هــل حقــا يمكــن تقسيـم الـعـــراق ؟ 1
شبكة ذي قـار صلاح المختار
من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه
حكمة عربية مرة اخرى يتصاعد التبشير بتقسيم العراق فبعد كل كارثة دموية تتصاعد اصوات مبحوحة من شدة الالحاح تجزم بان العراق سيقسم قريبا وان ما يجري ليس سوى مقدمات للتقسيم الحتمي ، وكما في كل مرة فان المايسترو الرئيس هو امريكا بابواقها المتصهينة ، ويردد خلفها نغول عرب نفس المعزوفة متظاهرين بالاختصاص والمعرفة فيشرحون الاسباب الموجبة لتقسيم العراق ، لكنهم في الواقع ليسوا سوى مجندين تفرض عليهم كلماتهم ، وتأكيداتهم بان العراق سيقسم مبنية على مظاهر الاحداث وليس على طبائع الاشياء خصوصا طبيعة الشخصية العراقية .
ومن المهم جدا الانتباه الى واحدا من اهم تكتيكات المخابرات الامريكية وهو افتراض ان الانسان وهو يواجه الموت يوميا ، يراه ويعانقه ويفترق عنه منتظرا اياه مرة اخرى وفي اي لحطة ، سوف تدفع طبيعته الاصيلة الى الخلف فيطمر وعيه وتتعطل ذاكرته وينسى اكثر الاشياء منطقية وواقعية واخلاقية وعقائدية ويبدأ بتقبل كل فكرة حتى ولو كانت مستحيلة ، فتلك هي طبيعة البشر والتي جعلت خبراء امريكا يصيغون خطة وضع الانسان عند حافة الموت كي يمكن اختراقه وتدمير ملكة الوعي السليم لديه .
خطة احتلال العراق في اول مقدماتها تبنت سلاح الحرب الطائفية لاجل تقسيم العراق وكان دستور بريمر والذي تبناه علي خامنئي مرتكزا على قاعدة المحاصصة الطائفية والعرقية وبذرة اشعال حروب متكررة ثمنها باهض في الارواح والعمران ، وكانت تجربة عام 2006 هي الاختبار الاول لفكرة انتزاع العراقي من هويته الوطنية والقومية ، اي من ضميرة الجمعي ووضعه عند حافة الموت وجعله يتذوق طعمه العلقمي كل لحظة بمقتل ابنه او اغتصاب زوجته او ابنته ونسف داره وتجويعه حتى اكل التراب .
ولكن بنية هذه الهوية العراقية المختزنة لذاكرة فيها حكم وتربية اكثر من ثمانية الاف عام كانت ومازالت اقوى من المحن والكوارث فابقت العراقي قادرا دائما حتى وهو يعيش عندحافة الموت على رؤية ماضية ومستقبله وعدم الانكفاء على حاضره الاسود ، ومن يرى ماضيه بلا تشوش يستطيع رؤية مستقبلة وهو يتعالى فوق جراح وكوارث حاضره .
لو تذكر من استسلم لاطروحة ان وقت تقسيم العراق قد حان كم مرة اوصل العراق الى تلك الحافة المميتة لكنه سرعان ما كان يبتعد عنها بقوة ويعود تفكيره صافيا سليما ، ولو تذكر من يروج لفكرة بدأ تقسيم العراق كم مرة اقتنع البعض بان التقسيم قد اصبح حتميا وهي مرات عديدة لكن وفي كل مرة كان العراق يبقى واحدا قويا بلحمة اهله العصية على التقطيع لما امكن اعادة سيناريو الاضطراب والقلق بين فترة واخرى عندما يكرر صوت امريكا نفس الاسطوانة : لقد اقتربت ساعة تقسيم العراق .
بل ان اهم دروس ما بعد الاحتلال والذي يكفي لابقاء العقل صافيا ويرى الاشياء كما هي وليس كما يراد لنا ان نراها ، وهو درس محافظة العراق على وحدته بعد 12 عاما على الاحتلال وعيش العراقي في جحيم موت اكثر من ثلاثة ملايين عراقي وتهجير اكثر من عشرة ملايين عراقي وتعرضهم لاقسى معاناة انسانية متخيلة ومع ذلك بقي العراقي عراقيا واستمر يتصرف بصفته عراقيا وليس ابن طائفة او اثنية او منطقة .
المنطق السليم يقول لو كان التقسيم ممكنا لتقسم بعد عام 2006 لكنه بقي ولم يتقسم ، ولو كان العراقي مستعدا للتقسيم لراينا وبعد كل الاحداث البالغة الشؤوم لما بعد صيف عام 2014 والتي كانت تكفي لتقسيم بريطانيا وفرنسا وروسيا لكنها عجزت عن تقسيم العراق . اما امريكا فلا تحتاج لنفس بيئة العراق في مرحلة ما بعد صيف عام 2014 فهي اصلا جاهزة للتقسيم باحداث اقل بكثير من جزء بسيط جدا مما يمكن ان يقسم بريطانيا . بل تذكروا ان امريكا وهي تشعل نيران الحروب والازمات في كل مكان تسعى للبقاء لانها بدون ازمات خارجية سوف تتشرذم بلا حرب وبلا ضغط خارجي . اليس هذا ما اكدته نظرية ( صراع الحضارات ) التي وضعها البروفسور صموئيل هنتنجتون ؟
اغلب ازمات العالم الحالية هي نتاج انتهاء العمر الافتراضي لامريكا لانها تريد مواصلة البقاء برئة اصطناعية وبدم الشعوب الاخرى ، وما لم تتذابح الشعوب وما لم تتواصل الحروب وما لم يموت الملايين فان امريكا ستموت بلا سكين او رصاصة لانها وحش خرج من مختبر تجارب محرمة ووجد انه لن يعيش الا على امتصاص دماء البشرية .
من يتذكر هذه الحقيقة هو من لديه رؤية للماضي بلا تزوير ومن يتحصن ضد محاولة وضع حاجز بين حالته وذاكرة ضميره العراقي الذي بعد ان غطس حتى رأسه في الدم قفز من بينه عثمان ابن الاعظمية لينقذ كاظم من النجف ، ثم وقف ابن مدينة صدام وابن كربلاء ليحتضن عوائل الانبار المهجرة في داره بعد ان اراد نغول ايران منع بقاءهم في بغداد وشرع في اغتيال اطفالهم وقتل شبابهم ، هؤلاء هم ذاكرة الضمير العراقي الحي الخالدة ، هؤلاء هم العراق وليس نغول ايران ، هؤلاء هم المصد الذي يبعد العراقي عن السقوط في بؤرة الموت عندما يجبر على العيش في جحيم الطائفية والتعصب العرقي لكنه ينجح في المحافظة على الحصانة ضدهما والتطهر من اثامهما .
لان اعلامهم اقوى من اعلامنا ولان مالهم كثير ونحن بلا مال ولان عصر الغرفة الالكترونية يصنع الانسان الافتراضي المجرد من الوعي التاريخي ومن ذاكرة الضمير فانهم يستطيعون نشر ( افلامهم ) وتحويلها الى ما يشبه الحقيقة فيظن السذج انها حقيقة ، ولكن كم ساذج ينسى ان هولي وود بارعة الى الحد الذي تجعل الانسان وهو يشاهد افلامها يخلط بين الواقع والخيال ؟
العراقي ربما يكون من اكثر شعوب الارض اندماجا مع افلام هولي وود ولكنه لنفس السبب الاسرع في التحرر من اوهام هولي وود حالما يخرج من الدار السينما المظلمة فيرى نور العراق وتوهج شمس العراق وطراوة ذاكرة العراق . العراقي ليس مثل اخرين يبقون اسرى الصور المذهلة لانتاج هولي وود والتي تشوه وعيهم وتحط من دور ذاكرة ضميرهم فتتحول حياتهم الى صدى فارغ كالطبل لما شاهدوه ، فهو ما ان يستيقظ من غفوة اللذة او تشويش الالم حتى يباشر وعيه بذاته التاريخية وينجذب لهويته بقوة لا نظير لها .
اليوم ونحن نشاهد حلقة جديدة من مسلسل هولي وود المسمى ( تقسيم العراق ) اجزم بان من سيقسم ليس العراق بل جاره الشرير المتمترس بكرهه العميق لنا في شرقنا ، والذي دعم مخرج هولي وود دوره في العراق والوطن العربي وسلمه كافة ادوات الابادة ونشر الخراب والفوضى الهلاكة من اجل تغيير الهوية وتقسيم الوطن . لكن ما لم يعرفه مخرج هولي وود ، الساكن في مقر المخابرات الامريكية في لانغلي في فرجينيا ، ان التاريخ ليس مجرد زمن طويل مر علينا بل هو حزم ضوء تقدح في ذاكرتنا كلما حل عصر ظلام وتنمر الظلم .
بتلك القدحات نرى طارق بن زياد يحرق السفن ويقول لجنده ( البحر من وراءكم والعدو من امامكم ) فيقدم لجنده فرصة صنع تاريخ عظيم ومجيد ، وكي نرى صلاح الدين الايوبي وهو يقاتل بذاكرة ضمير استند الى مركزية القدس في حوافزه فقاتل وانتصر ليس بالسلاح فقط بل بالحكمة والصبر والذكاء ، ونرى صدام وهو يكتسح العالم ببطولته التي اذهلت حتى من قرر اعدامه في البيت الابيض يلوح برايات البطولة والصمود حتى النصر .
نحن امة ربما تهزم اجساد ابناءها بالاعدام والاغتيال لكننا لا نهزم روحيا وعقائديا ونغذ السير في دروب النصر الحتمي ، نحن امة فيها منائر بلا نهاية ما ان تدمر منارة في الفلوجة وكربلاء حتى تتعالى قمة مائة منارة تشع نورا الهيا يجعلنا نرى الطريق بكل ما فيه من فخاخ وافاع والغام قاتلة ، فنستعد لها ونجتثها واحدة بعد الاخرى ، وها نحن الان نجتث من اراد اجتثاثنا كعرب ، نستدرجه الى مناطق القتل في العراق – كما في سوريا واليمن - وهو يتصور انه يتقدم وينتصر ، وفي حرب تقوم على توهم العدو انه ينتصر يجب علينا ان نحفظ اسرار ذاكرة الضمير ونواصل دفع العدو الى حزمة من الفخاخ ، فعندما يخرج من فخ مبتور الساق علينا دفعه لفخ اخر كي تبتر يده في الفخ الاخر حتى يصل الى فقدان كافة اطرافه وعند ذاك تستطيع ذاكرة الضمير ان تنطق بكلمة السر ، سرنا الكبير والعظيم ولكن في ساحة ( الاحتفالات الكبرى ) .
نحن ننتصر ايها العراقيون فلا تغرنكم غيوم هولي وود فانها سوف تنقشع ما ان تغادروا قاعة العرض الصغيرة . ليس صحيحا الخلط بين التأثيرات القوية للانفعال والتفاعل مع الحدث وبين الواقع الميداني وما فيه من الغام ليست كلها من صنع العدو . نحن ايضا نصنع الالغام المميتة . اصبروا وامسكوا بابواب العراق الاربعة كي ترون غدا صباحا ان العراق كان العراق وسيبقى العراق لان فرسان العروبة مازالوا في خنادقهم جاهزين للحظة العشق الاعظم .
فقط انتظروا اذان الفجر وهو قريب جدا وسترون بعد الخروج من المساجد ان كل شيء عاد كما كان واحسن واجمل فالعراق خلقه الله ليكون واحدا خالدا وجميلا لان الله حصنه بارادته عندما جعله مهبط الانبياء .
Almukhtar44@gmail.com
٢٨ / ٥ / ٢٠١٥