إقلاع كردستان وهبوط فلسطين!
رأي القدس
Jun 01, 2016
تعرّض المشرق العربيّ لزلزالين كبيرين تزامنا مع الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتشكّلت بنتيجتهما حدود المنطقة السياسية. كانت المنطقة قبل هذين الزلزالين جزءاً من السلطنة العثمانية التي كانت تعيش أيّامها الأخيرة في ظلال حكم حزب «تركيا الفتاة» الذي ساهمت نزعته القوميّة، المتجهة نحو أواسط آسيا (منبع الأتراك)، في تأجيج الهوى القوميّ العربيّ المضادّ ما جعل المنطقة العربية خاصرة ضعيفة أمام التمدّد العسكريّ البريطاني.
وفيما عمل مسؤولو التاج البريطاني على إنشاء ملكيّات في العراق والأردن (وسوريا خلال فترة العهد الفيصلي القصيرة)، فإن مسؤولي الجمهورية الفرنسية أنشأوا جمهوريتي سوريا ولبنان، وتُركت فلسطين، مع تقاطر اليهود إليها ضمن المشروع الصهيوني، تحت وصاية الانتداب الملكيّ البريطاني من دون أن تنال وضعيّة جمهوريّة أو ملكيّة.
أدّت الثورة عام 1917 إلى ابتعاد الحليفة روسيا عن المحور البريطاني الفرنسي، وساهم ذلك، ضمن أسباب أخرى كثيرة، في منع مخطط ذاك الحلف في إنشاء دولتين أرمنية وكرديّة، وتمكّنت تركيّا، تحت قيادة الضابط الموهوب مصطفى كمال (أتاتورك) من الحفاظ على كيانها القومي وفي قمع الطموحات الأرمنية والكردية بالنار والحديد، لكنّ هذا فتح باب إحساس الأكراد بمظلومية كبيرة وأنتج سلسلة لا تنتهي من أعمال العصيان والتمرّد والثورة ما تزال مستمرّة حتى الآن.
انقشعت الحرب العالمية الثانية مع استيقاظ الجمهوريات والملكيّات العربيّة المستقلّة (وكانت كلّها كيانات جديدة هشّة) على حدث تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة عام 1947. وكان دعم أكبر قوتين منتصرتين: الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي (الذي ساهم في إنجاح القرار بإضافة أصوات أوكرانيا وبيلاروسيا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا) لقرار التقسيم أحد أسباب نجاحه، من ناحية، واستقواء الدولة اليهودية الناشئة على العرب، من ناحية أخرى.
الناظر للوضعيّة العربية الحاليّة، على خلفيّة تأسيس إسرائيل، لا يمكن أن يفوته وجود وضع زلزاليّ مشابه لما جرى بعد الحربين العالميتين، كما لا يمكن أن يفوته وجود ميل دوليّ متزايد لإعادة فك وتركيب منطقة «الشرق الأوسط»، كما لو أن أطماع الحرب العالميّة الأولى يعاد وضعها على طاولة المفاوضات الجديدة، ولكنّ المشتغلين على المصائر والخرائط هذه المرّة هما سيرغي لافروف وجون كيري، بينما يناور ورثة فرانسوا بيكو ومارك سايكس قرب الطاولة.
في كواليس هذه المباحثات، كما بات واضحاً، الظهور التدريجي لدولة كرديّة يقوم على تأسيسها حزب «الاتحاد الديمقراطي»، وهو القوّة الأساسية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية داخل سوريا المنهكة بالحرب، والتي لا يخفي الروس حماسهم لها، لأسباب عديدة بينها أن قوّتها تعني إضعافاً متزايداً للدولة التركيّة، وهو يفتح باب مراهنات ومصالح وخرائط، وبذلك تلتقي أهداف البيت الأبيض والكرملين، مرّة أخرى، بعد 69 عاماً على قرار تقسيم فلسطين.
التفاهم الأمريكي الروسي لا يعني أن الأطراف الأخرى المتضررة، من أتراك وعرب (وبعض الدول المناهضة لهذا الحلف الجديد) ستسكت على سير المخطط فوق كياناتها، غير أن المطحنة الطائفيّة الجارية، والتي تنفخ إيران في نيرانها، ستساهم في حرف البوصلة وإعماء الأبصار والقلوب.
في القضية الكرديّة لا يبدو العالم منشغلاً أبداً بحل مظلوميّة قديمة بقدر ما هو مشغول بخلق ظلامات جديدة فادحة بحق السوريين والأتراك، كما أن تجاهل المظلوميّة الفلسطينية من الأمريكيين والروس، وتشجع بعض العرب لتصفيتها يبدو جزءاً من الثمن المدفوع في الصفقات الكبرى الجارية، بحيث يكون صعود أسهم كردستان خلفيّة لهبوط أسهم فلسطين، في تلاعب رهيب بحضارة المنطقة وتاريخها وأسس بقائها.