ما هي حقيقة مبادرة ميتران لمنع العدوان الثلاثيني ؟شبكة ذي قـارصلاح المختار تجنبت كثيرا الاشارة الى ، او الكتابة عن بعض ما اطلعت عليه او شاركت فيه من احداث معروفة لاسباب متنوعة ، ومنها حدث كبير اطلقت عليه تسمية ( مبادرة ميتران ) لمنع العدوان الثلاثيني على العراق في عام 1991 والذي يسمى ب(حرب الخليج الثانية ) ، ففي تموز من عام 1990 التحقت بوظيفتي الجديدة وهي الامين العام المساعد لجامعة الدول العربية لشؤون الاعلام ، وكان مقرها تونس ، وبعد فترة قصيرة تفجرت ازمة الكويت وتطورت الى دخول العراق لها عسكريا (في 2 اب - اغسطس) ونشأت ازمة عالمية كبيرة .
وبعد اعداد سياسي واعلامي ونفسي قامت به امريكا ومن معها خصوصا بعد قمة القاهرة التي قام فيها الرئيس المصري حسني مبارك بفرض قرار صاغته امريكا مباشرة من اجل الاعداد للحرب على العراق طلب تدخل قوات دولية ( لتحرير الكويت ) ، بدأ تدفق القوات الامريكية ومعها جيوش اكثر من 28 دولة وبدعم قدرات 40 دولة تحالفت مع امريكا لغزو العراق تحت غطاء ( تحرير الكويت ) ! كانت التطورات تنذر بكوارث للعراق والوطن العربي والعالم لان العراق من اكبر منتجي النفط بينما دول الخليج العربي اكبر مصدر للنفط الى العالم لهذا فان الازمة اتخذت منذ بدايتها طابعا عالميا عاما .
وكان الامين العام للجامعة العربية السيد الشاذلي القليبي قد استقال بعد قمة القاهرة وحل محله مؤقتا المرحوم اسعد الاسعد ( لبناني ) امينا عاما وكالة ، وكان وقتها يشغل منصب امين عام مساعد في الجامعة العربية ، وكنت وقتها اتجول مساء كل يوم في مقرات دعم العراق من قبل القوى الوطنية التونسية التي واصلت العمل الداعم للعراق والرافض للعدوان عليه طوال تلك الفترة ، وكانت كل قوة او تجمع قوى لديه مركزا للتجمع . القي كلمات اشرح فيها ما يجري في العراق واكشف حجم التأمر على العراق واربطه بوجود مخطط شامل ضد الامة العربية تكون بدايته العراق ولكن نهايته هي تقسيم كافة الاقطار العربية .
وفي صباح يوم وكنت في مكتبي في مقر الجامعة العربية اتصل بي صديق وقال لي ان السيد ادجار بيزاني مدير معهد العالم العربي في فرنسا – ومستشار الرئيس الفرنسي ميتران - يريد رؤيتك بأسرع وقت ، فلم الح في الاستفسار عن السبب وعرفت فورا بوجود سبب مهم ان لم يكن خطيرا دفع السيد بيزاني لطلب اللقاء بي مع ان العراقيين منعوا من دخول فرنسا وقتها . قلت اعطوني وقتا كي اعد نفسي ولكنني كنت اريد اخذ موافقة القيادة العراقية على السفر الى باريس في ذلك الوقت . اتصلت فورا بالاستاذ طارق عزيز فك الله اسره - وكان وزيرا للخارجية - واخبرته بان بيزاني اتصل بي وطلب اللقاء الفوري بي ، فقال لي سافر والتقي به واعرف ما لديه واخبرني .
وكنت قد تعرفت على بيزاني في عام 1988 عندما جاء مع وفد فرنسي ضخم الى العراق عند الاحتفال بالنصر على ايران واعادة بناء مدينة الفاو التي دمرتها ايران اثناء احتلالها لها ، وكنت وقتها مديرا عاما للا علام – الخارجي والداخلي – وكنت اعرف ان بيزاني مفكرا وكاتبا وكان وقتها يشغل منصب مدير معهد العالم العربي في باريس وعندما اتصل بي كان يعمل ايضا مستشارا للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران ، اتصلت بالشخص وقلت له كيف احصل على الفيزا وهي ممنوعة على العراقيين ؟ فقال ان الحكومة الفرنسية ستعطيك الفيزا فور طلبها واخبرنا متى تصل وسوف نستقبلك في مطار اورلي .
التقيت بالامين العام وكالة المرحوم اسعد الاسعد وقلت له ان مكتب الجامعة العربية في باريس لديه مشاكل وارجو الموافقة على ايفادي لزيارته ، فوافق بلا نقاش واصدر فورا امرا بايفادي الى فرنسا لمدة اسبوع لتفقد مكتب الجامعة العربية فيها لان تلك المكاتب كانت مسؤوليتي المباشرة . غادرت من تونس الى مطار اورلي وما ان انزلت من الطائرة حتى وجدت شخصا ينتظرني في بابها وقال لي ( تفضل سيدي ) سار معي الى قاعة الضيوف الكبار لاجل الراحة قلت له رحلتي كانت قصيرة ولا احتاج للراحة ، فقال لي اذن سيدي اسمح لي باخراجك من باب اخر غير باب المغادرين لتجنب رؤيتك وانت تخرج ، قلت له موافق .
انتظرت في الفندق قليلا ورن الهاتف وكان بيزاني قال لي : متى نلتقي ؟ قلت : في الوقت الذي تراه مناسبا بالنسبة لي انا جاهز . جاءت سيارة بستائر معتمة واخذتني لبناية عتيقة جميلة فيها شقة بيزاني وكانت شقته مزدحمة بالكتب . بادرني بالقوال : قبل ان نبدا اود الاستفسار منك عن امر لا صلة بالعراق فهل تسمح ؟ قلت له تفضل ، فقل : نحن قلقون منذ ايام من احداث غامضة تجري في الاتحاد السوفيتي ومخابراتنا تقول بوقوع احداث خطيرة فهل لديكم معلومات عنها ؟ اجبته كلا ليست لدي اية معلومات . ما قاله لي بيزاني كان مجهولا لان تلك الاحداث لم تكون علنية وكانت تجري في الخفاء .
انتقلنا لموضوع العراق فقال لي : ما ساخبرك به ابتدانا به مع السيد برزان التكريتي ولكننا لم نستطع الاتصال به رغم محاولاتنا العديدة ولذلك اضطررنا للاتصال بك لاننا نعرف ان لك صلات بالقيادة العراقية . قلت له تفضل . قال الرئيس ميتران كلفني بان انقل رسالة للرئيس صدام حسين خلاصتها ان فرنسا تدعم جوهر ما جاء في مبادرة الرئيس صدام حسين وهو تحقيق تطبيق مترابط لقرارات الامم المتحدة الخاصة بالكويت وفلسطين كوسيلة لانهاء ازمة الكويت سلميا ، فهل تقبلون ببدأ الحوار معكم لاجل وضع خطة لتطبيق تلك المبادرة ؟ وزير خارجيتنا جاهز للسفر الفوري الى بغداد لهذا الامر وسوف يغادر بطائرة خاصة . هذا هو ما اردت منك نقله للرئيس صدام حسين .
وكان الرئيس الشهيد صدام حسين قد طرح مبادرة لحل ازمة الكويت تقوم على انسحاب متزامن للقوات العراقية من الكويت والانسحاب الاسرائيلي من الاراضي العربية المحتلة في وقت واحد لتأكيد ان قرارات الامم المتحدة تطبق بمعيار واحد وليس معايير مزدوجة .
ناقشنا تفاصيل كثيرة حول الامر كي افهم بالضبط ما هو المقترح الفرنسي وغادرته بوعد مني بالرد باسرع وقت وذهبت فورا ومباشرة الى السفارة العراقية وكان الوقت ليلا وكانت شبه فارغة الا من الحراس والدبلوماسي الخفر ، طلبت من مسؤول الجفرة ارسال برقية امليتها عليه بما تم بيني وبين بيزاني وارسلت .
في اليوم التالي وصلني الرد وهو ان احضر الى بغداد ، طرت من باريس الى بغداد مباشرة وقابلت الاستاذ طارق عزيز وقال لي انه رفع المبادرة الفرنسية للرئيس صدام حسين وينتظر الجواب وان الرئيس طلب حضوري الى بغداد .في اليوم الثالث على ما اتذكر التقيت بالاستاذ طارق وقال لي ان الرئيس طلب ابلاغ الجانب الفرنسي باننا موافقون على مبادرة الرئيس ميتران وان الرئيس يبعث بتحياته للرئيس ميتران ، فاذهب وبلغ بيزاني بالامر . غادرت فورا الى باريس ومرة اخرى اخرجت من باب جانبي والتقيت فورا ببيزاني واخبرته بالرد واتصل هاتفيا بالرئاسة الفرنسية وابلغني بان الرئيس ميتران امر بمغادرة وزير الخارجية غدا فجرا الى بغداد لبدأ التفاوض حول تنفيذ المبادرة .
ودعت بيزاني وغادرت في نفس اليوم الى تونس ووصلت مساء . وفي الصباح استيقظت لاسمع الاخبار تقول بان زيارة وزير الخارجية الفرنسي الى بغداد قد الغيت ! وعرف العالم كله ان بوش الاب تدخل فور معرفته بمبادرة ميتران لمنع الالتزام بها وتنفيذها . في عام 1992 اصدر بيزاني كتابا صغيرا ذكر فيه لقائي به ولكنه قال انه التقى دبلوماسيا عراقيا اتصل به اثناء مروره بباريس وناقش معه مبادرة ميتران وطلب منه ايصالها للحكومة العراقية ، وهذا طبعا مخالف للواقع فانا لم اطلب منه شيء ولم اتصل به بل هو من اتصل بي والوسيط حي يرزق حتى الان .
هذه المبادرة وقبول العراق لها وتحمس فرنسا لتبنيها كانت املا بمنع مسلسل كوارث اصابت العراق والامة العربية وكان يمكن منع وقوعها لو قبلت مبادرة ميتران ومبادرات العراق المتعددة لمنع الحرب ، ولكن اصرار بوش الاب على منع اي مبادرة تحل الازمة سلميا كان سببا فيما يواجهه العرب الان من كوارث ذهب ضحيتها من العراق فقط اكثر من ستة ملايين عراقي ماتوا منذ عام العدوان الثلاثيني وحتى الان وتهجير اكثر من 8 ملايين عراقي ناهيك عن الضحايا السوريين والمهجرين السوريين ، كان بوش الاب يعرف مثل كلنتون وبوش الصغير بان تلك الحرب كان هدفها بعيدا جدا ولم تكن مجرد محاولة ( لانقاذ ) الكويت كما قال بل كان يعرف انها مقدمة لاحداث متسلسلة خطيرة يجب ان تقع وتتعاقب عمليات وقوعها وبلا توقف وها هي تقع بكل كوارثها غير المسبوقة وتستمر وتتوسع طبقا للمخطط الستراتيجي الكبير : تقسيم الاقطار العربية على اسس عرقية وطائفية .
Almukhtar44@gmail.com
١٧ / شبــاط / ٢٠١٥