيل الشرقية فقيرة بالماء والارض الزراعية لان ارضها هضاب قاسية ، وفلسطين مواردها محدودة جدا ان صلحت لدولة بسيطة فانها لا تصلح ابدا لدعم مشروع امبراطوري مثل اسرائيل الكبرى ، وامريكا مثلهما ولكن بطريقة اخرى : فهي امبريالية عالمية امتلكت امكانيات وموارد عظيمة ووصلت بها القمة لكنها ، ويا للمفارقة ، شاخت واخذت مواردها تتقلص نتيجة التوسع الامبريالي الافقي الباهض التكاليف والذي يتجاوز موارد امريكا الاصلية ، لهذا اصبحت امريكا الغنية لا تملك وسائل فرض سيطرتها على العالم .
وبناء عليه فان الحلم الامبراطوري الفارسي والصهيوني والامريكي لن يتحقق ابدا بقدرات الاسرائيليتين وامريكا وحدها ولابد من التوكأ على اخرين لتحقيق اهداف ستراتيجيتها العظمى ، وهكذا تلاقت ثلاثة ستراتيجيات كلها معادية للعرب وكلها تعتمد على موارد وموقع العرب في تحقيق احلامها الامبراطورية . بهذا المعنى فان الامبراطوريات الثلاثة لجأت لنهب موارد الاخرين لتوفير متطلبات التوسع الامبراطوري افقيا .
والسؤال الاساسي هنا هو : هل المشاريع الامبراطورية لهذه الاطراف الثلاثة يمكن الاستغناء عنها ام انها الهدف الاساس لكل منها ؟ الجواب هو كلا فالمشاريع الامبراطورية الثلاثة المذكورة تشكل الحلم الاعظم والاحب بالنسبة للنخب الفارسية واليهودية والامريكية ، ولذلك فان المشروع الامبراطوري هو قضية حياة او موت بالنسبة لهذه الاطراف الثلاثة التي تعتمد في التوسع على موارد لغيرها . لذلك كان لابد لهذه اطراف ان تجد طريقة تحقق بها الحلم الامبراطوري مهما كانت غريبة او مناقضة للحقوق والقانون والاخلاق والانسانية . هذه الاطراف الثلاثة شكلت تحالفا عمليا قاعدته ( زواج المتعة ) اي السرية وعدم الاعلان عنه ، لكنه زواج قائم على تبادل المتعة – المصلحة – وليس ممكنا فكه الا باجبار احد هذه الاطراف على هجر الاخر .
4-القاسم المشترك بين النخب الامبراطورية : لم تكن صدفة ابدا ان شاه ايران كان الداعم الرئيس لاسرائيل الغربية ولم تكن صدفة ايضا ان امريكا كانت الداعم الرئيس للشاه خصوصا دعمها لنزعاته المعادية للعرب ، والسبب هو ترابط ستراتيجيات هؤلاء وتلاقيها عند قاسم مشترك اصبح بالغ الوضوح الان وهو السيطرة على الوطن العربي وتقاسمه لانه اكبر مخازن الطاقة في العالم ، ولهذا فعندما اسقط الشاه بقرار امريكي -بريطاني - فرنسي كان الهدف تعزيز دور الشاه بعد استبداله بشاه اخر اكثر تأثيرا وهمجية وحقدا ومطامعا في ارض العرب وثرواتهم ، فنصب الغرب خميني شاها على اسرائيل الشرقية ليقوم بدور عجز عن القيام به محمد رضا بهلوي الشاه السابق ببساطة لانه كان قوميا فارسيا صريحا ونتج عن ذلك تعزز الحصانة القومية العربية ضده وضد مطامعه التوسعية فكان ضروريا تنصيب شاه اخر بلا نزعة قومية واضحة وانما هي مموهة بغطاء ديني طائفي كي يستطيع اختراق العرب الذين لم ينجح الشاه القومي الفارسي في اختراقهم .
اوصل خميني للحكم بشعارات ورطت الكثير من العرب في سوء فهم ما يجري لانهم غير ملمين بتاريخ الصراع مع الفرس ولا بتطور العدوانات الفارسية على مشرق الوطن العربي خصوصا احتلال العراق مرارا خلال الاف السنين وما نتح عنه من كوارث انسانية ، وكان اول واجبات خميني الفعلية والرسمية هو اسقاط النظام الوطني في العراق كي يكون ذلك مقدمة لاشعال صراعات داخلية طائفية وعرقية تدمر العراق وتنهي دوره القومي ثم تمتد لتشمل كل الوطن العربي وهو مانراه الان .وكانت شعارات خميني ( الموت لامريكا واسرائيل ) مخصصة لكسب عرب سذج وخدج ، او لبعض النفوس الدنيئة وتغطية خيانتها القومية بالوقوف مع اسرائيل الشرقية ضد العراق ، نتيجة بيعها الشرف والهوية من اجل المال الحرام.
اسقاط النظام الوطني في العراق لم يكن نتاج كره للبعثيين او لصدام الشهيد فقط بل كان بالدرجة الاولى نتيجة تمثيلهما للهوية القومية لدى العراقيين وقدرتهما على ردع بلاد فارس – اسرائيل الشرقية - وبما ان النظام الوطني كان قويا جدا ونجح في تقليم اظافر الشاه واجبره على توقيع اتفاقية الجزائر ( 1975 ) فان ازالة النظام الوطني كان الشرط الرئيس المسبق لاي توسع امبريالي فارسي في الوطن العربي ، لان العراق هو البوابة الوحيدة التي تمر منها الجيوش الصهيونية الفارسية لغزو الاقطار العربية الاخرى . على كل العرب تذكر هذه الحقيقة لفهم كل ما جرى خصوصا منذ وصل خميني للحكم بقرار صهيوامريكي .
5-الدعم الصهيوامريكي لخميني : اثناء الحرب التي فرضها خميني على العراق ( 1980-1988 ) ، وعلى عكس كل شعارات خميني النارية ضد امريكا واسرائيل الغربية ، فان دعم الغرب والصهيونية العسكري والمخابراتي كان لنظام خميني وما فضيحة ( ايرانجيت ) الا مثال واحد فقط على الدعم الصهيوامريكي لخميني ضد العراق . ونتيجة لمرور وقت طويل اسقط الزمن والحقائق التي فرضت نفسها دعاية مضللة قالت بان ( امريكا دعمت كل من العراق وايران اثناء الحرب ) لكن الحقيقة الثابتة هي ان امريكا لم تدعم العراق ابدا وتحدينا ونتحدى الان اي طرف يقدم دليلا واحدا ضد ما نقوله فقد كان الدعم الصهيوامريكي لاسرائيل الشرقية فقط .
جاء غزو العراق ليغلق باب الاجتهاد وتعدد التفسيرات حول طبيعة العلاقة بين امريكا واسرائيل الغربية من جهة واسرائيل الشرقية من جهة ثانية ، فقد اكدت الوقائع والمواقف الرسمية لكل من امريكا واسرائيل الشرقية انهما تتعاونان مباشرة من اجل احتلال العراق وتثبيت الاحتلال وادامته وتدميره كليا بهويته وبشره وعمرانه . لذلك فمن الضروري طرح سؤال جوهري وهو : ماذا حصل في العراق بعد غزوه ويقدم الادلة الحاسمة على ان امريكا واسرائيل الشرقية متفقتان على تدمير العراق والامة العربية ؟
يتبـــــــع ..Almukhtar44@gmail.com
٢٥ / كانون الثاني / ٢٠١٥