نحو رسم خريطة العراق الجديدة
هيفاء زنكنة
January 18, 2016
في رسالة مصورة موجهة إلى العالم، نسمع شابا عراقيا من سكان محافظة ديالى، شمال شرقي بغداد، يترحم على استشهاد شقيقه ثم يوجه بقلب لم يعد يتسع للمزيد من الموت، نداء لانقاذ ديالى التي تتعرض للذبح «فالجثث بالشوارع. وسيارات الميليشيات تجول الشوارع وتنادي عبر مكبرات الصوت، تطالب السكان من السنة بالخروج، تأمرهم بالرحيل والا قتلوا». ثم يتحدث بغضب عن الساسة المشاركين بالعملية السياسية على اساس تمثيل السنة، قائلا: «أطلع. استقيل. وصلت الدماء حد الركبة».
حين استقتل عدد من الأحزاب العراقية، منذ بداية التسعينات، على استقطاب الدعم الانكلو أمريكي لما أطلقوا عليه تسمية «تحرير» العراق، كانت وعودهم لعموم الشعب ذهبية، لامثيل لها، تراوح ما بين الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.
وعدوا المرأة بسلة مملوءة بحقوق المرأة والمشاركة السياسية، بعد ان قدموها للعالم كضحية تعاني من الحيف والجهل.
وكانت الوعود، لمن تغذوا على « مظلوميتهم» وحين فوجئوا بأنهم، اولا وأخيرا، عراقيون، وطنيون، لا يرضون التفريط بوحدة وطنهم، تنص على ان وجود القوات الاجنبية خط أحمر لن يتجاوز الستة شهور، بعدها سيكون العراقيون النموذج المضيء، ديمقراطيا، في الشرق الاوسط.
مضت الستة أشهر التي عرف بها التيار الصدري والحكيم، ومضى معها مايقارب 13 عاما. ومن كان طفلا في 2003، عام الغزو، صار شابا أجبر على النزوح والهجرة (ان لم يعتقل ويقتل)، وهو ينتظر انقضاء الفترة الموعودة، كما انتظر «فلاديمير» و»استراغون»، في مسرحية « بانتظار غودو « للكاتب الايرلندي صموئيل بيكيت. في أعوام الانتظار، صار المواطن كرة قدم، ترميها وتتبادلها وتدحرجها، اقدام 22 لاعبا في لعبة يتم تمديدها، كلما ظن المواطن انها أوشكت على الانتهاء.
يعيش المواطن اليوم كابوسا، دائما، بلا ملامح. واذا كانت منظمة داعش قد تم تبنيها، سياسيا وإعلاميا، لتكون الوجه الأبرز في ترويع المواطن وإرهابه، فان حصره في زنزانات كونكريتية، بلا منافذ، وتعذيبه وقتله، من قبل ميليشيات، يطبل ويزمر لها باعتبارها البطل المنقذ، لايقل وحشية عن داعش.
واذا كانت صفة «المظلومية» قد استغلت، سياسيا، بشكل مشوه ليسيء، في النهاية، إلى ذات الطائفة التي استنبطت من أجلها، فانها وبدلا من تجاوزها كشرط أساسي للمحافظة على وطن يتسع للجميع، تم تكريسها، تاريخيا وأبديا، في ظل حكومات طائفية تشرعن الافعال الانتقامية.
ان الصمت على وحشية وجرائم الميليشيات، جريمة لا تغتفر، كما هو الصمت على جرائم المحتل، ايا كانت جنسيته، كما هو الصمت على جرائم داعش، كما هو الصمت على جرائم نظام لم يعد يمثل غير مصالح ذاتية لحفنة من الفاسدين، على كل المستويات، وتجاوزت الفساد المالي والاداري. لم يعد الصمت ممكنا ازاء حملات الاعتقال والتعذيب والتهجير القسري والتغيير الديموغرافي والقتل. جرائم تتم جهارا بلا وازع أخلاقي أو خوف من مسؤولية قانونية. هل تتذكرون كيف كانت الحكومات قبل الويكيليكس والتلفونات المصورة، ترتكب جرائمها خفية أو تتستر عليها، فلا تنشر تفاصيلها الا بعد مرور ثلاثين عاما، مثلا، خشية غضب شعوبها والرأي العام العالمي؟ الانظمة العربية اليوم، مثالها الابرز سوريا والعراق، على خطى الكيان الصهيوني والأمريكي، لا تخشى في الاعتقال والقتل لومة لائم. قتلة اليوم، في العراق، من داعش والحشد الشعبي والميليشيات، يصورون جرائمهم ويجدون لذة لا تضاهى في سادية ما ترتكبه ايديهم. انهم يتباهون بنشر وتوزيع افلامهم وهم يعذبون ضحاياهم، مفتخرين بكونهم استنساخا عراقيا، بصبغة طائفية، لجرائم التعذيب الوحشية الأمريكية في أبو غريب.
ومع تزايد أعداد الميليشيات وتصاعد الصراع بين مافيات الفساد، ضمن النظام نفسه، تنطلق بين الحين والآخر تصريحات تشي بعمق الإرهاب الذي يمارسه النظام واجهزته الأمنية بدعوى مكافحة الإرهاب. فمن قلب النظام نفسه، صرح رئيس مجلس القضاء الأعلى مدحت المحمود ( 11 يناير 2016)، بأن مجموع الموقوفين في عموم العراق، خلال شهرين فقط، من العام المنصرم، بلغ (23316) شخصًا، وأن موظفي القضاء تمكنوا من انجاز القضايا المتعلقة بالإرهاب تحقيقاً ومحاكمة وبمعدلات قياسية بلغت 27545 دعوى في دور التحقيق و6362 دعوى انجزت في دور المحاكمة. مما يعني ان اعداد المعتقلين بتهمة الإرهاب (وعقوبتها الاعدام)، قياسية حقا، خاصة إذا ما اخذنا بنظر الاعتبار فساد النظام القضائي، والاتهامات الكيدية، واستخلاص الاعترافات بواسطة التعذيب وعدم توفر أدنى شروط المحاكمات العادلة والنزيهة، حسب تقارير مجلس حقوق الانسان في الامم المتحدة.
ان يوميات العنف والانتقام، باشكاله، تحجب عن المواطن الامل بالمستقبل وتشعره بالعجز الكلي، مما يدفعه في ظل حكومة عاجزة عن حماية حقوقه، نحو التطرف والعنف المضاد. فما الذي يتوقعه نظام، فاشي، فاسد، من مواطنيه حين يحاول تجريدهم من انسانيتهم وكرامتهم عبر التهميش والاقصاء؟
ما الذي يتوقعه من مدن استبيحت ودمرت وتم رشها باليورانيوم المنضب والفسفور الابيض، من قبل المحتل الأمريكي، كما حدث في الفلوجة؟ وها هي فلوجة المقاومة محاصرة منذ شهور والمستشفى العام يوجه النداء اثر النداء طلبا للادوية والمواد الطبية، كما تزداد المعاناة في نقص الكادر الطبي المتخصص وفي غرف العمليات الجراحية، التي تنعدم فيها المستلزمات الطبية لمعالجة الجرحى جراء تزايد اعداد المصابين بسبب القصف العشوائي المستمر، فضلا عن عدم وجود اي لقاحات للاطفال، وازدياد حالات الوفاة في صفوفهم بسبب الجوع وعدم توفر الحليب؟ ما الذي سيؤدي اليه حرق المساجد والمتاجر، والمنازل، وقتل المدنيين الأبرياء وهجوم الميليشيات الوحشي على مدينة المقدادية، في محافظة ديالى، حيث بلغ عدد ضحايا الاعتداءات الدامية للمليشيات حتى يوم السبت، 169 قتيلاً وعشرات الجرحى والمفقودين؟ لا اعتقد ان النظام سيحتاج عرافا يتنبأ له بمستقبله إذا ما واصل السير على طريق الانتقام هذا.
٭ كاتبة من العراق
هيفاء زنكنة