"كايروس فلسطين": رسالة مسيحية إلى إخوتنا المسلمين
2016/02/29
Aramy Siryany
1 hr
"كايروس فلسطين": رسالة مسيحية إلى إخوتنا المسلمين
2016/02/29
١- تاريخٌ وحاضرٌ ومصيرٌ مشترك
١-١ عندما نتوجه، نحن المسيحيين الفلسطينيين، إلى إخوتنا المسلمين، فإنما نتوجّه إلى أبناء شعبنا، وإلى جار وزميل لنا في العمل، وإلى رفيق درب في كل مجالات الحياة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. الشعب واحد والوطن واحد واللغة واحدة والتقاليد نفسها والهموم واحدة والمعاناة واحدة، والتطلعات واحدة. هكذا صُغنا التاريخ مجتمعًا واحدًا وكيانًا واحدًا لا يقبل القسمة على اثنين.
١-٢ وإذا أراد لنا التاريخ أن نكون كذلك، فالله سبحانه وتعالى، سيّد التاريخ، أراد لنا ذلك أيضًا. ليس عيشنا الواحد صدفة في التاريخ أو قدرًا أعمى أو حالة عابرة، بل هي مشيئة الله علينا، نسلّم له تعالى أمرنا ونطيع إرادته بفرح وصدر منشرح. هذا ما أكّدنا عليه في وثيقة ”وقفة حق": ”وجودنا، نحن الفلسطينيّين، مسيحيّين ومسلمين، على هذه الأرض ليس طارئًا، بل له جذور متأصّلة ومرتبطة بتاريخ وجغرافيّة هذه الأرض، مثلَ ارتباط أيّ شعب بأرضه التي يوجد فيها اليوم“ (كايروس ٢-٣-٢).
١-٣ فلسطينيين مسلمين ومسيحيين، تقاسمنا في هذه السنوات الآلام والنضال والتطلعات. معًا واجهنا تحديات قومية، وعدوانًا اقتلعنا من أرضنا، وحصرنا في بعض أطراف وطننا، وشتتنا في كل بقاع الأرض، وهجّرنا من بيوتنا وقرانا ومدننا. معًا تألمنا، والألم وحّدنا.
١-٤ معًا تألمنا وعانينا، وصودرت أراضينا، وقاومنا الاحتلال ودخلنا سجونه معًا، ومعًا بذلنا حياتنا للوطن، في سبيل استرجاع حقوقنا المهدورة وتثبيت وجودنا وتاريخنا وتراثنا، طلبًا لمستقبلٍ أفضلٍ لبناتنا وأبنائنا، وطلبًا للحرية والكرامة.
١-٥ حاضرنا واحد ومعاناتنا واحدة ومصيرنا واحد. لسنا، على هذه الأرض المقدسة، ”نحن وأنتم“ مقابل بعضنا البعض، بل نحن واحد، في قارب واحد، لا وجود فيه للحواجز والجدران العازلة، النفسية والاجتماعية. في هذا القارب نعيش معًا ومعًا نموت. وإذا ما واجهت هذا القارب العواصفُ والأعاصير، فلن نستطيع أن نواجهها إلا معًا، بتضافر جهودنا. أمّا إذا ما انقسم القارب على نفسه، فإنه يغرق ونغرق جميعًا معه.
٢- نحن مسؤولون بعضنا عن بعض
٢-١ هذا كله يجعلنا على هذه الأرض المقدسة –وفي جميع بلداننا العربية– مسؤولين بعضنا عن بعض، أمام الله والتاريخ والعالم. فأمام الله، الذي نمتثل لمشيئته، نقف ساجدين، ونمثل أمامه معًا، وإليه نرفع صلواتنا وأدعيتنا، في تضامن روحيّ، يحمل به كل واحد منا هموم أخيه وآلامه وآماله وتطلعاته. وإذا ما مثلنا أمام الله، فإنه سيحاسبنا على ما صنعنا بتاريخنا وتراثنا وقداسة أرضنا، ويحاسبنا على أُخُوَّتنا وعلى مواقفنا أحدنا من الآخر، كما يحاسبنا عما كسبت أو خسرت أنفسنا.
٢-٢ نحن مسؤولون بعضنا عن بعض أمام التاريخ، نشهد لهذا الماضي الذي نحمله، ولهذا الحاضر الذي نواجهه، والمستقبل الذي نبنيه معا. فإذا كانت مشيئة الله هي أساس تراثنا التاريخي والحضاري، فهي أيضا أساس رصيدنا في الحاضر والمستقبل.
٢-٣ نحن مسؤولون بعضنا عن بعض أمام العالم. أمام العالم نشهد معًا لهذا التاريخ، ونقف معا للدفاع بعضنا عن بعض، في وجه كل من يريد أن يشوه هذا التاريخ وينكر مشيئة الله علينا. إن العالم ينظر إلينا، ويستقوي علينا بانقساماتنا، ويتسلل إلينا من خلال طائفياتنا وعشائرياتنا، ليزرع الفتن بيننا أو يؤجّجها، ومن ثم يتفرج علينا نتقاتل، ليأتي بعد ذلك، بلؤم ونفاق وخبث، ليضع السلام فيما بيننا وفق مصالحه وأنانياته.
٣- التطرف الديني
٣-١ للأسف الشديد، ظهرت في السنوات الأخيرة موجةٌ من التطرف راحت تعصف بنا جميعًا، لا بل راحت تعصف بالعالم كلّه. وهي موجة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى التعصّب الأعمى وإلى الإقصاء، والموت. وهذا ما نشاهده في أقسى وأقبح صوره وأشكاله، في بلادنا وفي العالم أجمع.
٣-٢ هذا التعصب والتطرف لا يرحم أحدًا، وسيقود منطقتنا بأسرها بمسلميها ومسيحييها وكل الفئات الدينية الأخرى إلى الهلاك. وتدفع الأقليات الدينية الثمن الأكبر لهذا التطرف، وبات شرقنا مهددًا أن يصبح خاليًا من التعددية التي كانت ويجب أن تبقى سمةً رئيسة لهذا الشرق.
٣-٣ التطرف وما ينجم عنه من قتل وتشريد وخطف وإرهاب باسم الدين شرٌ ضد الله والإنسانية. لا يمكن أن تكون هذه الظاهرة التي تعاني منها بلداننا اليوم هي مشيئة الله على بلادنا ومنطقتنا والعالم، لأن تراثنا الديني يعلمنا ألا نقتل، بل يامرنا بأن نتعارف ونتحاب ونتعاون. التطرف يشوه صورة الله، ويشوه صورة الإنسان.
٣-٤ لا يمكن أن يكون الله خالق الإنسان، ومن نفخ الحياة من روحه فيه، مصدرَ هذا القتل والدمار. لا يمكن أن يكون الإسلام مصدر هذا القتل والدمار. خلق الله البشر سواسية وكرّم الإنسان. الله سبحانه هو مصدر الحياة، وله وحده الحقّ في استردادها.
٤- نحارب التطرف معًا
٤-١ رسالتنا إلى أنفسنا نحن المسيحيين وإلى الإخوة المسلمين، في هذه الأيام، هي أننا جبهة واحدة، جبهة حياة في وجه هذا التطرف، معًا نرفض التطرف ومعًا نرفض الموت ونطالب بالحياة وبكرامة كل إنسان. يجب أن يعلو صوتنا معًا في وجه الإرهاب والتطرف، ملتزمين ثقافة المحبة والتلاقي بين جميع خلق الله. نحن جبهة واحدة، جبهة حياة، بها نقف في وجه ثقافة الخوف والترهيب، وبها نعلن في وجه من يريد التفريق بيننا، أننا جبهة واحدة وشعب واحد ووطن واحد. ولا يدَّعِ أحد التفريق بيننا على أساس الدين. إن انسانيتنا وعروبتنا وماضينا وحاضرنا ونضالنا المشترك وإيماننا بالله الواحد خالق هذا الكون وخالق الإنسان - كلُّ هذا أقوى من التطرف. معًا سنقف في وجه الموت المهدِّد لنا. لذلك معًا نعزز الحوار والتلاقي ونصنع الأخُوّة والوحدة التي تحترم كل اختلاف بيننا كما تحترم نقاط تلاقينا.
٤-٢ معًا سنواجه ثقافة الانفصال والتفرقة والعزلة. معًا نرفض المبدأ القائل إن هناك أقليات دينية بحاجة إلى حماية، فنحن كلنا جزء من تراب هذه الأرض، وكلنا معًا شعب هذه الأرض. ومعًا نقول مع الشاعر محمود درويش:”لنا في أرضنا ما نعمل... ولنا الماضي هنا... ولنا صوت الحياة الأول... ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل“. معًا ندعو إلى مواطنة صالحة يتساوى فيها الجميع، وقانون واحد يحمي الجميع، وأخُوَّة واحدة تسند الجميع، والمساواة في المسؤوليات والواجبات والحقوق والحريّات.
٤-٣ معًا نواجه التفسيرات المتطرفة للنصوص الدينية، ونجتهد في فهمها كما أراد الله في صلاحه ورحمته اللامتناهية للبشر أن نفهمها، فنجد فيها الحياة لنا ولجميع الناس، ونرفض "اغتصاب" هذه النصوص واستخدامها لخدمة مصالح بشرية إقصائية، وتحويلها إلى مصدر موت لأي إنسان. ومعًا نلتزم تقديم المواعظ والتفاسير التي تلتزم قدسية النصّ وقدسية الإنسان، والتي تسير بالمؤمن إلى خدمة المؤمنين وخدمة كل أخ له في الإنسانية. ومعًا أيضًا ندعو إلى مراجعة مناهجنا المدرسية وكتبنا الدينية لكي يعرف المسيحي أنّنا والمسلم شعب واحد، ويعرف المسلم أنّنا والمسيحي شعب واحد، ولكي يزداد كل واحد معرفة وفهما وتقديرا لدين الآخر، ولكي يدرس كل واحد تاريخنا المشترك في هذه الأرض، ولكي ينشأ المسيحي والمسلم على الشعور بالمسؤولية تجاه القريب والجار، ولكي نبني بتربيتنا الإنسانية والدينية مجتمعًا سمته المحبة والتسامح والإخاء.
٤-٤ معًا ندافع بعضنا عن بعض، مؤمنين أن زوال أحدنا هو زوالنا معًا، وأن الشدَّة إن ألمـَّت بأحدنا فكأنّها ألمـَّت بنا جميعًا. معًا ندافع عن أماكننا المقدسة ورموزنا الدينية في وجه أي تهجّم أو اعتداء أو تشويه. معًا نلتزم محاربة النمطية والتعالي وثقافة إقصاء الآخر باسم الدين، خاصة في الإعلام الدينيّ، الذي يريده البعض أن يكون فتنة بيننا وأن يصبح وسيلة لزرع الأحقاد والنمطية السلبية، بدلًا من أن يكون وسيلة لنشر المحبة والوئام. معًا ندعو إلى إعلامٍ دينيّ ملتزم يحترم الآخر ورموزه الدينية ويعزّز ثقافة الإخاء والوحدة والعيش المشترك.
٤-٥ إن الأوقات التي نعيش فيها حاسمة ومصيرية. إن زمننا هذا يدعونا إلى مزيد من الإيمان أمام الله والإنسان، وإلى مزيد من الالتزام في تحمل مسؤولياتنا تجاه بعضنا البعض، وقد يتطلب ذلك منّا شجاعة غير مسبوقة، حين نضطر إلى أن نقف في وجه من هم من ”أهل بيتنا“ في سبيل محاربة الفكر الإقصائي وأي لاهوت أو فقه ينادي بالموت والتطرف. إن مستقبل كل منطقتنا على المحكّ، فإما أن نزول معًا، أو أن نحارب من أجل حياة أبنائنا وبناتنا معًا.
٤-٦ إن هذه الظروف التي نعيش فيها حاليًّا محنة لنا جميعًا. هي محنة لإنسانيّتنا ولإيماننا، شعبًا وأفرادًا ومؤمنين. والمحنة امتحان يسمح الله أن نمر به، كي ينقينا من الداخل، وينتزع من قلوبنا كلَّ ما من شأنه أن يعيق مسيرتنا، فنرتفع، في هذه الحالة، إلى مستوى قداسة الله وسموّه، بدل أن ننزله تعالى إلى مستوى رؤانا المحدودة والتي نحمل فيها الموت بعضنا لبعض. إننا على يقين بأن الله يمنحنا هذه الفرصة لكي ينقينا من الداخل، وهذا ما يدعونا إلى تربية جديدة، تبدلّ السلبيات الطائفية في قلب المسلم والمسيحي، تربية تجدّ في تكوين مؤمن سامٍ بسموّ دينه، فنربّي إنسانًا مؤمنًا، مسلمًا أو مسيحيًّا، كما صُغْنا التاريخ الذي وصل بنا إلى حاضرنا اليوم: شعب واحد، ومعاناة واحدة ومصير واحد.
٤-٧ إنَّنا وإذ نوجّه هذا النداء إلى إخوتنا وأخواتنا المسلمين، نقرّ أنّ في تاريخنا المسيحي حقباتٍ من التعصب والقتل باسم الدين، وأن بيتنا المسيحي اليوم لا يخلو ممن يروجون لثقافة التكفير والإقصاء، وممن يستخدمون الدين لأغراضٍ سياسية أنانية. التطّرف لا دين له، وهو ليس حكرًا على أتباع دينٍ ما، دون سواه. ونحن نتعهد بالاستمرار في محاسبة أنفسنا وتطهير بيتنا ولاهوتنا من أي مظهر من مظاهر التطرف الديني. معًا سنواجه كل تطرف يهدد مستقبل أرضنا وقدسية الأديان فيها.
٥- تبقى فلسطين البوصلة
٥-١ تمرّ القضية الفلسطينية بأصعب وأحلك مراحلها. وكل خطوة في الاتجاه الخاطئ يمكن أن تؤدي بنا إلى المزيد من الكوارث. إن مستقبلنا رهن بوحدتنا وتراصّ صفوفنا. إن أي خلل من هذه الزاوية سيرتد سلبًا، لا بل بشكل مأساوي، على مسيرتنا الوطنية. عاش شعبنا خبرة آلام ونضال فريدة، تعلم منها الكثير. ومن أهم ما تعلّمه هو أن الفرقة والانقسامات لا تؤدّي إلا إلى الدمار. كلما وقفنا معًا وتضامنا ووضعنا ايدينا في أيدي بعضنا البعض، أخذ مسارنا الوطني الوجهة الصحيحة، وإذا تفرقنا، غرقنا.
٥-٢ إن التطرف الذي تمر به منطقتنا وثقافة العزل والتكفير والتعصب من شأنها أن تحيِّد مسارنا عن همّنا الأول والرئيس، فلسطينيين وعربًا، وهو زوال الاحتلال الإسرائيلي والحصول على حريتنا وحقّنا في تقرير مصيرنا. يجب أن تبقى فلسطين بوصلة كل العرب، ويجب أن تبقى القدس رمزاً للسلام والعدل والتلاقي بين الديانات الثلاث: هذا هو هدف كل مؤمن بالله الواحد.
٥-٣ ونعيد هنا من جديد طرح رؤيتنا في ماهية الدولة التي نصبو إليها:”الدولة الدينيّة، اليهوديّة أو الإسلاميّة، تخنق الدولة وتحصرها في حدود ضيّقة وتجعلها دولة تفضّل مواطنًا على مواطن وتستثني وتفرّق بين مواطنيها. دعوتنا إلى اليهود والمسلمين والمسيحيين المتديّنين: لتكن الدولة لكلّ مواطنيها مبنيّة على احترام الدين، ولكن أيضًا على المساواة والعدل والحرية واحترام التعددية، وليس على السيطرة العدديّة أو الدينيّة“(كايروس ٩-٣).
٥-٤ ختامًا نقول: إن قضية الشعب الفلسطيني ليست قضية وجود فحسب، بل قضية رسالة. في هذا العالم المضطرب، وفي هذه المنطقة التي تبحث عن ذاتها وسط تحديات لا حصر لها، يضع الشعب الفلسطيني كل طاقاته، الدينية والفكرية والإبداعية والنضالية، في خدمة نفسه وفي خدمة المنطقة والعالم، فنقدم لهذا العالم نموذج مجتمع قادر على استيعاب التعددية، لوضعها في خدمة بناء مستقبلنا، ومستقبل المنطقة، والعالم. ما يجري على هذه الأرض المقدسة لا يقرر مصير شعبه فقط، بل ويقرر مصير العالم. هنا بدأ العالم. وفي هذه البداية خلاص العالم وخلاصنا.
٥-٥ ومن جديد، لنطلق معًا صرخة أمل. ”لأننا نؤمن بالله، إلهٍ حكيم وعادل. ونؤمن أنّ حكمته سوف تنتصر أخيرًا على شرّ الكراهية والموت الباقي حتى الآن في أرضنا. وسنرى أرضًا جديدة وإنسانًا جديدًا يسمو بروحه حتى يبلغ محبّة كلّ أخ وأخت له في هذه الأرض“ (كايروس ١٠).
مجموعة كايروس فلسطين