هل يُسقط العراقيون باستيل بَغداد ؟
د. سيّار الجَميل
اعاد العراقيون المنتفضون شعاراتهم المختلفة ضدّ الفساد والفاسدين في تظاهراتهم الواسعة الجمعة 21 آب / اغسطس الجاري ، وقد مثّلوا حراكاً سياسياً اقوى ممّا جرى الى حدّ الان ، متمنيّا عليهم الانتقال الى مرحلة نضاليّة اخرى ،
وقد خشي بعضٌ من اختراق قوى ميليشاوية او طائفيّة او عصابات فاسدة هذه التظاهرات ، لكي يقطفوا ثمارها او سرقتها ، وتجييرها لمصالح ايران وبيادقها في العراق . هنا ، ينبغي عدم اقتناع القوى المدنيّة والوطنيّة بكلّ ما يحاك ضدّ الحراك المعارض في الميادين والشوارع ، وان لا تخدع بإصلاحات شكليّة ، ان لم ترافقها اجراءات قويّة مباشرة وخطوات تنفيذيّة رادعة . ونجد رئيس الحكومة ، حيدر العبادي ، غير قادر على سلوك ايّ درب ثوري قوي وصاعق ، لعدم قدرته على فكّ ارتباطه بدائرة حزب الدعوة ، كي يجتاز الطريق الصعب ، علما بأنّه القائد العام للقوّات المسلحة ، ولا قادرا على التغيير ، فالنظام الحالي اوصله الى بعض المناصب منذ 2003 ! ولكن ، ستهدّد الثورة مصيره ، ان بقيَ جزءً من هذا " النظام " الذي ضاق به العراقيون ذرعاً . لقد سئم الشعب العراقي هذا النظام الحاكم ، فهل سيبقى العبادي معه ، ام يلبّي مطالب شعبه ؟
يطالبه كلّ المتظاهرين الصادقين الثائرين باتّخاذ اجراءات حاسمة ، لا تقتصر على اخراج نوّاب الرئيسين من مناصبهم ، وكأنه يريد مشاغلة الشعب عن المطالب الحقيقيّة لهم . عليه ان يبدأ بنفسه ان كان ثائرا حقيقياً ضدّ هذا "النظام" الفاسد الذي سحقَ العراق والعراقيين ، فيؤسّس هيئة مدنيّة وعسكريّة من رجال شرفاء ، ويعلن خروجه عن حزب الدعوة ، وينهي تحالفات الاحزاب ، ويعلن الاحكام العرفيّة ، والقبض على كلّ المتهّمين الكبار بالجرائم التي ارتكبت في السنوات العشر الماضيّة ، لمحاسبتهم ومنعهم من الهروب وفي مقدّمتهم نوري المالكي الذي لم يزل له نفوذ ايران في العراق ، فهو المنفّذ الاساسيّ لسياساتها في العراق . وستجعل العبادي خطواته الاولى في قلب الحدث ، وسيرى العراقيون فيه منقذا من اجل خطوات اخرى . وهنا ، اتمنى عليه ان لا يقف حائلا بين الشعب وجلاديه ، ويعلن اصطفافه مع الثوار او بقاءه مع النظام .
التفت الى العراقيين الذين كان لصمتهم على مدى سنوات ، تأثيره في ان يلعب التعساء الذين حكموا العراق لعبتهم ، فاجرموا وافسدوا ونهبوا العراق ، وتآمروا وباعوا واشتروا بالعراقيين ، ومزقوا نسيج المجتمع وحطموه ، بل كانوا وراء اسقاط مدن كاملة ، واجزاء واسعة من العراق بيد الارهابيين والقوى الاوليغارية القادمة من وراء الحدود ، التركية او العربية او الايرانية !
فهل ينتظر العراقيون سنوات طوالا اخرى في ظلّ هذا الوضع المزري ؟
المطالب لدى اكثر الناس ،حتّى الان ، اصلاحيّة وخدميّة ، تنطلق بعفويّة بالغة في اغلب المناطق ، مع ملاحظتنا ان الشعارات منظمّة وسلميّة ، لم تدخل التظاهرات ، بالرغم من وجود قيادات شابة ومدنيّة ، مرحلة الثورة التي هي بأمسّ الحاجة الى القيادة والتخطيط ، فهل تتبلور الجهود عن خطّة سياسيّة وثوريّة لرسم طريق الثورة ؟ اذ لا يمكن التكهّن بمدى الانفجار ان حدث ، وسيقف كلّ العالم مندهشا ازاءه . وعليه ، ينبغي ان تتشكّل ارادة وطنيّة عراقيّة ، يحمل رايتها جلّ العراقيين بكلّ انواعهم ، فحواها التغيير . والتغيير لا يعني ازالة بعض الوجوه عن المناصب ، بل يعني ازالة كيانات سياسيّة فاسدة عن الوجود واستئصال بنية الخراب وعناصر الانقسام، بعد ان نخرت طويلا في المجتمع السياسي العراقي ، يستوجب التغيير الحقيقي ان تعبر عنه ارادة وطنيّة وثوريّة ، تستهدف اساسا هذه العمليّة السياسيّة التي اودت بالعراق الى الجحيم ، ومزّقت العراقيين وسحقتهم وهجّرّتهم من بيوتهم وسرقت مواردهم واماتت احلامهم ..
يستوجب التغيير الاساسي ان يقوده رجل تغيير ، او رجال بناة بديلا اصلح او بدائل صلحاء للحياة العراقيّة الجديدة ، شريطة ان ينتفي عن المسرح السياسي كلّ الذين عبثوا بمقدّرات العراق السياسيّة ، ونهبوا ثرواته الاقتصاديّة ، ومزّقوا نسيج مجتمعه وابادوا ثقافته . انّ العبادي حتّى هذه اللحظة ، غير قادر على ان يكون منقذا للعراق ، وقد وصلت اليه مناشدات لا تعدّ ولا تحصى ، من عراقيين وعراقيات ، طالبوه فيها أن ينفصل عن حزبه ، وان يجّمد كلّ الاحزاب والتيارات التي تتحكّم بالعراق دولة ومجتمعا ، وان يجرّد حزبه وحلفاء حزبه من ايّة ضمانات ، ويحاكم كلّ قادته وقادة الاحزاب التي اساءت للعراق اساءات تاريخيّة لا تغتفر ! عليه ان يستمع الى جماهير شعبه ، وينفّذ ارادة العراقيين باتّخاذ اجراءات صارمة ضدّ كلّ من ورد اسمه متهّما في سقوط الموصل . عليه القيام بصناعة قرارات حاسمة في انهاء العمل بكلّ من العمليّة السياسيّة ، وهذا الدستور الكسيح . عليه ان يتقدّم الى العراقيين بخطّة عمل ومنهج سياسي جديد ، وضمن طاقم وطني جديد ، يتألّف من تكنوقراطيين مهرة ، وضبّاط شرفاء ، لا يمتّون بصلة ابدا الى الاحزاب الحاكمة ، وان يكونوا عراقيين حقيقيين ، مهما كان دينهم او طيفهم او لونهم ، لكي يرسم مع ابناء شعبه خارطة طريق جديدة للعراق ، بلا وزارة تافهة قائمة على المحاصصات السقيمة ، وبلا مجلس نواب ، يمثل مصالح حزبية وفئوية ، وهو برلمان فاسد ، من رأسه الى كعب رجليه ، وبلا مليشيات مرتزقة ، تفعل ما تريد من دون اية سلطة حكومية ، وتستلم اوامرها من الخارج .
على المتظاهرين العراقيين ان يتحوّلوا من منتفضين الى ثوّار حقيقيين ، بتطويرهم آليات العمل والانتقال من طور الانتفاضة الى طور الثورة ، فلا علاج للقضية العراقية ان لم يثر الشعب كله ثورة جامحة وقوية ، يطاح فيها بكل رموز الفساد والقتل والاضطهاد . وعلى العراقيين ان يسقطوا باستيل بغداد الذي تمثله المنطقة الخضراء التي يعتبرها العراقيون اليوم مركز الظلم والقهر والفساد .. لكي يبدأ العراق مسيرته الوطنية . ان كلّ ما حدث في العراق من مآس وفوضى وفساد وطائفيّة مبعثه هذه "العملية السياسية " التي لم يتجرّأ احد منذ سنوات طوال ، على التعرّض لها ، وكأنها كانت منزلة من السماء ، وجاء ضمن سياقها دستور بليد قاد العراقيين الى اسوأ الاحوال . واليوم ، اجد هؤلاء الذين جاءت بهم الاقدار لحكم العراق ، وبعض مناصريهم ، ينتقدون الدستور ويتعرضون للعملية السياسية بالنقد ، وكأنهم لم يكونوا مسؤولين عنها ، وعن كلّ تداعياتها الصعبة، وقد قال رئيس الوزراء حيدر العبادي بأن الاصلاح سيطاول ذلك ؟
اكثر من عشر سنوات ، وهم ماضون في غيهم ، بل ويلاحظ اي مراقب اليوم ان الذين كانوا يصفقون لنوري المالكي ، ويصفون حكمه بأعظم الصفات ، انقلبوا الان عليه في اصطفافات جديدة ، وبدأوا بانتقاد سياساته وممارساته المخزية ، من اجل تأمين مصالحهم مستقبلا .
علينا ان نقول بأن اهل العراق ليسوا كلهم اهل شقاق ونفاق . على العراقيين الوطنيين الوقوف ضد خصومهم الالداء من اهل الشقاق والنفاق والفساد الذين حكموا العراق ، مذ نصبهم الاحتلال الامريكي طبقة سياسية حاكمة منذ عام 2003 . وعلى ثوار العراق ان يفرزوا اولئك الذين يريدون ان يجدوا اليوم مكانا جديدا ، وهم معروفون على امتداد العهود السابقة ، اذ كما مالت يميلون ، وفي كل عهد يهزجون ويرقصون ، بل ويغيرون جلودهم في الوقت المناسب . والمتمنى من الشرفاء رصد هؤلاء وتعريتهم ، وكشف زيفهم ، ومنعهم لبس اقنعة جديدة ، ومن استغلال الانتفاضة ، او الثورة لتغييرها او حرفها عن مبادئها الاساسية ، فهل ستتطور الانتفاضة الى حالة ثورية ، ام سيقمعها النظام الحاكم ؟ هذا ما ستكشفه الايام المقبلة .