حكاية شلن / كتابات ديك الجن
----------------------------------------------
مرحبا.. أنا اسمي شلن .. و في شهادة الميلاد اسمي الحقيقي نصف درهم.. انولدت في مطبعة العملة الملكية في ويلز في بريطانيا سنة 1978.. و ما بعرف شو تهيأ للرسام جيفري كولي يومها.. بس لما طلبوا منه يرسم صورة للملك عشان نحملها على ظهرنا شأننا شأن أي مواطن اردني.. رسم صورة الملك وهو تقريبا أصلع.. الله يرحم الملك و يرحم جيفري كولي.. و يرحم كل الصلع.. انشحنت أنا و اخواني ال 19 في لفافة ورقية على متن طائرة عسكرية من royal mint في ويلز للمطار العسكري (تم منع ذكر اسم المطار حفاظا على السرية).. وكانت أول مرة بسافر فيها.... نزلنا من الطيارة.. و حملونا النشامى لمخازن البنك المركزي.. كانت الدنيا شهر واحد و برد شديد.. ولا راعوا انا انجليزيو الاصل و المنبت ولا شي.. .. بعد ما وقعوا اوراق التسليم.. رمونا في المخزن البارد.. وراحوا.. ولا شغلوا التدفئة حتى..
خلال اقل من شهر كنت نازل في السوق.. اول انسان مسكني كان أبو فادي صاحب دكانة النجاح في حي نزال.. راح على بنك الاسكان فرع الجبل الاخضر و هناك فدوى موظفة الكاش الحلوة ام شامة على الخد.. أعطت أبو فادي اللفافة اللي أنا موجود فيها لما طلب فراطة.. و بس طلع من البنك, عدلت فتحة قميصها و دعت عليه أبو عين زايغة اللي قد أبوها.. دخلت درج الدكان أنا و اخواني.. وودعنا بعض لأنه عارفين الفراق قريب.. وهاي طبيعة حياتنا.. قعدت يومين بس في الدرج.. وحكولي الشلون القديمة و البرايز و القروش عن طبيعة البلد و السكان.. مثلي مثل أي مغترب جديد..
من درج أبو فادي وقعني حظي التعس بايد عياش.. ولد في الصف السادس.. كانوا ينادوه عتريس.. مدحبر و أسمر و اله دغاديش و لسانه زفر... أول ما شافني انبسط.. كنت لسه بلمع.. وصلعة الملك بتلمع.. ولما كان عتريس مدمن فنة (ملك و كتابة) .. قرر يعتبرني شلن الحظ.. و طول نهاره يلعب فنة عن قلول حلبية و مش حلبية.. وعن أكل و عن اللي بدك اياه.. قعدت مع عتريس 3 شهور.. طبش راسي من الفنة.. ما خلصت منه الا لما جاع جوعا شديدا في يوم.. و ضحى في مقابل سندويشة فلافل من عند أبو عايد.. مع شطة زيادة..
لفيت بعدها بين ايدين الناس.. شأني شأن أي عملة معدنية.. لفيت الاردن كلها .. من شمالها لجنوبها.. رحلة استمرت 8 سنوات.. متنقلا بين الجيوب و الدروج و محافظ النساء الجلدية و عبب الختياريات... حضرت أفراح وأتراح و ليالي ملاح و ليالي مش ملاح.. وطوش و صلحات و جاهات و زواجات و طلاقات و حردات كمان.. رحت على العقبة.. و رحت البتراء والسيق و ركبت على الجمل (بتدوخ الركبة على الجمل).. وشفت هناك السائحات الأجنبيات .. و كان في سائحة هولندية هولندية (التكرار للتأكيد و أشياء أخرى) كان بدها توخذني تذكار.. بس باخر لحظة بطلت.. شحدتني لولد بتراوي لزق فيها.. وزرت اربد و النعيمة و الصريح و شوينا عند ذات راس كمان.. ورحت عجلون و الشوبك و الطفيلة والزرقا و حي معصوم أو حي مفصوم.. وشفت العقبة و البحر الميت (كنت راح اغرق هناك) ورحت على الشام اربع خمس مرات و نزلت على الضفة كمان و زرت القدس و الخليل و ترمسعيا و الاقصى (بس ما دعيت لحدا ) واعتمرت و حجيت و كفرت و الحدت و كل شي عملت.. ودخلت مطاعم و محامص و سرافيس وتكاسي و باصات و كليات و جامعات و بارات و مراقص و مساجد و كنايس وغرز واوكار .. ما خليــــــت..
لغاية ما في يوم.. كان صيف 1987.. كنت موجود في جيبة كنترول باص و أعطاني لبنت مروحة على بيتها.. حطتني في شنطتها.. سلمت على قلم الروج و علكة شعراوي و قعدت.. لما وصلنا البيت.. حطت الشنطة على الكنباية و دخلت.. و اجا ولد صغير 3 سنين يبعبش في الشنطة.. ومن سوء حظي مسكني..
طبعا كعملات معدنية.. بنكره الاولاد اللي في هذا العمر. لأن أول اشي بعملوه انهم يكتشفونا عن طريق الفم.. وياما اخوة و أصحاب الي انتهوا في أمور مثل هاي.. مسكني الولد الصغير و أنا متوقع نهايتي المحتومة.. لكن الشرير بدل ما يبلعني.. دحش ايده جوا ايد الكنباية.. ووقعني..
وقعت جوا الكنباية اللي أتوقع انها من العصر الطولوني.. (نسبة لأحمد بن طولون) .. دخلت مكان مظلم. فيه بقايا قشر بزر.. قلم رصاص مفطوع.. زر قميص.. وبقايا أشياء بدون ملامح.. سمعت حنان وهي بتبهدل فيه ليش يلعب في الشنطة.. و أخذت الشنطة وراحت. و أنا ما حدا انتبه لي.. وكانت بداية التيه يا يوشع بن نون..
بعد يومين يئست اني أخرج من الجب.. وبدأت أتأقلم على حياتي الجديدة.. و من الأصوات اللي كنت أسمعها تعرفت على العائلة اللي استضافوني في كنبايتهم الطولونية.. صاحب البيت اسمه أبو نضال.. في الخمسين و بشتغل بليط.. عصبي و بصرخ بس قلبه طيب.. الام اسمها .. (عيب أحكي اسمها) .. أم نضال.. في أواخر الاربعين.. ست مؤمنة و ملتزمة و صابرة على الحياة.. البنت الكبيرة حنان 26.. خريجة كلية مجتمع و بتشتغل سكرتيرة لدكتور في جبل الحسين.. نضال 24 بدرس هندسة في رومانيا.. و اله 6 سنين هناك و ما خلص.. و بنت متزوجة اسمها أمل 22 ومتزوجة بليط شاب بشتغل مع أبوها و ساكنة جمبهم... و الشيطان الصغير هو ابنها صبحي.. صبحي الصغير مدوحس..
مع كل سفراتي و روحاتي السابقة و محبسي الراهن الا انني كنت مبسوط.. لأني تعرفت على الناس عن قرب و في أمور ثانية غير البيع و الشراء.. ولان الكنباية الطولونية كانت في غرفة القعدة اللي هي نفسها غرفة الضيوف وغرفة النوم للزوار وغرفة كل اشي تقريبا.. كنت أسمع كل شي بصير.. وكان التلفون قريب جدا.. فبسمع كل مكالمة كمان.
أبو نضال كان وضعه بدأ يصير صعب.. الشغل في البلد قل.. و نضال هلكه بالتحويل و أم نضال بتصبره عليه عشان يرجع بالشهادة اللي طال انتظارها.. و ليل نهار تدعي ربها يوفق نضال و يبعد عنه بنات الحرام الشقراوات الرومانيات.. حنان كانت تتعب كثير في الشغل.. بس مش قادرة تترك.. من جهة كانت تحب الدكتور من طرف واحد.. (زي ما اعترفت لبنت خالتها على التلفون) و من جهة وضعهم صعب.. أمل جوزها بظل يضربها و يحردها.. ووضعه مش أحسن من وضع أبوها..
كانت حياتي مع العائلة حلوة.. أبداها الصبح بام نضال تصلي الفجر وتدعي.. و أبو نضال يصحى و تفطره أم نضال.. و حنان تلبس و تطلع على الشغل.. عال 7 يكون البيت فضي الا مني و من أم نضال وهي بتشتغل.. و تصلي الضحى و تدعي لنضال.. عشت معهم رمضان و العيد و الصيف و الشتا و الصوبات.. وانتظار نضال اللي طول.. في 1988 الملك أعلن فك الارتباط.. و انهار الدينار الاردني و صار في غلاء فاحش.. ومظاهرات.. وضع البلد صار مكركب.. و كثير أيام قعد أبو نضال عن الشغل.. ونضال صفى بدون تحويل.. وصار البيت كله مشاكل و توتر.. ما بقطعها الا صلوات و دعاء أم نضال..
يتبع..
في 1989 .. أعدموا تشاوتشسكو.. ورجع نضال بخفي حنين.. لا شهادة ولا هم.. و حكى لأبوه انه كان ظايل فصل و ما كمل عشان الثورة.. ونفس الكذبة انحكت للاقارب.. بس ما حدا صدق..في 1990 صارت حرب الخليج.. وانجلط أبو نضال و قعد في البيت شهرين و مات... حنان فصلها الدكتور بعد ما استغلها.. و تزوجت ابن عمها اللي أكبر منها ب 15 سنة في الضفة.. ورحلت هناك.. نضال طلع على ليبيا و انقطعت أخباره و تحويلاته بعد 6 شهور.. و صفيت أنا و أم نضال لحالنا في البيت..
في 1998.. توفت أم نضال بعد معاناة طويلة.. وانقطاع عن ابناءها.. باعت أمل الاثاث لتاجر خردة و أنا كنت ضمن الصفقة.. خلال يومين كنت حر طليق بعد ما فككوا الكنباية الطولونية.. رجعت ألف بين الناس.. بس كانت نظرتي مختلفة أو الناس كانوا مختلفين و قيمتي الشرائية كانت انحدرت بشكل كبير..
في 1999.. توفى الملك حسين.. كنت يومها مع واحد من الناس اللي وقفوا على باب المدينة الطبية يبكوا.. و استلم الملك الجديد.. و قرر يعدم العملات المعدنية القديمة و يطبع عملات جديدة عليها اسمه.. صاروا يجمعونا لحملات الاعدام.. و في يوم كنت في مطعم و صاحب المطعم أعطاني لشاب.. عرفته من لمسة ايده.. عياش أو عتريس.. كان كبر و بطل مدحبر.. وكانت الحياة لاعبة فيه فنة لشبعانة.. و مطبشة راسه زي ما طبش راسي.. كان يشتغل عامل باليومية.. ثاني يوم نادوه عشان صيانة للمدرسة الشركسية في حي الظهير في مرج الحمام.. كان في تسريب مي من الزينكو على السطح و طلع يزبطه و أنا معه.. لما خلص و اجا ينزل.. وقعت من جيبة بنطلونه.. و اجيت جوا طوبة.. هو انتبه انه في شلن وقع.. بس ما انتبه وين وقع.. تركني و نزل..
الي 15 سنة جوا الطوبة على سطح المدرسة.. و الحلو ان الطوبة فيها فتحة بتسمح لي أشوف عمان.. راقبتها كيف كبرت في ال 15 سنة الاخيرة.. وحمام مرج الحمام كان يحكيلي كيف تغيروا الناس و كيف صاروا أكثر عصبية و نزق.. وكيف مع انه عمان تطورت الا انه الناس فقرت.. و تعبت و كبرت.. والمستقبل أسوأ و أسوأ.. و صعب يرجع زي زمان..
مع كل صيف و شتا كان يتغير لوني لغاية ما صرت أخضر.. و زملائي العملات كلهم انعدموا.. عشان يفسحوا مجال للجيل الجديد.. لما بطلع على حياتي وحياتكم يا بشر بستغرب.. أنا أديت مهمتي على أكمل وجه.. ياما أسعدت أطفال و ياما جبت أشياء لناس.. وعشت الحياة بعدهاو عديدها.. كنت قرش حلال و كنت قرش حرام وكنت صدقة و كنت مصروف و كنت سرقة...20 سنة من عمري و أنا أخدم الناس لما انتهت فترة صلاحيتي و صرت بدون قيمة.. و أنتوا مثلي.. راح تأدوا دوركم و تنتهوا.. بس مشكلتكم يا بشر انكم بتعطونا احنا الفلوس قيمة أكبر مما نستحق.. على حساب أمور أهم.. وما بتعرفوا القيمة الحقيقية للفلوس الا ساعة الموت.. بتعرفوا انها مجرد وهم..
لو كنت مكان الملك حسين بزمانه.. كان ما طلبت من جيفري كول يرسم صورتي على العملة.. يمكن كان أحسن لو كتبوا عليها "تزودوا.. فإن خير الزاد التقوى"