مشروع العراق الجامع… الحل المناسب لإنقاذ العراق والمنطقة
د. مثنى عبدالله
August 17, 2015
تحت هذه الراية وفي بداية الأسبوع الحالي، أعلنت هيئة علماء المسلمين في العراق عن مبادرة لجمع العراقيين المعارضين للمشروع السياسي القائم، للعمل وفق الهوية العراقية أولا، وقبل أي هوية فرعية أخرى، بغية التوصل إلى مشروع نهضوي يتصدى للحالة الراهنة في العراق والمنطقة.
ولأن الزهد السياسي والنزاهة الوطنية هي من سمات الهيئة، فقد تم التأكيد على أنها مبادرة وليست مشروعا، كي لا يفهم الآخرون بأنها وصية عليهم، أو أنها وحدها من تملك الرأي الوطني أو الحقيقة المطلقة، وهو فهم ذكي لحالة القوى العراقية المناهضة، التي لازال البعض منها يتحسس ويتوجس من طروحات الآخرين، على الرغم من أنهم يفترض أن يكونوا في خندق واحد. كان يمكن للهيئة أن تدعو الاخرين للتشاور، من دون إعلان في مؤتمر صحافي كما حصل مؤخرا، وهي قد فعلت ذلك مرارا في السابق، لكن المتنصلين كانوا كثرا، فآثرت هذه المرة أن تضع الجميع أمام مسؤولياتهم تجاه الشعب والوطن، بالاعلان عن مبادرتها على الملأ، وباتت الكرة في ملعب الاخرين، ولم يعد بعد اليوم عذر لاحد أن يدعي بأن ظروف العمل المشترك ليست مؤاتية، أو أن التغيير في العراق غير ممكن، أو لأن البعض مازال لديهم حلم بأن يدخلوا العملية السياسية وينشدوا التغيير من داخلها. هذه أحلام تعكزوا عليها لفترة طويلة من الزمن، وبعثوا رسائل بيد هذا وذاك كي تصل إلى أطراف العملية السياسية، لكن الوطن كان ينزف يوميا وهم في طابور الانتظار، بل أن الطرف الآخر كان يرى في رسائلهم المتوسلة للدخول في العملية السياسية، إنما تؤكد صواب منهجهم وهم على غير صواب، فازدادوا ظلما وسرقة وفسادا.
صحيح أن القضية العراقية مدوّلة منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، وأن قوى دولية وأقليمية باتت لها مصالح في البلد، وأن لها رأيا في كل ما يجري فيه، لكن كل هذه القوى باتت على دراية تامة بأن العراق بات مستنقعها الذي تخوض فيه، خاصة بعد التغيرات السياسية التي طرأت على المنطقة والعالم في الشهور القليلة المنصرمة، حتى أنها أدركت أن من مصلحتها بروز قوى عراقية جديدة تمثل وجهة النظر الأخرى، بعد الفشل السياسي الكارثي والفساد الذي أزكم الانوف، الذي جاءت به القوى المحسوبة عليها. ليست القوى الدولية قوى خيّرة تبحث عن قوى وطنية محلية تدير بلدانها، لكن الاستنزاف المادي والمعنوي الدائم لهذه القوى في بلدان أخرى، يجعلها في ورطة أخلاقية أمام شعوبها وورطة سياسية أمام العالم، لذلك تبحث عمن هو قادر على طرح مشروع آخر قد يؤدي إلى إيجاد حل لها للخروج من المستنقع. إن الكبرياء والغرور الدولي يتمرغ أحيانا في دول أخرى، لكن لا يُعلن عن نفسه كي لا تتدحرج غطرسته بين أقدام الشعوب، لكنه يظهر في النهج السياسي وفي التصريحات الاعلامية وفي ما خلف السطور، وكل متابع لما يطرحه الامريكان كحلول للوضع العراقي يجد أنها حلول يائسة من مصدر يائس، وقد رأت الهيئة في مبادرتها الأخيرة، أن الظرف الحالي دوليا واقليميا يعطي فرصة لإقامة جبهة وطنية عراقية عريضة، قوامها صهر للافكار المختلفة واحتضان للمبادرات الخلاقة، ونقاشات جدية من قبل نخب ومثقفين، كي تصل كل القوى الوطنية العراقية إلى قاسم مشترك أعظم، وخط شروع واحد، وميثاق قائم على أسس الوحدة الوطنية، وأستقلال القرار العراقي عن أي تبعية خارجية. كما أنها ترى بنظرة واقعية لا تقفز على الحقائق، أن بعض الاطياف والتنوعات في المجتمع العراقي قد تكون لديها مخاوف من التغيير، نتيجة النفخ الطائفي المستمر منذ 2003 وحتى اليوم، لذلك هي تؤكد على ضرورة أن يتضمن المشروع الجديد كل التطمينات اللازمة لجميع العراقيين، من خلال توسيع دائرة القوى المشاركة في التغيير، والالتزام بالنهج التعددي واستبعاد آليات الانتقام السياسي، وسيادة القانون وإقامة العدالة الاجتماعية.
إن المصداقية الوطنية التي تتمتع بها هيئة علماء المسلمين في العراق، من خلال الهوية الوطنية التي حملت رايتها منذ انطلاقتها، والتي بها ابتعدت عن كل التصنيفات الطائفية والعرقية والمذهبية والاثنية، وبها رفضت كل الحلول التقسيمية والفيدرالية، ومن خلال الموقف البطولي المقاوم لحظة الغزو والاحتلال وحتى اليوم، يجعلها راية عالية بين الرايات التي قاومت بشرف الغزاة وأذنابهم، ويجعل من كل نداءاتها المستمرة لتحقيق الوحدة الوطنية هاجسا قويا يجب أن يدفع الجميع إلى ضرورة الالتقاء، خاصة في الظرف الراهن الذي يمر به العراق، وما يشهده من تظاهرات عارمة أول مطالبها هو أسقاط الطائفية، والعودة إلى النهج الوطني الجامع، وهو مبدأ الهيئة ومنهاج عملها الذي لم يعرف يوما الانكسار والتراجع تحت أي ظرف من الظـــــروف، رغم الضــــغوطات الدولية والإقليمية والعربية، لأن رهانها كان على الشعب العراقي بكل عناوينه، وإيمـــانها أنه لن يستكين إلى الظلم والجور والإقصــــاء والحرمان والطائفية، في وقت راهن البعض على قوى دولية وإقليمية ومشاريع وهمية مشبوهة، وكانوا يقولون دوما بأن الحل أمريكي، لكنهم رأوا كيف أن الامريكان سلموا العراق إلى إيران، وباتوا هم من يقررون شأنه.
إن البرمجة الواقعية التي أتت بها المبادرة والتي تقوم على أربعة أسس للوصول إلى المشروع، هي الحصانة المطلوبة لأي عمل سياسي جدي. فاللقاءات التشاورية الموسعة، وندوات تقريب وجهات النظر، واجتماعات شرائح اجتماعية ونخب وعناوين، ثم الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي عام لوضع ميثاق وطني، هي واقعية سياسية مطلوبة كي لا يتخلى البعض عن المشروع في منتصف الطريق، لكن من المهم جدا الإشارة إلى أن على الهيئة ألا تتخلى عن ثوابتها، التي هي ثوابت الشعب العراقي، في سبيل أن يأتي الآخرون إلى طاولة الحوار الوطني الذي دعت اليه وفق مبادرتها، فالمرونة السياسية مطلوبة لكنها يجب أن تكون محسوبة بما لا يلحق الضرر بالمصداقية وبالاهداف العليا للشعب والوطن. وكما أن للاخرين مواقع وعناوين اتخذوها لانفسهم، فالهيئة أيضا رمز وعنوان وطني ولها رؤيتها الخاصة التي يجب الحفاظ عليها، بما لا تكون حجر عثرة في طريق التوصل إلى رؤية وطنية مشتركة. وبما أن العمل وفق المبادرة المطروحة هو عمل سياسي وليس دينيا، فيفترض بالهيئة أن تتخلى عن زهدها السياسي وأن تحاور الاخرين بمنطق السياسة، كي لا تفرض عليها رؤى سياسية ممن يعتقدون أن السياسة تبدأ وتنتهي بهم. أي أنها من حقها وضع بصمتها السياسية في المشروع المقبل، ليس من باب أنها هي من أطلقت المبادرة، لكن من باب أنها أحد الروافد الاساسية.
السؤال المهم المطروح هو، هل أن هذه المبادرة تصب في مجرى الحدث العراقي الحالي المتفجر بالمظاهرات؟ نقول إننا نرى أن المشهد السياسي في العراق مفتوح على كل الاحتمالات، وإن من المهم جدا أن تتفق القوى الوطنية على برنامج عمل وطني واقعي، كي يأخذ دوره في أي عملية تغيير محتملة، ليس بمعنى الالتحاق بعد التغيير، لكن بالفعل المؤدي إلى التغيير وما بعده.
باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله