وأخيراً طاوعني القلم في رثاء الضاري! / د. جاسم الشمري
10 /06 /2015 م 01:38 مساء ما أصعب أن تكتب عن الرجال الرجال!
وما أصعب أن تحاول وصف رموز الوطن!
وما أصعب استحضار الذكريات معهم! وما أصعبها من مهمة تلك التي تمسك القلم فيها؛ لترسم صور تلك الذكريات على الورق!
ليس من الهين أن تعتصر الذاكرة لتسود ورقة ببضع كلمات لنعي قائد همام، وشيخ جليل مثل الشيخ حارث الضاري، رحمه الله تعالى.
مع اشتداد المرض، كنا نتوقع رحيل الشيخ حارث الضاري في كل لحظة، كنا نخاف من وصول خبر وفاته في كل ساعة، ورغم ذلك كان وجوده مريضاً أملاً وشمعة وخيمة، تدفعنا لمزيد من العمل والصمود.
وفي لحظة من لحظات هذا الزمن، المليء بالكثير من الآلام والأتراح، والقليل من المسرات والأفراح، جاء الخبر الأكيد.
مات شيخ الجهاد.
مات شيخ الصمود.
مات والدنا.
مات الشيخ حارث الضاري!
هزتنا الصدمة، زلزلتنا الواقعة، صرنا نسير، نروح ونأتي، نستقبل الجثمان، نرتب بيت العزاء، نستقبل المعزين، ونودعهم، وما زال الخبر يصدمنا، واستمر وقع الخبر حتى حين.
منذ أن رحل استاذنا الضاري عنا قبل أكثر من ثلاثة أشهر وأنا أحاول جاهداً أن أكتب رثاءً يليق به، إلا أنني في كل تلك المحاولات قد فشلت.
واليوم – وفي لحظة نقاء روحي - فاحت نسائم الذكريات؛ وحركت الروح والفكر، وهزت العقل والوجدان، لأجد نفسي باكياً وماسكاً بالقلم، ومحاولاً أن أذكر هذا الرمز ببضع كلمات لا يمكنها - مهما كانت - أن تفي بحقه.
جلست حائراً وكتبت:
أيها الرجل الرجل.
أيها الجبل الصامد.
أيها البركان الصامت.
أيها الصارخ بالحق، الذي لا يخشى في الله لومة لائم.
أيها النزيه النظيف.
أيها الأب العفيف.
أيها الشيخ الرحيم.
عاشرناك سنوات وسنوات فكنت أباً وأستاذاً ومعلماً وقائداً نفاخر الدنيا بالوقوف معك، والركوب بمركبك، الذي هو مركب العراق.
أيها الضاري الحارث:
في حياتك يا أستاذنا الكريم تعلمنا الوقوف أمامك بكل احترام وتقدير لشخصيتك النقية، الحكيمة، العفيفة، الصادقة.
اليوم حينما زرتك، ووقفت على قبرك في مقبرة سحاب الأردنية، وقفت - والسماء نقية فوقي- بذات الهيبة والإجلال لك.
حينما وقفت على قبرك قلت في ذاتي:
كيف تدفن الجبال في الأرض؟!
هل هذا هو الضاري الحارث، الذي دوخ حكومات الاحتلال، وزعماء الاحتلال؟!
حينما عدت من اسطنبول لعمان نعشاً محمولاً على الأكتاف في تلك الآلة الحدباء، التي لا مفر لابن انثى منها، قلت، وأنا أنظر إلى جثمانك في مطار ماركا الأردني الدولي:
ها هو الشيخ عاد شامخاً كما ذهب شامخاً!
ها هو البطل الصنديد يحمل على أكتاف الرجال!
ها هو صوت الحق يهدر وهو صامت، ولكنه رغم صمته وموته كان عملاقاً على أكتاف أحبابه!
أيها الصامد الكريم:
كنت شامخاً في حياتك ومماتك!
أيها الجبل الصبور:
أيها الخيمة العربية الأصيلة:
ما كنت تخشى الموت وشغلتك هموم العراق عن آلام مرضك، كنت توصينا بحب العراق.
كنت مفتاحا للخير مغلاقاً للشر.
كنت تقبل الرأي الآخر.
كنت شجاعاً في رجوعك للحق دائماً.
كنت رجلا كالجبال، وكنت في ذات الوقت تملك قلباً رقيقاً صافياً يبكي لاستغاثة امرأة، ودمعة طفل، وحسرة شيخ.
أستاذنا الضاري:
لا أكتب هذه الكلمات تملقاً فأنت ما عدت في هذه الدنيا الزائفة الزائلة، وإنما كتبتها استحقاقاً ووفاءً لك أيها الأب المعلم.
كان الضاري رجلاً يحمل هم أمة، وكان همه هم الوطن، العراق، وفلسطين، وتونس، وكل بقعة من بقاع الوطن العربي.
وأرى أنه يصدق علينا في حواراتنا الطويلة السابقة ( أنت وأنا)، يا استاذنا الفقيد قول الشاعر (عمار رجب تباب)، وهو يصف جراحات الأمة عبر محاورة بين أستاذ وطالبه، قائلاً،( وهذا لسان حالي):
مالي أرى عينيك يملأها الأسى
وتطوف تيهاً في المدائن نورسا
مالي أرى شفتيك ترتجفان من
خفقان قلبٍ لا يفارقه الأسى.
فرد عليه: ( وهذا لسان حالك يا شيخنا):
أوماترى ماحلّ في وطني وما
حيل الصباح به كئيباً كالمسا
أوماترى أشلاء أمّتيَ التي
قد صاغها التاريخ حِلّاً وأكتسى
أنظر إلى أعلامهم هذا هنا
وكذا هنا والكلّ بات منكّسا
أهم غثاءٌ ذاك قول نبينا
أم أنه ليل التخاذل عسعسا.
يا أستاذنا، ووالدنا الضاري:
ستبقى في ذاكرتنا وضمائرنا ما أشرقت شمس وغربت.
أيها الغائب الحاضر.
أيها الحارث الضاري.
خاص بموقع الهيئة نت