حضارة … لا حضارة
عبد الواحد لؤلؤة
November 28, 2015
متى نتعلم من أهل الحضارة، الذين يحكمون على الشخص بما قدم من أدب وعلم، ونهمل انتماءه الديني أو الفكري ـ السياسي، ونكف عن التنابز بالالقاب؟ أم أننا نريد أن نقدم البرهان على رأي الكبير نزار، يوم قال: لقد لبسنا قشرة الحضارة/والروح جاهلية؟ لم يُهمل أسلافنا شعر امرئ القيس، لأنه قال: اليوم خمرٌ، وغداً أمرً. ولم يلعنوه لأنه قطع الصحارى ليطلب العون من قيصر، فكان بذلك أول ملك عربي يفكر بالاستعانة بالأجنبي. ومن حَسن حظ التاريخ العربي أنه لم يبلغ القيصر، وقيل أدركته المنية دون قصر الأجنبي. كما أن تراثنا العربي لم يستمطر اللعنات على أبي نواس، وينسى شعره، لأنه لم يفارق زجاجة الخمر، حتى عندما خبأها وراء ظهره عندما فاجأه الرشيد أن يريه ما خبأ وراء ظهره، فقال: أخشى أن تنكسر الزجاجة، يا أمير المؤمنين. وبقينا عبر العصور نعجب بشعر امرئ القيس وأبي نواس.
وفي الغرب، في العصر الحديث، عينت جامعة أكسفورد الشاعر البريطاني المولد (و. هـ. أودن) في أعلى منصب تكريمي ـ تشريفي، هو «أستاذ الشعر» تقديراً لما قدم من شعر وأدب. لكن أودن كان ذا سمعة شخصية مخزية، فقد «عاش» مع الشاعر ـ المسرحي كريستوفر إشروود في دار واحدة، وفي علاقة مثلية. يوم عُيّن و. هـ. أودن، في ذلك المنصب الرفيع (1956 ـ 61) كانت المثلية شراً مستطيرا، ما زال يعاني من تهمة اوسكار وايلد الذي توفي عام 1955. لكن محاضرات أودن في الشعر استقطبت طلبة أكسفورد وهم خيرة شباب البلاد من الأذكياء. فكيف ارتفعت الموهبة والإبداع على سلوك الشخص؟
وفي أمريكا، كانت سمعة الشاعر إزرا باوند ـ وهو لم يكن يهودياً كما قد يوحي اسمه ـ تطغى على سلوكه السياسي. فقد هاجم الرأسمالية الأمريكية، وهو ابن الثقافة الأمريكية، فهجر موطنه واستقر في بريطانيا، ولم يلبث أن رفضها وجاء إلى ايطاليا ليكون في خدمة «الدوتشي موسوليني» في ذروة الحرب العالمية الثانية، يوم كان العالم كله، وبخاصة بلادنا العربية، تحت تأثير الدعاوة الأمريكية في ما تحب وتكره. لكن باوند، كان موضع احترام وتقدير في الأوساط الثقافية والأدبية. فهو الذي أطلق مذهب، الصُورية (إيماجيزم) في الشعر، وكان أكبر شعراء القرن العشرين ت.س.إليوت يدعوه باسم «الصانع الأمهر» وهي عبارة «دانته» في وصف «فرجيل» اللاتيني الأكبر.
٭ ٭ ٭
في الثامن من الشهر الحالي (تشرين الثاني/نوفمبر) توفي في باريس (آخر الفحول) في الشعر العراقي ـ العربي المعاصر. كان لسنوات يُعالج قلبَه، وقلبُه يعالجه، لكنه إلى أخريات أيامه كان يمرح ويتحدى العلل، لكن للقدر منطقا آخر. عرفتُ عبد الرزاق عبد الواحد (وكان يدعوني: أبي، ويسجلها في جميع ما أهداني من مجاميعه الشعرية) عام 1948 يوم ألتحقتُ بقسم اللغات الأجنبية بدار المعلمين العالية، الكلية الوحيدة في العراق التي تدرّس الآداب. جاء عبد الرزاق إلى قسم اللغة العربية، الذي كان قد فُصل منه قبل سنة، عائداً مع عدد من المفصولين لأنهم ساروا في مظاهرات 1947 ـ 48 احتجاجاَ على قرار تقسيم فلسطين. كانت التُهم جاهزة، منوعة، لأن هؤلاء «ضد الحكومة» كانت «العالية» معينا لا ينضب من الشعراء: هنا تخرّج سليمان العيسى، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، وأنا ادركتُ عبدالوهاب البياتي، شاذل طاقة، عاتكة وهبي الخزرجي، لميعة عباس عمارة، وآخرين أقل شهرة، وجاء لاحقاٌ يوسف الصائغ.
كانت «العالية» مركزا ثقافيا، على مستوى بغداد العاصمة. الساعة العاشرة من يوم الخميس كانت مخصصة لاجتماع عام في «القاعة» تُقدم فيها محاضرات عامة يحضرها طلبة الأقسام العلمية الخمسة. وكان الشعر سيد المواقف جميعاً في تلك الساعة العاشرة. هنا كان عبد الرزاق يلقي قصائده التي كانت تفوز دائماً بالجائزة الاولى: عام 1950 أو 1951. محبتي للشعر وثقت علاقتي بعبد الرزاق. وبقيت على تواصل معه، أتابع إنتاجه الشعري، وقد كتبتُ عنه كثيراً، وفي عام 2008 قررت وزارة الثقافة السورية إقامة مهرجان لتكريم مشاهير الثقافة العرب، وبدأوا بعبد الرزاق، وطلبوا مني أن أكون أول المتحدثين عن شعره. وكانت ورقتي تتناول عبد الرزاق «شاعراً لجميع الفصول» قياساً على وصف سر توماس مور. استعرضتُ لجميع الفصول» قياسا على وصف وسر توماس مور، استعرضتُ إبداعات الشاعر كما عرفته على مدى 67 سنة (1948 ـ 2015). علاوة على الاتصال بالإيميل. كانت الأحاديث على الهاتف جميلة، سواء كان في دمشق أو عمان أو باريس، حيث كلّمته آخر مرة في الشهر الماضي وكان ضاحكاً ساخراً كعادته.
منذ الإعلان عن وفاة عبد الرزاق «تجرد عدد من الكرام الكاتبين، للنهش من سمعته «في خدمة الطاغية» مفصّلين أنواع الخدمة، بعبارات لا تنم إلا عن الحسد والغيرة، وبخاصة من بعض، الشعراء والأدباء. قال لي أحد اولئك الشعراء قبل سنوات إن عبد الرزاق محتار أين، «يركن» السيارات الكثيرة التي أهداها إليه الطاغية، فقرر، أن يركنها على سطح الدار، أي نقد أدبي هذا؟ أكاد أقسم باللات والعزّى أن أغلب «النهّاشين، لم يقرأ شيئا من شعر عبد الرزاق، لكنه أصدر أحكاماً، مثله مثل الغراب ينعق بما لا يسمع.
أنا لا أدافع عن «أي طاغية»، ولا أمدح «أي حاكم عادل» لأني لستُ من أهل السياسة، ولم أنتمِ في حياتي إلى أي حزب سياسي أو جماعة من أي نوع، بما في ذلك اتحاد الأدباء، أو رابطة المترجمين، ولا حتى… جمعية هواة الطوابع! أنا مؤمن بأن الانتماء الديني أو السياسي مسألة شخصية لا يجوز لأحد أن يتدخل فيها. على الرغم من معرفتي الحميمة بعبد الرزاق طوال السنين لم أكن أعرف أنه ينتمي إلى الطائفة الصابئية، ولم أسأله يوماً، لأني كنت أعرفه شاعراً من الطراز الأول، في عراق يموج بالشعراء، و»العالية» هي النبع والمورد. في العام 1984 كنت مدعواً مع شعراء وأدباء عراقيين إلى مؤتمر في الرياض عن الشعر العربي في الخليج، وبقينا ننتظر وصول عبد الرزاق من القاهرة من مهرجان، «شوقي وحافظ» بعد ساعات جاء من المطار ضاحكاً ساخراً. ماذا حدث؟ سألوني عن ديانتي، فقلتُ: صابئي. كادوا أن يعيدوني إلى القاهرة. لكن، أضاف، لو كان القادم أجنبياً، من أي ملة، لرحبوا به، ولو كان كسنجر!
في الرياض قرأ عبد الرزاق مقاطع من قصيدته عن شوقي وحافظ. قصيدة تصور الشعور الوطني، العربي، الشامل، بقافية المثنى صعبة المراس:
خذا بيدي، أم أنتما عجلان فإني أخوهم ، كما ترياني
ثم: ولا تكثر سؤلي، ولكن تلطفا وفكا ضماد الجُرح، ثم سلاني
وكانت الحرب مع إيران في ذروتها، فلما وصل إلى:
تركتُ ذرى بغداد، شطباً نخيلها مهيباً محياها على الحدَثانِ
ضجت القاعة الكبرى بالهتاف والتكبير. لم يكن في القصيدة مديح، للطاغية، بل كل عواطفها عربية عراقية. ومثل هذا كثير في دواوين عبد الرزاق.
لو قرأ الكرام الكاتبون، أصحاب ميول «الأنواء الجوية» المتقلبة مع التقلبات المناخية.
الاخلاص للعراق العربي، والحنين إلى بغداد تجده في قصائد مثل «ياصبر أيوب» و»دمعٌ لبغداد»، ففي هاتين القصيدتين وأمثالهما ما يلجم كل ادعاء أن الشاعر كان منحازاً إلى دين أو مذهب سياسي أو دولة أجنبية. والتفسير الذي أسوقه هنا للإعجاب بالرئيس «الطاغية» ومديحه في قصائد عديدة، جلبت على الشاعر نقمة ممن لا يستطيعون النظر إلى الإبداع مجرداً عما يحيط به… هو تفسير يضارع التجديف الأدبي. الواقع أن الشاعر كان يُماهي بين الرئيس وبين البطل المنقذ، وقد بقي على هذا الإيمان ولم يتنكر له بعد غياب النظام… هل أقول: كما فعل مئات الألوف؟ هذه ظاهرة مسموع بها في حالات أخرى. أليست الفكرة الشائعة عن «هتلر» التي صنعتها الدعاوة الأمريكية ـ هي التي لا تناقش؟ كانت لي هواية غريبة: في ثمانينات القرن الماضي. كان من السهل علينا السفر إلى أوروبا في العُطل الصيفية وبخاصة إلى ألمانيا. وكنتُ أتصيد الفرص للالتقاء برجال ونساء ألمان، متقدمين بالعمر، شاركوا في الحرب العالمية الثانية وأسألهم عن رأيهم بالفوهرر. كنت مذهولاً بعبارات الإعجاب والمديح بمن سعى لتخليص ألمانيا والعالم من الاستعمار الأمريكي: «هل تظن أن ملايين الملايين من الألمان كانوا أغبياء؟ نحن أهل الفلسفة والفنون والصناعة»! مثل هذا حدث في سؤالي أساتذة روس في الجامعة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. كانوا يتحدثون عن فضائل ستالين ونظامه وأنا محتار من أصدق! الإنسان حر في ما يعتقد طالما كان لا يفرض على الآخرين معتقده في الدين أو السياسة، ولا يستغلهما لمصالح شخصية. أنا اعرف أن عبد الرزاق لم يكن حزبيا ولا بعثياً. ولو صح ما يدعيه بعضهم أنه كان مدلل الرئيس الذي لا يرد له طلباً، إذن لاستطاع ان «يتوسط» لعدد من المحتاجين للمساعدة. لكن ذلك لم يكن من صفات الشاعر الفقيد.
شعور عبد الرزاق العروبي تجده في انحيازه التام إلى قضية فلسطين في عدد من قصائده: «عام الفيل» في تكريم انتفاضة الحجارة، في «الغضب الحنظل» في اللوعة بسبب «الأوامر» بالانسحاب من الجولان، استغرب لماذا لم يمجد الكرام الكاتبين «شيعية» الشاعر في دراما «الحر الرياحي» قال بعضهم عن قصيدة «لا تطرق الباب تدري أنهم رحلوا»، وهي عن رحيل أولاده إلى بلاد الغربة… لكن اللوذعي قال إنه يقصد إن البعثيين قد رحلوا. لماذا لم يقرأ ذلك «الفهمان» القصيدة؟
هذا آخر ما كتبه الفقيد قبل انطفاء الروح في مستشفى باريس، بعنوان:
ياعراق
خوفاً على قلبكَ المطعون من ألمي سأطبق الآن أوراقي على قلمي
نشرتُ فيك حياتي كلها علماً الآن هبني يداً اطوي بها علمي
ياما حلمتُ بموتٍ فيك يحملني به ضجيجٌ من الأضواء والظلمِ
أهلي وصحبي وأشعاري منثرةٌ على الجنازة أصواتاً بلا كلم
إلا عراق تناديني.. وها أنذا أصحو بأنأى بقاع الأرض من حلمي
فأبصر الناس، لا أهلي ولا لغتي وأبصرُ الروح فيها ثلمُ منثلم
أموت فيكم ولو مقطوعة رئتي يالائمي في العراقيين لا تلمِ
عبد الواحد لؤلؤة