ابادة جماعيّة في الموصل ولواحقها
ت
أ.د. سيّار الجميل
وصلت إليّ رسائل من أهالي الموصل في العراق، من أبناء المدينة ومن ضواحيها ولواحقها الإدارية ومن أهلها الذين نزحوا إلى اقليم كردستان ، تناشدني أن أجهر بالقول عن معاناتهم وآلامهم التي تعبّر عن محنتهم التاريخيّة التي لا يمكن أن توصف، يطالبون بأن يسمع هذا العالم بالمأساة التي حلّت بهم منذ أكثر من عام، من دون أن يقف أحد معهم، وهم يمرّون بأبشع الأيام وأقسى الظروف. أبناء مدينة عربيّة عريقة متنوعة السكان ، يستغيثون من أجل معاونتهم والحصول على حقوقهم الوطنية التي حرموا منها، بعد أن عاشوا محنة تعامل الجيش العراقي معهم على مدى سنوات عجاف، ذلك الجيش الذي هرب من الموصل، وسلّم المدينة وتوابعها إلى داعش.
كتب صاحب واحدة من تلك الرسائل: "هناك مناشدة من أهلكم داخل مدينة الموصل ﻷهلهم خارج العراق الذين باستطاعتهم إيصال صوتهم إلى أعلى المستويات. أرجو التنويه، أينما أمكن، إلى قرار الحكومة المجحف بحق أهل الموصل بقطع رواتب الموظفين والمتقاعدين التي هي مصدر رزقهم الوحيد في ظلّ هذه الظروف التي ﻻ ناقة لهم فيها وﻻ جمل. وخاصة أن تقرير سقوط الموصل لم يحمّل أهل الموصل أي مسؤوليّة عما حدث، وإن قراراً كهذا يدخل من باب الإبادة الجماعية... تقبلوا تحيات أهل الموصل مع الشكر الجزيل..".
أي محنة تاريخيّة هذه التي تمّر على الموصل وأهلها؟ لماذا تقف الحكومة المركزية في بغداد منهم هذا الموقف؟ الموصل ثاني أكبر مدينة عراقيّة، وهي مركز محافظة يبلغ عدد سكانها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، لا يمكن أن يعيش أهلها هذا المصير الصعب، فهم كانوا ضحيّة صراعات متنوعة ومؤامرات خبيثة، منذ أكثر من عشر سنوات بين قوى سياسيّة متعدّدة، منها الذي كان مع الاحتلال ومنها ضدّ الاحتلال، منها إقليميّة وأخرى محليّة ضدّهم، منها مع قوى إرهابية متشدّدة جداً، عشّشت في أطرافها سنوات، وتحوّلت من القاعدة إلى داعش، وبين قوى عسكرية من الغرباء عنها أرسلتها الحكومة منذ سنوات طوال، عاملت الناس أسوأ معاملة. واليوم، وبعد أن احتلّها الدواعش، يعيش الناس كلّهم بين مهاجرين ونازحين وفارّين وبين راضخين تحت سكّين الرعب، وهم، في هذه الحالة، تقطع الحكومة المركزية في بغداد أرزاقهم، وهم يرتبطون بها رسمياً. تكاد الحياة تكون متوّقفة وميتّة تماماً، والناس لا تدرك توالي مثل هذه النكبات.
نعم، إنها تصفيّة حسابات طائفيّة مقيتة، وبهذه الطريقة المتوحّشة، أو تعبير عن احقاد تاريخية موغلة في القدم، خصوصاً أن أهل الموصل كانوا من ألدّ أعداء إيران التي لا تنسى أبدا هزيمتها النكراء أمام أسوار الموصل، بعد أن قام نادرشاه بحصارها الشديد وحربه ضدّها عام 1156هـ/ 1743. وأخشى أن تكون ..... على الطريقة العراقية المألوفة، والتي يبدو أن بعضهم نسي أدوار الموصل في بناء تاريخ العراق الحديث، دولةً ومجتمعاً، من خلال أبنائها الذين خدموا العراق ومؤسساته المدنيّة والعسكرية كلها. ولا أعتقد أن عاقلاً في هذا الوجود يرضى بما هو سائد منذ سنوات طوال، من دون أن يعلن ثورته ضدّ كلّ ما جرى ويجري على أيدي الطبقة الحاكمة التي لم تبق موبقات إلا ومارستها.
الموصل أمانة في أعناق العراقيين جميعا، وأهلها لا يستحقّون هذا المصير الذي أودت بهم سياسات نوري المالكي، وساوم على الموصل، من أجل أن يبقى في منصبه. فكيف بحيدر العبادي الذي لا يأبه لمصير أكثر من ثلاثة ملايين من أبناء العراق، وهم لا يعرفون مصيرهم، إلى اليوم، ولا مصير أولادهم وضياع تعليمهم والحياة التعيسة التي يعيشونها. وفوق هذا وذاك، تنقطع الأرزاق عنهم ليموتوا موتا بطيئاً. وكنت أتمنى على المتظاهرين العراقيين الذين يعلنون عن معارضتهم السلمية ضد الفساد أسبوعياً أن يعلنوا موقفهم من مأساة الموصل وأهلها.
يعتبر البقاء تحت مظلة الانتظار بحجة الإصلاحات مشاركة في الجريمة. كانت الثورة وستبقى المعبر الحقيقي للشعوب المقهورة من مستبدين أو فاسدين أو طغاة، واضطهاد الشعوب، بهذه الطرق البائسة، لا يمكن تمريره تحت أية حجج أو تبريرات. المشكلة الحقيقية اليوم في سياسات حكومة العراق ليس في الفاسدين، وكل طواقم وقيادات الأحزاب البدائية أنفسهم فقط، بل في الموتورين الذين يجلسون في الصفوف الخلفية، أو الذين أغرقتهم الطائفية حتى آذانهم، وفقدوا غيرتهم ونسوا القيم الوطنية وحقوق الآخرين وقد ماتت اخلاقهم وقيمهم . إنهم لا يريدون أي صوت حر شجاع من أجل تأسيس حياة وطنية مدنية، تتحقق فيها العدالة ، وتستعاد فيها القيم والأخلاق التي فقدها ممثلو الأحزاب الدينيّة والطائفيّة.
أسأل: أين نواب الموصل ودورهم؟ وأين الذين احتلوا مقاعد ومناصب وظيفية ودبلوماسية من أهل الموصل في الدولة الحالية؟ من يسكت من العراقيين على ضياع أكثر من 800 مليار دولار لا يعرف في أي جيوب ذهبت، فإنه مشارك في الجريمة والخراب، وأعتقد أن العبادي لم يزل عضواً قيادياً في حزب الدعوة الحاكم، وكان دوره مع حلفائه كارثة على العراق.
ما فعلوه بالعراق لم يفعله لا الغزاة ولا الطغاة ولا كل الجناة، فهل بيد رئيس الحكومة الحالية القدرة على أن يبدأ خطوات التغيير الحقيقية، وخصوصا بالالتفات إلى أبناء شعبه، ويعيد لهم صرف مستحقاتهم، وهذا جزء من مستحقات الشعب، ولا منّة لأحد عليه في رزقه الذي يعد من حقوقه، فالشعب غير مسؤول عما فعله الجناة من المسؤولين عليه.
خطيئة حيدر العبادي الأخرى سكوته عن مسؤولين سابقين، أمثال المالكي و(نائب رئيس الوزراء) بهاء الأعرجي و(نائب رئيس الجمهورية السابق) خضير الخزاعي، وكل الجوقة من النهابين والقادة العسكريين الذين كانوا سبباً في احتلال داعش الموصل وتكريت والأنبار. أغلب العراقيين اليوم، حتى ممن كانوا يتعبّدون في محراب المالكي، قبل عام، أخذوا يمقتون النظام الحاكم كله. ولا أتخيل ليبرالياً أو تقدمياً يحمل فكراً تنويريّاً ومدنيّاً يشهد كلّ المأساة على تراب وطنه، ويبقى يدور في الدائرة نفسها. وأعتقد أن عاملين أساسيين يحددّان بقاء بعضهم مواليا لهذا النظام. أولهما، الوازع الطائفي، إذ يعتبرون وصولهم إلى حكم العراق مكسباً إلهياً، لا يمكنهم التخلّي عنه بسهولة. وثانيهما، الخوف الذي تربوا عليه من قدوم دكتاتور، والفوبيا التي يحملها هؤلاء تجعلهم يتخيّلون أنّ النظام الحالي هدّية من الرب. لكن ذلك كلّه لا يمنعهم قطع أرزاق العراقيين بمثل هذه الطريقة المأساوية، وهم يدركون الظروف التي يعيشها الناس في الموصل ولواحقها الإدارية خصوصاً.
معضلة العراقيين اليوم في داعش ، وما تفعله في الناس ! ولكن، من سمح لها أن تتوغل في عمق العراق؟ لم ولن تصبح واقعاً منتهياً، فهي نسخة متوحشة لم يقبلها الناس، وهي تتحرك بقوة وعنف في سيطرتها على مساحات شاسعة من العراق، نقلا عن البنتاغون. بقاء النظام الحاكم يدور في الدائرة المفرغة نفسها سوف يعرّض العراق كله للكوارث والنكبات، كما حدث ذلك في تجارب عديدة في العالم. المهم أن يسعى العراقيون إلى التغيير الحقيقي، فالعراق بات مسحوقاً وممزقاً. وعلى كل من يعارض هذا التشخيص أن يثبت العكس، فهل للعراق قوته السياسية وتماسكه الاجتماعي وتطوره الاقتصادي؟ نعم، العراق مقدم على إفلاس حقيقي لا مناص منه، باعتماد كل العراقيين على الدولة في رزقهم ورواتبهم وغذائهم وأدويتهم وتعليمهم وكل خدماتهم، فكيف باستطاعة العبادي أن يعتمد على مصادر دخل أخرى غير النفط، والعراق صفر على الشمال في مصادره الأخرى؟
أوصل المسؤولون العراقيون البلاد إلى الهاوية، ولا اعرف كيف سيتصرّف الشعب معهم ، وقد غدت الموارد 23 ملياراً فقط بعد أن كانت بين 120- 140 ملياراً من الدولارات سنوياً. تكمن المأساة في أنّ الكلّ يعتمد على الدولة: موظفون وجنود ودبلوماسيون ووهميون ومتقاعدون وعاطلون مقنعّون وحراس وحمايات بالملايين، من أين يطعمهم ويداويهم وينقلهم ويسلّحهم. ملايين من المشرّدين والأرامل والنازحين واللاجئين، ما مصيرهم؟ لا مزارعون ولا عمّال ولا فنيّون، حالة لم يشهدها العراق على مدى التاريخ. فما الذي يمكن فعله في مثل هذه الحالة المزرية ؟