الولايات المتحدة والعراق تراجع، مراجعة ورجوع
علي الكاش
مفكر وكاتب عراقي
تنحت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوربا الغربية جانبا عن مساعدة الشعب العراقي للخروج من عنق الزجاجة الإيرانية، مع إدراكهم الكامل بأن النظام الحالي لا يعدو عن دمية عرائس تحركها خيوط الولي الفقيه في إيران.
فرئيس العراق الحقيقي هو الجنرال سليماني وليس فؤاد المعصوم، ورئيس الوزراء الحقيقي هو السفير الإيراني في بغداد وليس حيدر العبادي، أما بقية الجوق من رئيس البرلمان ورؤساء الكتل السياسية، فإنهم ليسوا أكثر من بيادق على رقعة شطرنج الولي الفقية، ولأن الشطرنج لعبة معظم مصطلحاتها فارسية، لذا فأن الخامنئي يجيد اللعب بذكاء ومناورة مع خصمه الأمريكي الذي إعترف بهزيمته النكراء عبر تصريحات مسؤولي الإدارة الامريكية نفسها، بعد أن أنهى الخامنئي اللعبة: كش اوباما! لقد أصبح العراق صار ولاية إيرانية! فتقبل الرئيس الامريكي الهزيمة معترفا بخيبته.
ولكن يبدو مؤخرا ان المارد الأمريكي قد إستفاق من غفوته، بعد ان ترك العراق ساحة فارغة ليملأها الحرس الثوري الإيراني، وراجع مواقفه المخيبة وتحول العراق الى مصدر إشعاع للإرهاب في محاولة متأخرة للعودة من جديد الى ضحيته العراق، لعله يسعفه وهو في الرمق الأخير.
طوال السنوات العجاف الماضية كانت الإدارة الامريكية تراقب عن كثب المستويات العالية من الفساد والإرهاب الحكومي، سيما ان المنظمات الدولية التي تؤشر مستويات الفساد هي أما امريكية او غربية، إضافة إلى تشخيص دكتاتورية وطائفية رئيس الوزراء السابق المالكي وتهميشه وإقصائه لأهل السنة، والأرهاب الذي تمارسه الميليشيات الرسمية الموالية لأيران، والجرائم التي ارتكبتها قوات سوات غير الدستورية وجيش المالكي وربيبه العبادي وإنتهاءا بجرائم مليشيات الحشد الطائفي في صلاح الدين وديالى والأنبار وأطراف بغداد. وقبلها المجاز التي ارتكبت بحق المتظاهرين في الحويجة والفلوجة والموصل وغيرها، علاوة على عمليات تطهير حزام بغداد وتفاقم مشكلة النازحين ورفض الميليشيات الشيعية عودتهم الى مناطقهم بغية تغير ديموغرافية المحافظات لصالح ولاية الفقيه، وإسكان عناصر الميليشيات الإرهابية والزوار الأفغان والفرس بدلا عنهم. كل هذه الجرائم وغيرها جرت أمام العالم وبشكل موثق لا يقبل الشك، ولكنهم غضوا النظر عنها لغاية في قلب يعقوب!
التظاهرات السلمية السابقة في المحافظات المنتفضة لم تطالب بالمستحيل أو تهدف إلى إحراج الحكومة، بل هي مطالب شرعية تتوافق مع العدالة وقيم الحرية والديمقراطية ونصوص الدستور المفخخ نفسه، وقد حاولت قوات الجيش إستفزاز المتظاهرين مئات المرات لغرض جرهم الى معركة غير متكافئة عدة وعددا، بغية إفساد إعتصاماتهم السلمية، لكن المتظاهرين في الموصل والفلوجة والحويجة فهموا اللعبة جيدا، وتداركوا نوازع الشر الحكومية بحكمة من خلال تجنب الإحتكاك بقطعان الجيش الطائفي. رغم ان بعض الإستفزازات الحكومية كانت عنيفة ولا يتصورها عقل ولا يقبلها عرف، لكن اهداف المتظاهرين كانت اهم، واخلاقهم أكبر، ومبادئهم أسمى. مما حدا بالعسكر إلى فضها بقوة السلاح، فإنقلب السحر على الساحر. ولولا تعنت وغرور المالكي وتبعيته للأجندة الإيرانية الرافضة لمطالب المتظاهرين، لما سفك الدم العراقي جزافا ولما وجد تنظيم الدولة الإسلامية حواضن له في المحافظات ذات الأغلبية السنية. مع هذا فأن الولايات المتحدة والدول الأوربية والأمم المتحدة كانت تتبنى وجهة نظر حكومة المالكي وطروحاتها البليدة المنحرفة عن بوصلة الحقيقة بطريقة مثيرة للحيرة، مسخرة ماكنة اعلامها لدعمها وتجاهل مطالب المتظاهرين. مع ان الحكومات الأوربية عادة ما يستقيل منها رؤساء وزارة، ووزراء على مسألة فساد حكومي تافهة ولا تقارن بفساد حكومات الاحتلال في العراق. ومع هذا يتحدثون بلا حياء عن ازدواجية المعايير، وإحترام القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لا أحد ينكر بأن العراق صار ولاية تابعة للخامنئي وبرضا امريكي تام، وعبر توافقات واتفاقات كما يبدو سرية بين الطرفين، والنظام الحاكم في العراق لا يخرج قيد أنملة عن نهج وتوصيات الخامنئي بإعتراف مسؤولين في الحكومة والبرلمان، لكن لا أحد في الغرب بإستثناء استرون استيفنسون عضو البرلمان الاوربي وقلة من المسؤولين في الولايات المتحدة واوربا، يعزفون على هذا الوتر الحساس. بل ان الحرب الأهلية عام 2006 التي راح ضحيتها ما يقارب المائة ألف عراقي بسبب تفجير العتبات الشيعية في سامراء، لم يتحدث عنها أي مسؤول امريكي لغاية القنبلة التي فجرها الجنرال بترايوس مدير سابق لوكالة المخابرات المركزية والقائد السابق للقوات الأمريكية في العراق خلال مؤتمر المعارضة الإيرانية في باريس مشيرا بأن الحرس الثوري الإيراني هو الذي قام بتفجير العتبات وليس تنظيم القاعدة كما إدعت الحكومة العراقية حينها، ودفع ثمن الحرب الهمجية الابرياء من العراقيين. أما لماذا لم يشر بترايوس الى الفاعل الحقيقي الا بعد أن خرج من منصبه؟ ولماذا سمحت قوات الغزوا بالحرب الأهلية أصلا وكان بإمكانهم وأدها في مهدها، بل هي من مسؤليتهم كقوات إحتلال؟ ولماذا وقفوا مع إبراهيم الجعفري الإرهابي الجزار، ولم يقفوا مع الضحية من أهل السنة؟ ولماذا تتجنب الإدارة الامريكية واعلامها الديمقراطي الحديث عن التوغل الإيراني في العراق؟
السؤال المثار: ألم يكن بإستطاعة القوات الامريكية خلال وجودها في العراق قطع، أو على أقل تقدير تقليم مخالب الولي الفقية في العراق قبل إنسحابهم؟ بلا شك هذه التوافقات الثنائية لا يمكن أن تأتِ من فراغ.
المسألة في العراق معقدة ومتشابكة تتعدى الفشل البرلماني والحكومي، إنها أعمق من هذا بكثير، فهي لا تتعلق بالمالكي والعبادي ولا الأحزاب العميلة الحاكمة فحسب، بل هي مسأله شعب عربي أصيل تتم عملية مسخ عروبتة وتجريده من لحاء السيادة والإستقلال والكرامة بكل قوة ووحشية أمام أنظار العالم الساكت والمتفرج عن الفاجعة، كما حدث في عربستان تماما القرن الماضي.
بعد خراب البلد توالت التصريحات الامريكية والأوربية لتسلط الضوء على جانب من الحقيقة وليس الحقيقة كاملة التي طالما نوه عنها استرون استيفنسون عضو البرلمان الاوربي بقوله" سبق وأن أكدنا مرارا وتكرارا بأنّ النظام الإيراني ورئيس الوزراء الصنيع له هما يشكلان المصادر الرئيسية للمشاكل في العراق، وهما دفعا البلاد الى الخراب وحرب طائفية أهلية من خلال الإبادة الجماعية التي طالت السنّة والقمع الوحشي الذي استهدف المعارضين وتفشي الفساد الرسمي. دعونا إلى قطع دابر تدخّل النظام الإيراني في العراق، وتنحية المالكي من السلطة و تشكيل حكومة شاملة، واجراء الإنتخابات تحت إشراف الأمم المتّحدة. هذا كان طلب الشعب العراقي منذ وقت طويل ولكنه مع الأسف تم اهماله".
بعدها توالت تصريحات الزعماء الامريكان والأوربيين عن التدخل الايراني والفساد الحكومي مما يدل على إنهم مكانوا على دراية كاملة بما يحدث في العراق ولم تخفِ عنهم خافية، وهذا امر طبيعي يتعلق بإنكشاف العراق كساحة حرة لكل مخابرات دول العالم. فمن التصريحات ذكرت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل " إن الحكومة العراقية فشلت على مدى سنوات في دمج وجهات نظر كل الجماعات في البلاد وإنه يجب الضغط عليها حتى تفعل ذلك. إننا نحتاج الى حكومة في العراق تتبنى كل مكونات الشعب، وعلى مدى سنوات لم يحدث هذا، وعليه لابد من زيادة الضغط".
وذكر لورن فابيوس وزير الخارجية الفرنسي" أنّ فرنسا تتمنّى رؤية حكومة وحدة وطنية في العراق قد تتشكّل مع المالكي أو من دونه الذي لم يتحد مع المجموعات السنية فقط ، بل حاكمهم أيضا". كما وذكرت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلنتون لوكالة أنباء (سي إن إن) " أخرج المالكي بالقوة الكثير من القادة الذين كانوا القادة الكفوئين، أعرف بأنّ قائد قوة القدس في بغداد الآن، وهو يجلس مع المالكي ومستشاريه ومؤيديه، لربّما يجندون قوّاتهم الخاصة في العراق، مثلما عملوا في سوريا". ويضيف الجنرال غارنر الحاكم المدني الأول للعراق بعد الإحتلال " أدرنا ظهورنا على السنّة الذين ساعدونا في 2007-2008. ثمّ دعمنا المالكي في 2010 بينما كنا على معرفة تامة بأنه سيقصي الأكراد و يضطهد السنّة وهو في وقع الأمر دمية بيد الإيرانيين".
كما صرح تشاك هيغل وزير الدفاع الأمريكي" الحكومة العراقية لم تنجز مطلقا الالتزامات التي قطعتها لتشكيل حكومة وحدة وطنية مع السنة والكورد والشيعة". وأضاف الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية " أخفق زعماء العراق في تأمين مصالح شعبهم تماما". وتوالت التصريحات الأمريكية والأوربية منتقدة بشدة إداء حكومة المالكي السابقة بعد إنتهاء فترته الرئاسية ومحاولته تجديدها، لكن قبل ذلك كانت الولايات المتحدة وأوربا تسانده بقوة في موقف متناقض، لا يمكن ان أن يفسر بحسن نية.
الآن تحذو نفس الجهات ذات الحذو من حكومة العبادي فتسانده بقوة، رغم أن العبادي أضعف بكثير من المالكي، وهو رجل أقوال وليس أفعال، كما أنه من مفقسات حزب الدعوة العميل لإيران، ومن عبيد ولاية الفقيه. العبادي لم يتمكن لحد الآن رغم تصريحاته الإعلامية الجوفاء من أن يحيل أي من حيتان الفساد الى القضاء سواء من حزبه المشبوه او بقية الأحزاب، على الرغم من ان القضاء أصلا ميسيس لحزب الدعوة وبقية الأحزاب الشيعية الحاكمة.
أزمة هبوط أسعار النفط كشفت المستوى الرهيب من الفساد الحكومي، بل من الغرائب إنه هذا العام قدمت الحسابات الختامية من قبل الحكومة لحسابات موازنة عام 2007 أي بعد ثمان أعوام من موعد تقديمها، ولا تزال المليارات من هذه الموازنة الخائبة لا يعرف عنها أحد شيئا! العجيب ان البنك المركزي وهيئة الرقابة المالية ووزارة المالية وبرلمان الدواب ليست لديهم معلومات عن سر إختفاء هذه المليارات من الدولارات. والأنكى منه أن الشعب العراقي لا يريد متابعة أو معرفة مصير ثرواته المسروقة! فعلا شعب أمره عجيب وموقفه مريب، شعب خنوع يتمناه أي زعيم فاسد في العالم بسبب لا أباليته واهماله لحقوقه.
الآن بدأت إدارة أوباما وهي في نزعها الأخيرة محاولة إعادة تقييم موقفها في العراق بعد أن غفلت عنه عقدأ من الزمن، وبدأ الصدأ ينخر في جدرانه الآيلة إلى السقوط. لكن هل تنفع عودة القوات الأمريكية للعراق بمختلف الصفات والواجهات من إنعاش البلد الضحية، سيما أن لم تبق سوى أشهر قليلة لمغادرة الكلب الأسود البيت الأبيض؟ أم إنها مجرد محاولة ترقيعية امريكية لا تختلف عن ترقيعات حيدر العبادي الإصلاحية؟
وهل ستتمكن الإدارة الأمريكية من إستئصال السرطان الإيراني الذي فتك بخلايا النسيج العراقي ودمرها تدميرا؟ ان المراقب السياسي يلاحظ تناقضات غريبة في الموقف الأمريكي من التواجد الإيراني في العراق، فالموقف من الحشد الشعبي ـ وهو بلا أدنى شك نفس تجربة (الحرس الثوري الإيراني) ـ إداة إيرانية فاعلة بإعتراف زعمائه أنفسهم، ومع هذا نلاحظ ان تصريحات بعض المسؤولين الأمريكان تؤيد وترحب بمشاركة الحشد في عمليات تحرير المناطق الخاضعة لنفوذ تنظيم الدولة الإسلامية وهو نفس موقف حيدر العبادي، في حين تصريحات أمريكية أخرى لا تؤيد مشاركة الحشد الشعبي وترفضه بشكل قاطع. علاوة على الموقف الأمريكي الشفاف من الفساد الحكومي في العراق وملاحقة الحيتان الكبيرة.
لكن الشيء الأكيد ان الولايات المتحدة لا تستطيع تحرير العراق من نفوذ الولي الفقيه، وهذه هي الحقيقة التي تعرفها الإدارة الأمريكية تماما، لذا يمكن الجزن بأن محاولتهم الترقيعية للعودة الى العراق وإعادة الحسابات ليست أكثر من ذر الرماد في العيون.
علي الكاش