أموال سعودية وعقيدة إيرانية… المضي إلى أين؟
د. مثنى عبدالله
February 29, 2016
عام مضى على تسلم الجيش وقوى الأمن الداخلي اللبناني، أول شحنة سلاح فرنسي مولتها هبة سعودية بقيمة أربعة مليارات دولار. كان من المفروض أن يتسلم شحنات أخرى لاحقا تشمل أنواعا مختلفة من السلاح الثقيل والمتوسط، وطائرات من دون طيار، ومعدات أخرى ضرورية، لكن السعودية فاجأت لبنان بإيقاف هذه الصفقة خلال الأيام القليلة المنصرمة، نظرا للمواقف اللبنانية التي لا تنسجم مع العلاقات الأخوية بين البلدين، على حد تعبير وكالة الانباء السعودية الرسمية.
وكما كان وصول الدفعة الأولى من التسليح مهرجان مديح وتشكيك من قبل الموالاة والمعارضة، عاد الموقف نفسه ليتكرر بسبب إيقاف المساعدة، والسبب في ذلك هو التركيبة السياسية التي تحكم لبنان، واستمرار مصادرة قراره الرسمي بأذرع قوى هذه التركيبة، التي يدين البعض منها بالولاء للسعودية والآخر لإيران. ما يهمنا هنا هو أن الحدث ألقى الضوء مرة أخرى على وسائل تحقيق السياسة الخارجية لدى هاتين الدولتين الإقليميتين. لقد اعتمدت المملكة العربية السعودية في سياستها الخارجية، ومنذ زمن طويل، على آلية مجاملة ومحاباة الآخرين، وكانت ترى في ثروتها المالية وسيلة كبرى تجعل الطرف الآخر يسيل لعابه فينزلق إلى حد التبعية لها، بينما أغفلت عناصر أخرى هي تملكها وكان بإمكانها أن تكون أوراق ضغط على الآخرين بما يحقق سياستها. قد يكون المال عنصرا مؤثرا في صنع السياسة الخارجية، لكن مجال تأثيره في العلاقات الدولية ربما يكون أضعف من تأثير عناصر أخرى. لكن المملكة اعتمدته عنصرا وحيدا في العديد من المواقف، فكانت النتيجة فشلها في الكثير من الأحداث، وخسرت حلفاء. هي خسرت سوريا حافظ الأسد، لأنها لم تبن معه علاقة سياسية قائمة على أوراق ضغط ومصالح مستديمة، فبنى تحالفا مع عدوتها إيران، وهو في أوج علاقته بها، وهذا فشل سياسي كبير تدفع ثمنه الآن. كما فشلت في كسب أو صنع زعامات سياسية عراقية فاعلة على أرض الواقع، بينما هي أغدقت عليهم الكثير من الأموال، وجمعتهم من لندن وبعض العواصم الغربية وصنعت منهم معارضة. بذلت أموالا كثيرة للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، لكنه في أول محطة تخلى عنها وذهب إلى عدوتها إيران. أما في لبنان فإنه الدليل الأبرز على فشل سياسة شراء المواقف بالأموال، فبعد عقود من الزمن بذلت فيها المملكة أموالا كثيرة لزعامات سياسية معروفة وغير معروفة، يأتي الموقف الرسمي اللبناني ممثلا بوزير خارجيتها، الذي رفض التضامن معها في حادثة حرق سفارتها وقنصليتها في إيران، وهو الوحيد الذي خرج على الاجماع العربي من بين كل الدول العربية.
ربما الموقف الوحيد الذي نجحت فيه المملكة في استثمار أموالها في شراء المواقف، كان في الحرب ضد العراق عام 1991، وفي المساعدة في غزوه عام 2003، لكن تبين في ما بعد أن أموالها تلك مهدت الطريق للامريكان كي يبيعوه إلى إيران على طبق من ذهب، كما قال الراحل وزير خارجيتها السابق. وها هي اليوم ترى بوضوح كيف تحول العراق من مدافع عنها وعن كل الأمة إلى أداة بيد أعدائها وأعداء الأمة، وبذلك قدمت من رصيد مصالحها السياسية والاستراتيجية أكثر مما حصلت عليه، بل أضرت نفسها. حتى مصر في ظل النظام السياسي الحالي، نجد أن سياستها تختلف، بل تتعارض مع سياسة المملكة في الموقف من العراق واليمن وإيران، رغم الأموال التي أغدقت عليه كانت لتعديل الكفة مع إيران. على المستوى الدولي أيضا بذلت أموالا كثيرة كي تبقى في الصف الأول في التفكير الأمريكي، لكنها أصبحت في مرتبة أدنى من إيران في التفكير الامريكي، لأنها لم تستطع اللحاق بالتحول الجيوسياسي في المنطقة الاقليمية والدولية. هي اشترت الوجود الامريكي في المنطقة، لكنها نسيت أن الوجود الامريكي هو منتج للأمن وانعدام الأمن معا. إنه ينتج الأمن في بعض المعادلات المحلية القابلة الراضخة والمستعدة للتعاون، وينتج انعدام الأمن باستقدامه آلاف المتطوعين من الداخل والخارج للجهاد ضده، وهي أول من دفع ثمن ذلك على أراضيها وتهديد أمنها الداخلي.
أما على الجانب الايراني، فمنذ قيام الثورة الايرانية عام 1979 والنظام السياسي يعتمد العقيدة الدينية في تحقيق سياساته الخارجية. كان العامل الايديولوجي الديني هو الحصان الذي راهن عليه الحكم الجديد، فشرع في بناء أسطورة تقول بأن إيران هي التمهيد لدولة الامام المنتظر العالمية، وأن تحالف المستضعفين واحتماءهم بإيران هو العامل الوحيد الذي سيجعل الارض تمتلئ عدلا بعد أن ملئت جورا، وهي بذلك تحاول أن تبعد عن نفسها صفة الدولة القومية مثل سائر دول العالم الأخرى. هي تسعى أن تكرس لنفسها صورة قاعدة الانطلاق والسراج المنير للآخرين كي يسيروا في الطريق نفسه، وكانت أولى خطواتها في هذا المنهج هو مساعدة المذهبيين والطائفيين لزيادة قوتهم، لأنها ترى أن قوة المذهبيين تعني ضعف قوة القوميين، فهي لا تريد قوة قومية في المنطقة غير القومية الفارسية، وعندما ينسحق الشعور القومي يبقى كأسها هو المعلى في المشهد. ولو نظرنا إلى السلوك السياسي الايراني نجده سلوكا ذا مصالح قومية وأهداف وطنية، لكنها مغلفة بطابع أيديولوجي ديني، ولو أمعنا النظر فيها نجدها هي تماما أهداف أيران منذ زمن الشاه، التي كانت مغطاة بغطاء القومية الفارسية. إذن الفارق الوحيد هو الغطاء وليس جوهر الأهداف, وهي في أحيان كثيرة تجد الغطاء الديني يثقل عليها المناورة لأنه ليس حقيقيا في نهجها، لذلك تبرز لنا بوجوه عديدة في مواقف مختلفة وربما متناقضة أحيانا. فمرة نجدها بوجه فارسي متعصب، وأخرى تبدو لنا راعية مذهب وزعيمته، وثالثة بوجه تدعو العرب للتعاون والتعامل معها، وأخرى تثير قلق العرب وتتآمر عليهم. هذه العقيدة جعلت المشروع الإيراني أكثر جهوزية وسيطرة مركزية من المشروع السعودي، فقد كانت لديها شجاعة مواجهة الاحداث والمساهمة في صنعها، فتمدد نفوذها في بقاع كثيرة بدون حرج وبدون انتظار موافقة الدول الكبرى، لذلك تمكنت من بناء قاعدة بحرية عسكرية في ميناء عصب الإريتري بالقرب من حدود جيبوتي لتهريب السلاح إلى لبنان واليمن. وبهذه القاعدة يهددون بإغلاق مضيق هرمز. كما أن إيران تنافس إسرائيل في النفوذ في أفريقيا، لوجود جالية لبنانية في العواصم الأفريقية، إضافة إلى النفوذ الطاغي لديها في كل من سوريا والعراق ولبنان. حتى في مقاييس تصنيف الدول، تحاول إيران إيجاد مقياس خاص بها يميزها عن الآخرين ويبعث روح التحدي لدى جمهورها وأتباعها. فمقاييس تصنيف الدول تعتمد عناصر القوة الاقتصادية والتنكولوجيا والقوة العسكرية والسياسية، لكن الرئيس الايراني روحاني يقول في مقالة له في «الواشنطن بوست»، إن عناصر القوة الايرانية هي الكرامة والهوية، وخطها الاحمر هو كرامتها والاعتراف بدورها الاقليمي. وهنا يضرب بقوة على دور العامل الايديولوجي كوسيلة من وسائل صنع السياسة.
قد تكون المملكة العربية السعودية شعرت بخطأ اعتماد شراء المواقف بالمال، والخسائر الكبيرة التي جنتها من وراء ذلك، وهي تحاول اليوم تغيير هذا السلوك، لكن إيران مازالت مصرة على اعتماد العقيدة في سياستها، حتى يحين أمر انكشاف زيفها قريبا ويكون سقوطها مدويا.
باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبداللهt