بي بي سي: تنظيم "الدولة الإسلامية": القصة الكاملة
29.04.2016
نشرت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تقريرا مطولا عن تنظيم الدولة الاسلامية رصدت فيه صعود نجم التنظيم وقياداته منذ تأسيسه وحتى إعلان "الخلافة" وتقليدها لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي.
وناقش التقرير جذور التنظيم الفكرية واختلافه مع التنظيم الأم "القاعدة" وخروجه عن مسارها بل وقتاله إياها في الساحة السورية ممثلة بـ"جبهة النصرة".
كما يضيف التقرير نبذة عن حياة زعيم التنظيم "أبو بكر البغدادي" ودوره في تشكيل "الدولة" في العراق وانتقالها إلى سوريا.
وفيما يلي نص التقرير كاملا:
لم يدرك أبو أنيس أن هناك شيئا غير معتاد يحدث من حوله إلا حين سمع أصوات انفجارات قادمة من المدينة القديمة على الضفة الغربية من نهر دجلة الذي يجري عبر الموصل.
"هاتفت بعض الأصدقاء هناك، وقالوا إن جماعات مسلحة سيطرت على المدينة، بعضهم أجانب وبعضهم عراقيون. وقال لهم المسلحون، جئنا لنتخلص من الجيش العراقي، ونساعدكم"، هكذا استرجع فني الكمبيوتر أبو أنيس ذكرى ذلك اليوم.
وفي اليوم التالي، عبر المسلحون النهر واستولوا على الجزء المتبقي من المدينة. غير أن عناصر الجيش والشرطة العراقيين، الذين كانوا يفوقون المهاجمين عددا بفارق شاسع، تفرّقوا وفرّوا، وفي مقدمتهم الضباط، بينما خلع الكثير من الجنود ملابسهم العسكرية لينضموا إلى جموع المدنيين المذعورين.
كان هذا هو يوم 10 من آذار/ مارس 2014، في أعقاب سقوط ثاني أكبر مدينة عراقية، ويبلغ عدد سكانها مليوني نسمة، في قبضة مليشيات من الجماعة التي كانت تطلق على نفسها في ذلك الحين اسم "تنظيم الدولة في العراق والشام" (داعش).
وقبل أربعة أيام من ذلك اليوم، تدفقت الرايات السوداء في اتجاه المدينة، وعبر بضع مئات من عناصر التنظيم الحد الصحراوي في موكب انطلق من قواعد التنظيم شرقي سوريا، ولم يلق سوى مقاومة محدودة في طريقه للفوز بجائزته الكبرى.
وكانت الغنائم الوفيرة في انتظارهم. فقد قام الجيش العراقي، الذي أعاد الأمريكيون بنائه وتدريبه وتجهيزه بالعتاد بعد غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة عام 2003، بالتخلي عن عدد كبير من المدرعات والأسلحة المتقدمة حيث استحوذت عليها المليشيات على الفور. كما قيل أنهم نهبوا نحو 500 مليون دولار من فرع البنك المركزي في الموصل.
تنظيم الدولة: يستميت ليبقى ثريا
قال أبو أنيس: "في البداية، تصرفوا بشكل جيد. فقد أزالوا جميع المتاريس التي وضعها الجيش بين الأحياء. وقد راق ذلك للناس. وكانوا ودودين ومتعاونين عند نقاط التفتيش، فكانوا يقولون: إذا احتجتم أي شيء، نحن هنا من أجلكم".
لكن بعد أسابيع قليلة، لم تكد تمر أيام حتى حدثت أمور مروّعة بالفعل فيما بدا كأنه كان شهر عسل وانتهى.
فمع انهيار الجيش في المنطقة الشمالية بأكملها، تحركت الميليشيات بسرعة عبر وادي دجلة، وتساقطت البلدات والقرى واحدة تلو الأخرى، كما تتساقط القناني. ولم يكد يمر يوم حتى استولى مسلحو التنظيم على بلدة بيجي بما في ذلك المعمل الضخم لتكرير النفط بها، ثم سرعان ما استولوا أيضا على بلدة تكريت القديمة، مسقط رأس صدام حسين، ومعقل السنة.
وعلى أطراف تكريت، توجد قاعدة عسكرية كبيرة، سيطر عليها الأمريكيون منذ 2003، وتغير اسمها إلى معسكر سبايكر، نسبة إلى أول قتيل أمريكي في حرب الخليج الثانية "عاصفة الصحراء"، وهو طيار يُدعى سكوت سبايكر، أسقطت طائرته عام 1991 على منطقة الأنبار في الغرب.
ثم حاصرت ميليشيات تنظيم الدولة ذلك المعسكر، وهو يعجّ بالمجندين العراقيين، واستسلم المعسكر بأكمله. وقد صُنف آلاف الأسرى بحسب انتماءاتهم، فالشيعة منهم أخِذوا وقيدوا ونُقلوا في شاحنات بعيدا ليطلقوا النار عليهم في خنادق معدة مسبقا. ويُعتقد أن قرابة 1.700 شخص قتلوا في هذه المذبحة بدم بارد. ولا تزال عمليات البحث عن المقابر الجماعية مستمرة.
وبدلا من أن يخفي التنظيم جرائمه الوحشية، تلذّذ بعرض مقاطع فيديو وصور على الإنترنت تظهر عناصره المتشحون بالسواد وهم يقتادون السجناء الشيعة ويطلقون عليهم الرصاص.
أما من حيث الزهو والابتهاج بالقسوة والأعمال الوحشية، فإن ما حدث بعد ذلك كان أكثر بشاعة.
فبعد توقف دام شهرين فقط، أطل داعش الذي بات يعرف بتنظيم "الدولة"، برأسه مرة أخرى ليستحوذ على مساحات كبيرة شمالي العراق التي يقطنها الأكراد.
وكانت مدينة سنجار ذات الأغلبية الإيزيدية، هذه الأقلية الدينية التي يعدُّها التنظيم مجموعة من الزنادقة، من بين تلك المناطق.
فقتل المئات من الإيزيديين الذين لم يتمكنوا من الفرار. أما النساء والأطفال، ففصلوا عن بعضهم البعض ثم أخذوا سبايا حرب، إلى حين بيعهم أو مقايضتهم كسلع منقولة، واستخدمت الفتيات والنساء جواري للمتعة الجنسية. ولا يزال الآلاف مفقودين، يواجهون هذا المصير.
ووصل تعطش التنظيم، الذي يتعمد أن يكون صادما، لسفك الدماء أوجه بنهاية الشهر نفسه، في آب/ أغسطس 2014.
فقد بث التنظيم مقطع فيديو يظهر فيه قاطع الرؤوس سيء الصيت محمد اموازي، ذو اللكنة اللندنية، والذي لُقب على سبيل التندر باسم "الجهادي جون"، وهو يقتل الصحفي الأمريكي جيمس فولي بطريقة تقشعر لها الأبدان.
وفي الأسابيع اللاحقة، ظهر المزيد من الصحفيين وموظفي الإغاثة الأمريكيين والبريطانيين، منهم ستيفن سوتلوف، وديفيد هينز وألان هينينج وبيتر كاسيغ (الذي كان قد أشهر إسلامه وغير اسمه إلى عبد الرحمن) وهم يُذبحون في مقاطع فيديو مشابهة متقنة الإنتاج والإخراج، لم تخل من البيانات الترويجية للتنظيم والتحذيرات المروّعة.
وفي غضون شهور، شقّ تنظيم الدولة، الذي لم يكن سوى جماعة مغمورة، طريقه نحو العالمية، متبنيا تفجيرات هنا وهناك، وبين عشية وضحاها، أصبح محط أنظار العالم.
وعلى مسافة سبعة آلاف ونصف ميل، ما يعادل 12 ألف كيلومتر من المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، لخّص توني أبوت، رئيس الوزراء الأسترالي آنذاك، هذا الرعب الجديد الذي يندى له الجبين، متحدثا عن التنظيم: "همجية القرون الوسطى، اقترفت الجرائم وازدادت توسعا مستعينة بأحدث الوسائل التكنولوجية".
فقد برز تنظيم الدولة، لافتا نظر العالم إليه. ولكن هؤلاء الرجال المتشحين بالسواد لم يأتوا دون سابق إنذار. فقد كانوا يُعدّون لذلك منذ وقت طويل.
لاهوت القتل
تمتد الجذور الدينية أو الإيديولوجية لتنظيم الدولة وما يشابهها من جماعات عبر التاريخ منذ بداية ظهور الإسلام تقريبا في القرن السابع الميلادي.
فقد نزل الإسلام، كالمسيحية من قبله بستة قرون، واليهودية قبل ثمانية قرون، في منطقة الشرق الأوسط بطبيعتها القبليّة القاسية.
وكتب ويليام بولك المؤرخ والناشر: "انعكست المجتمعات القبلية البدائية اليهودية والعربية في النصوص الأصلية، أي العهد القديم والقرآن، فلا اليهودية المبكرة ولا الإسلام يسمحان بالردة. فكل منهما يعتبر ثيوقراطية استبدادية".
<iframe width="400" height="500" frameborder="0" src="http://www.bbc.com/…/160427_islamic_state_group_full_…/embed"></iframe>
وتابع "فقد كانت القوانين، المنصوص عليها في العهد القديم، تهدف إلى حفظ التماسك القبلي والسلطة وتعضيدهما، أما نصوص القرآن، فكانت تهدف إلى اجتثاث ما تبقى من الوثنية وما يصاحبها من ممارسات".
ومع مرور الأعوام، انتشر الإسلام في مناطق شاسعة، مواجها ومتوائما مع مجتمعات وديانات وثقافات مغايرة. فلم يجد مفرا من التغير، من حيث الممارسات، بطرق شتى، ليصبح أكثر برغماتية وتسامحا تارة، وفي أحيان كثيرة كان يوضع في المنزلة الثانية بعد متطلبات السلطة والسياسة والحكام المؤقتين تارة أخرى.
أما بالنسبة للمسلم التقليدي المتشدد، ترقى تلك الممارسات إلى الانحراف عن الطريق المستقيم، ومنذ سنين طويلة، وقع تضارب في الأفكار، ولكن أولئك الذين نادوا بالعودة بصرامة إلى "نقاء" الأيام الأولى للإسلام، لطالما دفعوا الثمن.
فقد سُجن العالم البارز أحمد بن حنبل (780 إلى 855)، الذي أسس أحد المذاهب السنية الأربعة في الفقه الإسلامي، وضُرب بالسوط ذات مرة حتى سقط مغشيا عليه في أحد الخلافات مع الخليفة العباسي في بغداد. وبعد قرابة خمسة قرون، قضى أحد كبار الأئمة من نفس المذهب الأصولي الصارم، الإمام ابن تيمية، حتفه في السجن في دمشق.
وهذان الشيخان يعدان الأبوين الروحيين لمن جاء بعدهم من مفكرين وما ظهرت من حركات، عرفت لاحقا باسم "المذهب السلفي"، الذي يدعو إلى العودة إلى منهاج السلف الصالح.
وقد أثرا في شخص آخر جاء من بعدهم، كان لتفكيره وكتاباته وقع هائل ومستمر على المنطقة وعلى الحركة السلفية، ومن أحد أشكالها، الوهابية، التي سُميت على اسم هذا الرجل.
وُلد محمد بن عبد الوهاب عام 1703 في قرية صغيرة في منطقة نجد، في قلب شبه الجزيرة العربية.
اتخذ عبد الوهاب، وهو عالم إسلامي ورّع، الاتجاه الأكثر تزمتا وصرامة من ما كان يرى أنها العقيدة الأصلية، وطورها، وسعى إلى نشرها بإبرام مواثيق مع أصحاب السلطة السياسية والعسكرية.
وفي أولى محاولاته في هذا الاتجاه، كان أول إجراء اتخذه هدم ضريح زيد بن الخطاب، أحد صحابة النبي محمد، متذرعا بأن العقيدة السلفية التي تدعو إلى الزهد والتقشف، تقضي بأن تعظيم القباب شرك بالله، لما فيه من تقديس لشيء أو شخص ما غير الله.
ولكن في 1744، دخل عبد الوهاب في تحالف حاسم مع الحاكم المحلي محمد بن سعود في صورة ميثاق جعل الدعوة الوهابية هي البعد الديني أو الفكري للتوسع السياسي والعسكري السعودي، وكان ذلك لمصلحة الطرفين.
وقد انتشر هذا التحالف الثنائي، الذي طرأت عليه تعديلات عديدة، ليشمل جلّ شبه الجزيرة العربية، ومازال مستمرا إلى يومنا هذا، يحكم بمقتضاه آل سعود بالتوافق مع المؤسسة الدينية الوهابية المتشددة، وإن كان هذا التوافق قد مر ببعض الفترات الصعبة.
وقد وفر كل من تأصّل السلفية الوهابية في المملكة العربية السعودية، جنبا إلى جنب مع المليارات من البترودولارات (عوائد النفط المدفوعة بالدولار)، التي وضعت تحت تصرفها، بيئة خصبة لنمو العنف الجهادي في المنطقة في العصر الحديث. والجهاد يعني النضال في سبيل الله، وهو ما قد يشمل صورا كثيرة من جهاد النفس، ولكنه يُفسر في الغالب كدعوة لشن حرب مقدسة.
منهج سيد قطب مصدر الفكر السلفي المتشدد
ولكنّ ثمة رجلا ينسب إليه دوما الفضل تارة لاستحضار الفكر السلفي إلى القرن العشرين وينحى عليه باللائمة تارة أخرى، وهو المفكر المصري سيد قطب. فقد عمل قطب على توفير جسر بين فكر عبد الوهاب وأسلافه وبين جيل جديد من الجهاديين، ممهدا السبيل لظهور تنظيم القاعدة وكل ما تلاها فيما بعد.
وُلد سيد قطب في قرية صغيرة في صعيد مصر عام 1906، لكنه كان رافضا للطريقة التي يُدرّس بها الإسلام ويمارس آنذاك. ولم تغيّر فترة دراسته في الولايات المتحدة التي استمرت عامين في أواخر أربعينيات القرن العشرين، من نظرته للغرب قطّ، بل على العكس زادته امتعاضا من المجتمع الذي أصدر عليه حكما بأنه مادي وكافر ومنغمس في الملذات، وهو ما انعكس على نظرته الإسلامية الأصولية التي بدأت في اتخاذ شكل أكثر صرامة.
وحين عاد إلى مصر، اكتملت لديه وجهة نظر مفادها أن الغرب يعمل على بسط نفوذه في المنطقة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بعد انهيار الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى بمشاركة حكام في المنطقة يزعمون أنهم مسلمون، ولكنهم في الحقيقة قد انحرفوا عن الطريق الصحيح انحرافا بينا ولم يعد من الممكن اعتبارهم في عداد المسلمين.
ومن وجهة نظر قطب، فالجهاد ضد الغرب وعملائه في المنطقة هو السبيل الوحيد الذي سيستعيد العالم الإسلامي نفسه من خلاله. وكان ذلك في جوهره، نوعا من القبول لفكرة التكفير، التي لا تسوغ قتل مسلم فحسب، بل تجعل قتله فرضا يثاب فاعله.
وعلى الرغم من أن قطب كان منظّرا ومفكرا أكثر من كونه جهاديا نشطا، إلا أن السلطات المصرية حاكمت سيد قطب بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، وقد أُعدِم عام 1966 بعد إدانته بتهم التآمر مع جماعة الإخوان المسلمين لاغتيال الرئيس جمال عبد الناصر.
لكن قطب كان سابقا لعصره، وقد خُلدت أفكاره في 24 كتابا قرأها عشرات الملايين، ونقلها إلى غيره من خلال تواصله الشخصي مع معارفه من الناس، كان من بينهم أيمن الظواهري، مصري آخر، وهو القائد الحالي لتنظيم القاعدة.
وقال صديق مقرّب من مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن: "كان قطب هو الأكثر تأثيرا في جيلنا". كما وُصف بأنه: "مصدر الفكر الجهادي"، و"فيلسوف الثورة الإسلامية".
لجنة التحقيق وجدت أن بن لادن وافق سيد قطب رأيه المتشدد والتبرير لاستخدام العنف
وبعد مُضي 35 عاما على إعدامه، خلُص تقرير اللجنة الرسمية المكلفة بالتحقيق في هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001 التي تبنتها القاعدة، إلى أن "بن لادن يشارك سيد قطب في رأيه المتشدّد، الذي يجيز له ولأتباعه تبرير القتل الجماعي على إنه دفاع شرعي عن عقيدة تواجه حربا".
وما فتئ تأثيره باقيا حتى اليوم. وقال هشام الهاشمي الخبير العراقي في الحركات الإسلامية، موجزا جذور تنظيم الدولة وغيره من التنظيمات التي سبقته: "إنهم يستندون إلى أمرين: عقيدة تكفيرية يستمدونها من كتابات محمد بن عبد الوهاب، ومنهجيا، الطريق الذي رسمه سيد قطب".
إذن، فقه الجهاد المسلح اتخذ طريقه، لكن لم ينقصه سوى شيئين ليخرج إلى النور، ألا وهما ساحة القتال وخبراء استراتيجيون لتحديد شكل المعركة.
ووفرت أفغانستان المكان المناسب لكليهما.
بزوغ نجم القاعدة
القوات السوفيتية في أفغانستان عام 1980
كان الغزو السوفيتي عام 1979 وما تلاه من احتلال دام 10 أعوام، عاملا جاذبا استقطب المنضمين إلى صفوف المجاهدين من شتى أنحاء العالم العربي. إذ توافد نحو 35 ألف منهم على أفغانستان في هذه الفترة، من أجل الجهاد ومساندة الميليشيات المسلحة المسلمة في تحويل ساحة المعركة أمام الروس إلى فيتنام جديدة.
لا يوجد دليل قوي على أن من عرفوا فيما بعد بـ"العرب الأفغان" لعبوا دورا قتاليا محوريا في إخراج السوفييت من أفغانستان. ولكنهم ساهموا مساهمة كبيرة في إقامة شبكات داعمة في باكستان، للاستفادة من الأموال القادمة من المملكة العربية السعودية وغيرها من المانحين لتمويل المدارس ومعسكرات تدريب المسلحين. وكانت تلك فرصة سانحة لتكوين شبكات وإقامة علاقات متينة فضلا عن خوض تجربة الجهاد وجها لوجه.
والعجيب أن المجاهدين في أفغانستان وجدوا أنفسهم يحاربون جنبا إلى جنب مع الأمريكيين. فقد وجهت المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي أيه) من خلال برنامج "عملية سايكلون" مئات الملايين من الدولارات عبر باكستان إلى زعماء المجاهدين الأفغان مثل قلب الدين حكمتيار، الذي كانت تربطه علاقة وثيقة بالمجاهدين العرب.
وفي الحقيقة، جميع الوجوه البارزة في عالم المجاهدين الجدد خاضوا تجربة القتال على أرض الواقع للمرة الأولى في أفغانستان. وقد ساهموا في توجيه مسار الأحداث هناك في أعقاب انسحاب الجيش السوفيتي عام 1989، وهي الفترة التي شهدت بزوغ تنظيم القاعدة كأداة للجهاد العالمي واسع النطاق، ووفرت أفغانستان قاعدة له.
ولما تسلمت حركة طالبان زمام الأمور في 1996، كانت في شراكة بالفعل مع أسامة بن لادن ورجاله، ومن أفغانستان شنّت القاعدة هجماتها في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001.
وقد وفرّت هذه التجربة الأفغانية، التي كانت بمثابة مرحلة التكوين، زعماء جهاديين سلفيين اشتدّ ساعدهم في القتال، وخبراء استراتيجيين لعبوا فيما بعد دورا ناجعا في بزوغ تنظيم الدولة الآن.
وكان أبرز هؤلاء الأردني المتشدد أبو مصعب الزرقاوي، الذي انتهى به المطاف ليصبح الزعيم الروحي المباشر لتنظيم الدولة أكثر من أي شخص آخر.
أبو مصعب الزرقاوي
فقد قضى الزرقاوي، الذي لم يكمل دراسته الثانوية، عقوبة السجن للمرة الأولى عندما حُكِم عليه في جرائم ذات صلة بالجنس والمخدرات، ثم اتجه إلى التدّين بعدما أُرسِل لحضور دروس في مسجد في العاصمة الأردنية عمّان. وقد تزامن وصوله إلى باكستان للانضمام إلى صفوف المجاهدين في أفغانستان مع انسحاب الجيش السوفيتي سنة 1989، ولكنه ظل باقيا هناك في صفوف المجاهدين.
وبعدما عاد إلى الأردن، صدر عليه حكما بالسجن 15 عاما بتهم المشاركة في أعمال إرهابية، قبل أن يطلق سراحه بموجب عفو عام. وأخيرا التقى الزرقاوي بن لادن ونائبه أيمن الظواهري عام 1999.
ولكنّ كل الروايات تشير إلى أن زعيمي القاعدة، لم يرق لهما الزرقاوي على الإطلاق. فقد بدا لهما فظّا ومتصلب الرأي، كما لم تعجبهم الوشوم المرسومة على جسده من حياته السابقة والتي لم يتمكن من إزالتها.
بيد أنه كان قادرا على التأثير على الآخرين وكان نشطا، وعلى الرغم من أنه لم ينضم إلى تنظيم القاعدة، إلا أنهم أوكلوا إليه في نهاية الأمر مسؤولية معسكر تدريب في هيرات، غربي أفغانستان.
وهناك عمل جنبا إلى جنب مع مُنظِّر آخر أضحت كتاباته المتشددّة بمثابة مرجع مقدس بموجبه تراق الدماء، وهو أبو عبد الله المهاجر.
كتب المهاجر في كتابه، "مسائل من فقه الجهاد"، الذي يشار إليه بوجه عام باسم "فقه الدماء" إن "قطع الرؤوس بوحشية أمر مقصود بل محبب إلى الله ورسوله". وتوفر كتاباته الغطاء الشرعي الذي يسوغ جلّ التجاوزات الوحشية فضلا عن قتل الشيعة، بوصفهم كفارا، ومواليهم من السنّة، باعتبارهم مرتدين.
والكتاب الآخر الذي ينظر إليه بأنه كتيب إرشادات تنظيم الدولة ومن سبقه من التنظيمات، وربما بمنزلة كتاب "كفاحي"، الذي ألفه هتلر، بالنسبة إلى النازيين، هو كتاب "إدارة التوحش" لأبي بكر ناجي، الذي ظهر على الإنترنت في 2004.
وكتب فيه ناجي: "نحتاج إلى القتل ونحتاج لأن نفعل كما حدث مع بنى قريظة، فلابد من اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب"، في إشارة إلى قبيلة يهودية كانت تعيش في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع.
كانت إجازة ناجي للتوحش المثالي جزءا من استراتيجية أوسع نطاقا لتمهيد الطريق أمام قيام خلافة إسلامية. فيقدم في كتابه، الذي يقوم جزء منه على الدروس المستفادة أفغانستان، مخططا تفصيليا لكيفية استفزاز الغرب حتى يتدخلوا عسكريا وهذا سيحرّض المسلمين ليحتشدوا للجهاد، مما سيؤدي إلى السقوط الحتمي للعدو.
كتاب "إدارة التوحش" - مؤلفه أبو بكر ناجي
وهذا المخطط المحتمل ليس محضّ حيال، لو أخذت في الاعتبار أن الاتحاد السوفيتي انهار بعد عامين فقط من انسحابه من أفغانستان.
وقيل أن ناجي قُتل في غارة شنتها طائرة من دون طيار على إقليم وزيرستان الباكستاني عام 2008.
إخفاق العراق المُطبق
في عام 2001، تغيرت أوضاع الجهاديين تغيرا جذريا عقب هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر على الولايات المتحدة التي قصفت وحلفاؤها أفغانستان واجتاحت أراضيها، لاستئصال حركة طالبان منها، كما شنّت "حربا على الإرهاب" أوسع نطاقا ضد تنظيم القاعدة.
وقد اختبأ بن لادن في الأنفاق، أما الزرقاوي وغيره فقد فرّوا هاربين، وقد ألهّب ذلك حماس المليشيات المتفرقة، الذين احتاجوا بشدة إلى ساحة أخرى للقتال ليستفزوا فيها أعداءهم الغربيين ويواجهونهم.
وكان الحظ حليفهم، فلم يمر وقت طويل حتى منحهم الأمريكيون وحلفاؤهم هذه الفرصة.
فقد اتضح أن غزوهم للعراق في ربيع عام 2003، لم يكن مبررا على الإطلاق من حيث الدوافع التي اختاروها، فقد تبين أن إنتاج صدام حسين المزعوم لأسلحة الدمار الشامل ودعمه المفترض للإرهاب الدولي لم يكن لهما أي أساس من الصحة.
وبتفكيك كل بنى الدولة والأمن وتسريح آلاف الجنود والمسؤولين السّنة، أوجدوا الدولة "الوحشية" بحذافيرها، أو الفوضى العنيفة، التي تصورها أبو بكر ناجي ليعيش المجاهدون في كنفها.
غزو العراق في عام 2003
كان العراق في طريقه إلى أن يصبح ما يطلق عليه المسؤولون الأمريكيون اليوم "الورم الرئيسي" الذي سينتشر منه تنظيم الدولة في المنطقة.
كان السّنة، في ظل نظام حزب البعث الذي كان يقوده صدام حسين بقبضة من حديد، يحتلون مكان الصدارة في العراق عن الأغلبية الشيعة، الذين تربطهم روابط وثيقة بمعتنقي المذهب الشيعي عبر الحدود الإيرانية.
وقد جرّد التدخل العسكري بقيادة الولايات المتحدة السّنة من مزاياهم، مثيرا بذلك سخطا عارما وموفرا التربة الخصبة ليضرب الجهاديون السلفيون جذورهم فيها.
وسرعان ما تمكنوا من تمييز مناصريهم. ثم انتقل أبو مصعب الزرقاوي إلى هناك، وفي غضون شهور نظّم هجمات استفزازية طاحنة ووحشية موجهة نحو أهداف غربية والأغلبية الشيعة.
ودخل الزرقاوي، الذي أنشأ جماعة جديدة سميت باسم جماعة "التوحيد والجهاد" في تحالف وثيق مع خلايا سرية من بقايا نظام صدام حسين، ليجتمع ركنا التمرد السني معا تحت لواء: الجهاد المسلح والقومية العراقية السنية.
تفجير مقر الأمم المتحدة الذي أسفر عن مقتل الموفد الأممي دي ميلو و20 من الموظفين
وأعلنت جماعته مسؤوليتها عن هجمات عنيفة في آب/ أغسطس عام 2003، مهّدت الطريق للكثير من الهجمات أبرزها: تفجير انتحاري بشاحنة مفخخة بمقر الأمم المتحدة في بغداد أسفر عن مقتل موفد الأمين العام للأمم المتحدة سيرجيو فييرا دي ميلو و20 من الموظفين، وتفجير انتحاري بسيارة مفخخة في النجف أسفر عن مقتل آية الله محمد باقر الحكيم، الزعيم الشيعي البارز، و80 من أنصاره.
وفي حين كان منفذو الهجمات من الجهاديين، قيل أن الدعم اللوجيستي قدمه البعثيون الذين اختبأوا وتواروا عن الأنظار.
وفي العالم التالي، اعتقدت وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) أن الزرقاوي نفسه كان القاتل المقنع الذي ظهر في مقطع فيديو لذبح الرهينة الأمريكي، نيكولاس بيرغ، ردا على الانتهاكات التي مارسها جنود أمريكيون ضد المحتجزين العراقيين في سجن أبو غريب.
ومع احتدام المعركة ضد الأمريكيين والحكومة العراقية الجديدة التي يهيمن عليها الشيعة، أدى الزرقاوي يمين الطاعة لبن لادن وأضحت جماعته الجناح الرسمي لتنظيم القاعدة في العراق.
ولكن في حقيقة الأمر، لم يكن الرجلان على وفاق. فإن هجمات الزرقاوي الاستفزازية على المساجد والأسواق الشيعية، وما نجم عنها من مجازر طائفية، وشغفه بنشر المشاهد الوحشية المروعة على الملأ، كانت تتوافق مع تعاليمه المتشددة الراسخة في ذهنه. ولكنه كان مدعاة لاستنكار قيادة القاعدة، التي تخوّفت من وقع ذلك على الرأي العام في العالم الإسلامي.
بيد أن الزرقاوي لم يبد أي اهتمام. وقد انتقل تشدده العنيف والفجّ إلى تابعيه بعد مقتله في غارة جوية أمريكية في حزيران/ يونيو 2006 في مخبأه شمالي بغداد. وكان من السهل التعرف على جسده بالوشوم التي لم يتمكن قط من إزالتها.
وفي غضون أشهر، ظهر تنظيم أطلق على نفسه اسمه "تنظيم الدولة في العراق" ينضوي تحت لوائه فرع تنظيم القاعدة جنبا إلى جنب مع غيره من الفصائل المسلحة.
ولكن الطريق كان محفوفا بالصعاب. ففي كانون ثان/ يناير 2007 زاد الأمريكيون من عدد قواتهم في العراق إضافة إلى تدريب الجيش العراقي.
كما لجأ الأمريكيون إلى إقناع العشائر السنية في محافظة الأنبار غربي العراق لوقف دعم الجهاديين والانضمام إلى مسعى الحكومة العراقية والتحالف بقيادة الولايات المتحدة لإخماد نشاط المسلحين. وقد انضم إليهم الكثيرون بالفعل، بعد حصولهم على وعود بالحصول على وظائف والسيطرة على أمنهم الخاص.
وحينما قُتل زعيما تنظيمي الدولة في العراق والقاعدة في غارة عراقية أمريكية استهدفت مخبأهما في نيسان/ أبريل 2010، بلغ النشاط المسلح للجماعات المتشددة أدنى مستوياته، وتقهقر إلى مناطق نائية في محافظات تقطنها غالبية سنية في العراق.
وقد خلف زعيمي القاعدة والدولة في العراق، قائد جديد، لم يُعرف عنه آنذاك إلا القليل، هو إبراهيم عواد البدري، وكنيته أبو بكر البغدادي.
وبعد مرور ست سنوات، أعلن البغدادي أنه خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين وقائد الدولة .
السيطرة على الأراضي
أبو بكر البغدادي
إن سيرة البغدادي يكتنفها الغموض والكتمان، حتى أنه لا يمكن الاعتداد سوى بعناصر قليلة للغاية منها على أنها حقائق. ولد البغدادي، بحسب جميع الروايات، بالقرب من مدينة سامرّاء، شمالي بغداد، وكُنّي بـ"البغدادي" ربما لإضفاء الصبغة الوطنية على شخصيته، أما لقب "أبو بكر" فهو تيّمنا باسم أول الخلفاء.
واشتهر البغدادي بأنه ينحدر من قبيلة قريش وربما يكون هذا العامل بالإضافة إلى صغر سنه، ولد عام 1971، سببا في اختياره زعيما للتنظيم.
وتتفق جميع الروايات على أنه كان في بداية حياته، هادئا واسع المعرفة ودارسا متفرغا للعلوم الإسلامية، فقد حصل على درجة الدكتوراه من كلية الدراسات الإسلامية بجامعة بغداد. ويذكر البعض أنه كان خجولا، وانعزاليا إلى حدّ ما، إذ قضى 10 سنوات في غرفة إلى جوار مسجد سنّي صغير غربي بغداد.
ولكن لم يقل عنه أحد قط أنه يتمتع "بالكاريزما".
من هو زعيم تنظيم الدولة؟
ولكن يبدو أنه كان عضوا في جماعة سنيّة مسلحة إبان الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، إذ ترأس حينذاك لجنة الشريعة بهذه الجماعة. وقد اعتقلته القوات الأمريكية، وقيل أنه قضى الجزء الأكبر من عام 2004 محتجزا في معسكر "بوكا" في الجنوب.
ضم معسكر بوكا، الذي سُمي على اسم رجل إطفاء لقي حتفه في هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، ما يصل إلى 20 ألف نزيل وأضحى بمثابة جامعة تخرّج منها الكثير من قادة تنظيم الدولة وغيرهم من المسلحين المتشددين. فقد أتاح لهم فرصة لا تعوض لتبني الأيديولوجيات المتشددة وتعلم المهارات التخريبية ونشرها فضلا عن تطوير علاقات وشبكات مهمة من المعارف، وكل ذلك في أمان تام تحت مرأى ومسمع من أعدائهم.
ومما لا شك فيه أن البغدادي قد التقى في معسكر بوكا، الكثير من القادة العسكريين السابقين في حزب البعث، ومع هؤلاء القادة شكّل البغدادي فيما بعد هذه الشراكة المميتة.
لم يثر البغدادي، الذي لم يكن مشهورا آنذاك، أي مخاوف لدى الأمريكان. لذا أطلقوا سراحه بعد أن رأوا أنه لا يمثل أي تهديد أمني كبير.
البغدادي التقى في معسكر بوكا، الكثير من القادة العسكريين السابقين في حزب البعث وآخرين انضموا إليه في مهمته ولكنه ظلّ يتدرج في سلم القيادة للجماعات المتشددة بعيدا عن أعين الشعب.
وحين أمسك البغدادي بزمام الأمر في 2010، اُسدِل الستار على الجهاديين في ميدان "الوحشية" في العراق.
ولكن ميدانا آخر لـ"الوحشية" انفتح أمامهم عبر الحدود في سوريا المجاورة في وقت مناسب. ففي ربيع 2011، وفرّ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا ساحة جديدة واعدة للنزاع والتوسع، حين ثارت الأغلبية السنية على نظام بشار الأسد الاستبدادي، الذي تتولى مقاليد الحكم فيه أقلية علوية.
فقد أرسل البغدادي رجاله إلى هناك، وبحلول كانون أول/ ديسمبر، 2011، شهدت دمشق انفجارات بسيارات مفخخة، تبين فيما بعد أن منفذها هو "جبهة النصرة" التي كانت محاطة بالكتمان والسرية آنذاك ثم أعلنت انتمائها لتنظيم القاعدة في لاحقا، بزعامة الجهادي السوري أبو محمد الجولاني، الذي أرسله البغدادي، إلا أنه كانت لديه أفكاره الخاصة.
وقد حظيت النصرة، التي كانت تزاحم طائفة عريضة من الجماعات المعارضة في سوريا، بدعم كبير على أرض الواقع، لمهاراتها القتالية الفعالة التي تميزت بالجسارة والإقدام، وتدفق الأموال والمقاتلين الأجانب القادمين لدعم الجماعة المنبثقة من القاعدة. وكانت جبهة النصرة تتبنى نهجا سلفيا معتدلا عن غيرها، واستطاعت أن تنمي علاقات محلية.
علم تنظيم "الدولة"
بدأ تنظيم جبهة النصرة يفلت من تحت سيطرة البغدادي، وهذا لم يعجبه. وقد حاول البغدادي في نيسان/ أبريل 2013 استعادة السيطرة عليها، معلنا أن النصرة تحت قيادته في تنظيم الدولة الجديد في العراق والشام، ومنذ ذلك الحين، ظهر "تنظيم الدولة في العراق وسوريا" على الساحة.
أثار ما يسمي بتنظيم الدولة، طيلة الفترة القصيرة المليئة بالاضطرابات التي فرض فيها نفسه على الساحة متصدرا عناوين الأخبار، حيرة العالم نظرا لتغييره اسمه بين الحين والآخر، في انعكاس لتغير تطلعاته. لهذا لا يوجد إجماع عالمي بشأن كيفية الإشارة إلى التنظيم.
ففي أعقاب ظهور تنظيم الدولة في العراق، اقتضى انتشاره في سوريا إضافة كلمة "والشام" إلى اسمه.
وقد يؤثر الكثيرون في الغرب استخدام المختصر "IsIs" "أيسيس" باللغة الإنجليزية، إذ يشير حرف “S” الأخير إلى سوريا أو الشام، إلا أن الإدارة الأمريكية اختارت كلمة "ISIL"، إذ يشير حرف L الأخير إلى الشام باللغة الإنجليزية.
ويشار إلى التنظيم باللغة العربية باسم "داعش"، ويستخدم المصطلح نفسه في بعض الأحيان في اللغة الإنجليزية، وأصبح مصطلحا دارجا تتناقله ألسن الكثيرين من العرب، بيد أن هذا اللقب يبغضه التنظيم نفسه، لأنه يرى أنه يُحقر من شأنه.
فعلى الرغم من أن كلمة داعش ليس لها معنى في اللغة العربية، إلا إنها كلمة ذات وقع منفّر، ولهذا يتعمد الموظفون الرسميون الغربيون والأمريكان استخدامها في الكثير من الأحيان.
وبعد توسع تنظيم الدولة بضم المزيد من الأراضي وزيادة تطلعاته، تخطى التنظيم المساحة الجغرافية وأطلق على نفسه "الدولة". بيد أن الكثير من دول العالم رفضوا الإشارة إليه بهذا الاسم لدواعِ سياسية، خشية أن يضفي عليه صبغة شرعية.
مسلح تابع لتنظيم الدولة في مدينة الرقة في سوريا
وقد قررت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" بشكل عام أن تطلق عليه في أول إشارة في المقال "ما يعرف" أو "ما يسمى" بتنظيم "الدولة الإسلامية"، ثم تنظيم "الدولة الإسلامية" في سائر المقال.
وقد شق الجولاني عصا الطاعة، وجددّ يمين الولاء للقيادة العالمية لتنظيم القاعدة، بزعامة أيمن الظواهري خلفا لبن لادن بعد مقتله في 2011. وقد أمر الظواهري البغدادي بأن يعود مرة أخرى كتنظيم الدولة في العراق ويترك له جبهة النصرة، لتصبح جناح القاعدة في سوريا لتأتمر بأمرها وحدها.
ولكن البغدادي أعرض عن الأوامر الصادرة من المقر الرئيسي.
وقبيل نهاية 2013، احتدم الخلاف بين تنظيم الدولة وجبهة النصرة، وقد قتل المئات في الصدامات العنيفة بين الفريقين، وتمكنت على إثرها جبهة النصرة وحلفاؤها من الفصائل السورية المعارضة في النهاية من إخراج تنظيم الدولة من جلّ أراضي شمال غربي سوريا.
ولكن تنظيم الدولة سيطر على مدينة الرقة، عاصمة محافظة الرقة في الشمال الشرقي، وجعلها عاصمة له. وقد انتقل الكثير من الجهاديين الأجانب الذين كانوا قد يقاتلون في صفوف جبهة النصرة إلى تنظيم الدولة، لأنهم كانوا يرونه أكثر غلظة وتشددا عن النصرة. وفي بداية 2014، تبرأ تنظيم القاعدة من تنظيم الدولة رسميا.
وتحرر تنظيم الدولة من القيود التي كانت تربطه بالجماعة الأم. إلا أنه خسر الكثير من الأراضي، وكان يحاول أن يكظم غيظه. وكاد شعاره الرئيسي، "البقاء والاستمرار".
وقد ابتسم الحظ للتنظيم مرة أخرى، إذ تهيأت الأوضاع تماما للمجاهدين في العراق. فبعد رحيل الأمريكيين، في نهاية 2011، اشتعلت شرارة الثورة في المناطق السنية مرة أخرى، وذكّت جذوتها السياسات الطائفية لرئيس الوزراء الشيعي، نوري المالكي. إذ أحسّ السنّة أنهم مهمشون ومضطهدون.
وعندما قرر تنظيم "الدولة" التحرك، لم تواجهه أي صعوبات لما لاقاه من تأييد. بل في الواقع، لم يترك التنظيم العراق، إنما كان يعمل في الخفاء. وحين اجتاح تنظيم الدولة المدن والقرى السنية بسرعة أثارت الحيرة، في حزيران/ يونيو 2014، خرجت الخلايا النائمة للمجاهدين السلفيين والمسلحين الذين كانوا تابعين لصدام حسين في السابق، وغيرهم من المتعاطفين معهم من مكامنهم وساعدوهم في بسط نفوذهم.
وبعد الاستيلاء على الموصل، بدأ تنظيم الدولة يدخل بسلاسة في مرحلة جديدة. فلم يعد تنظيم الدولة جماعة إرهابية سرية، بل أصبح، على حين غفلة، جيشا جهاديا لا يهددّ الدولة العراقية فحسب، بل يتحدى العالم بأسره.
وتمثلت أهم معالم التغيير الذي طرأ على التنظيم، في إعلان "الدولة" في 29 حزيران/ يونيو، لتحل محل كل الأشكال التي اتخذها التنظيم من قبل، وإقامة "الخلافة". وبعد أيام قليلة، ظهر الخليفة إبراهيم، المعروف باسم أبو بكر البغدادي، ظهورا مفاجئا في الموصل على منبر جامع نور الدين الزنجي التاريخي الكبير، ذي التاريخ الحافل بالنضال ضد الصليبين. ودعا مسلمي العالم إلى الاستنفار والقتال في صفوفه.
وبإعلان التنظيم قيام خلافة واستخدام الاسم الشامل "دولة إسلامية"، فقد بات من الواضح أنه كان يضع نصب عينيه غايات أبعد بكثير من سوريا والعراق. لقد أصبح يرمي لتحقيق أهداف عالمية.
فقد كان لإعلان الخلافة أهمية كبيرة وترددت أصداؤه في العالم الإسلامي. فعلى الرغم من أن الخلافة تظل الغاية الكبرى غير أن بن لادن وغيره من زعماء القاعدة تجنبوها خشية الإخفاق. والآن استغل البغدادي ورقة رابحة ليتفوق على الجماعة الأم، ممهدا الطريق لتنظيم الدولة لينافس القاعدة منافسة الندّ على زعامة الجهاد العالمي.
ومن ثم، فإن تنصيب البغدادي خليفة للدولة يحمل في طياته تطلعا استثنائيا.
ويرى أغلب العلماء والمرجعيات الإسلامية، ناهيك عن الزعماء العرب والمسلمين، أن ادعاءات زعيم هذا الفصيل المتطرف العنيف ليست لا أي شرعية على الإطلاق، وما من سبب ملحّ يستدعي الارتماء في أحضان الخلافة الجديدة. بيد أن وقع الخلافة في وجدان جيل الألفية دغدغ عواطف الحالمين الإسلاميين وبعض الجماعات المتشددة التي تتفق معه فكريا في الخارج.
التنظيم انتهج منجها منظما في تدمير التراث الأثري والثقافي في سوريا والعراق
وبعد أربعة شهور من إعلان الخلافة، كان أول من انضم إلى صفوفها جماعة من المسلحين في ليبيا أعلنت البيعة والولاء للبغدادي، وتلتها بعد شهر واحد جماعة أنصار بيت المقدس الجهادية في شبه جزيرة سيناء في مصر. وتوغلت أذرع تنظيم الدولة في أفريقيا في آذار/ مارس سنة 2015 بإعلان جماعة بوكو حرام في نيجيريا البيعة والولاء. ولم يمرّ عام حتى أصبح لتنظيم "الدولة" أفرع أو أجنحة في 11 دولة، على الرغم من أن الأراضي التي يسيطر عليها لا توجد إلا في خمسة بلدان فحسب، بما فيها العراق وسوريا.
وفي هذين البلدين الرئيسيين، بدأ البغدادي وأتباعه تنفيذ مشروع الدولة على أرض الواقع، بتطبيق نظرته العنيفة للحكم الإسلامي.
وبالنسبة للعالم الخارجي، الذي لا يمكنه الوصول إلى المناطق الخاضعة لتنظيم "الدولة"، فقد أصيب بصدمة وهلع شديدين بسبب الهدم المنظم لمواقع التراث الأثري والثقافي العريقة.
ودُمرت بعض المواقع الأكثر شهرة وإقبالا، منها معبد بل وبعل شمين في مدينة تدمُر بسوريا، ومدينتا الحضر والنمرود الأشوريتان في العراق.
ولم يقتصر الاعتداء على المواقع الأثرية الشهيرة فحسب، بل دُمرت أيضا الكنائس والأديرة القديمة، ومساجد الشيعة وأضرحتهم، وكل ما يجسد صور الأشخاص من أي نوع، وأُزيلت النقوش حتى نقوش المساجد السنية.
ولم يكد يمر شهر على الاستيلاء على الموصل، حتى قامت فرق الهدم بتنظيم الدولة بنسف مرقد الإمام عون الدين، الذي يعود بناؤه إلى القرن الثالث عشر وقد صمد أمام غزو المغول.
وكل هذا يتوافق تماما مع نهج تنظيم الدولة المتشدد في تطبيق الإسلام، فيحرّمون بموجبه التصوير بأنواعه وبناء الأضرحة بدعوى أنها تقديس لغير الله، وكل ما بناه غير المسلمين ما هو إلا آثار وثنية.
وهذا هو نفس النهج المعمول به في السعودية، فيُدفن ملوكها وأمراؤها حتى هذا اليوم في قبور بلا شواهد.
ومما لا شك فيه، أن تنظيم الدولة، بنشره مقاطع فيديو على الإنترنت تظهر قيام مسلحيه بأعمال يراها نظر العالم جرائم تخريب متعمد للتراث الحضاري، كان يقصد ترويع العالم. ومن هذا المنطلق، فهذه الأعمال هي المقابل الثقافي لقطع رؤوس موظفي الإغاثة.
وثمة جانب عملي ومربح لهجوم تنظيم الدولة على الإرث الثقافي، إذ يصدر بيت مال المسلمين التابع لتنظيم الدولة، أُذونات كتابية ورقية لنهب المواقع الأثرية، ويحصل على نسبة من الأرباح.
ولكن ما خفيّ كان أعظم، فقد وضع تنظيم الدولة بنية معقدة للحكم والرقابة، منذ أن وطّد التنظيم أقدامه في الأراضي الخاضعة لسيطرته، مكّنته من اختراق كل جانب من جوانب حياة الناس وبالطريقة ذاتها التي كان تعمل بها أجهزة المخابرات العراقية في عهد صدام حسين.
ويُستدل من الوثائق التي حصل عليها ونشرتها مجلة دير شبيغل الألمانية العام الماضي، على دور بعض أعضاء الحزب البعثي السابقين في إقامة تنظيم الدولة وإداراته على نحو فائق التنظيم والتنسيق، مع منح قدر كبير من الاهتمام للاستخبارات والأمن.
أدرك سكان المناطق السنية، كالموصل والفلوجة في العراق، والرقّة في سوريا، أن عملاء تنظيم الدولة السريين، يعلمون كل صغيرة وكبيرة تقريبا عن كل شخص، منذ أن انتقلوا إلى أراضيهم وسيطروا عليها عام 2014.
وفي نقاط التفتيش، يتحقق مسلحو التنظيم من بطاقات الهوية بقاعدة البيانات المحفوظة على أجهزة الكومبيوتر المحمولة لاب توب التي حصلوا عليها من الهيئات الحكومية أو من سجلات الموظفين.
وكان لزاما على الأعضاء السابقين في قوات الأمن الذهاب إلى مساجد خاصة لإعلان "التوبة"، وتسليم أسلحتهم ثم يتلقوا بعدئذ ورقة تفيد بالعفو عنهم.
وقال أحد سكان الموصل، فرّ من هناك بعد عام واحد: "في البداية، كل ما فعلوه هو أنهم غيروا أئمة المساجد وجاؤوا بأناس يتبنون نفس آرائهم".
وتابع: "ولكنهم أحكموا قبضتهم بعد ذلك، فلم يعد مسموحا للنساء غير المحجبات بالخروج من دون حجاب أولا ثم النقاب لاحقا. كما أمروا الرجال بإطلاق اللحى وارتداء السراويل القصيرة، وحظروا السجائر والنرجيلة والموسيقى والمقاهي، ثم أتبعوا ذلك بقرار يحظر مشاهدة التلفاز واستخدام الهواتف المحمولة. وتجوب مركبات الحسبة (رجال شرطة الآداب) الشوارع بحثا عن مخالفين".
ويسرد أحد سكان الفلوجة وقائع قصة سائق سيارة أجرة أقلّ شابة في منتصف العمر لا ترتدي الحجاب، ثم أوقفتهما إحدى نقاط تفتيش تنظيم الدولة، وأعطوا للفتاة خمارا ثم تركوها تمضي، أما السائق فقد أُرسِل إلى محكمة إسلامية وحُكم عليه بالسجن شهرين وحفظ جزء من القرآن، مع تكرار العقوبة إن لم يكمل حفظه.
وتابع ساكن الفلوجة: "لديهم محاكم بها قضاة وموظفون رسميون وسجلات وملفات، وتوجد عقوبات محددة لكل جريمة من الجرائم، فالأمر لا يدار بعشوائية. فالزناة يُرجمون حتى الموت، والسارقون تُقطع أيديهم، وينفذ حكم الإعدام في المثليين جنسيا بإلقائهم من بنايات عالية. ويُعدم الوشاة رميا بالرصاص، أما السجناء من المليشيات الشيعية فتقطع رؤوسهم".
ويُحكم تنظيم الدولة سيطرته، من خلال إدارات تابعة له، على جميع مناحي الحياة، بما فيها المال، والزراعة والتعليم والنقل والصحة والرعاية الاجتماعية والمرافق.
وعُدِلت المناهج الدراسية تعديلا شاملا لتتماشى مع تعاليم ومعتقدات تنظيم الدولة، إذ أعيد كتابة التاريخ وأُزيلت جميع الصور من الكتب المدرسية، ولم يعد للغة الإنجليزية مكان في المناهج.
قال ساكن الموصل: "الشيء الوحيد الذي يمكنك أن تقوله، هو أنه لا يوجد فساد قطّ، ولا توجد وساطة، فهم على يقين تام من أنهم يسيرون على الطريق الصحيح".
وثمة قصة حديثة تكشف الكثير عن تنظيم الدولة والطرق التي يتّبعها.
حين كانت قوات الأمن العراقية تزحف باتجاه الأراضي المحيطة بالرمادي، في بدايات هذا العام، كان المدنيون يفرّون من المعركة، وكذلك كان مقاتلو تنظيم الدولة يهربون منها بعد هزيمتهم.
هرعت امرأتان، لاذتا بالفرار من ساحة القتال، إلى نقطة التفتيش التابعة للشرطة.
وحين لوّح لهن رجال الشرطة ليعطيهن الأمان، استدارت إحداهن فجأة نحو رجال الشرطة، وأشارت إلى الأخرى قائلة: "هذه ليست امرأة، بل هو أحد أمراء تنظيم الدولة".
وتحرى رجال الشرطة الأمر، واتضح أنها صادقة، فلم تكن المرأة الأخرى سوى رجل، حلق ذقنه، ووضع مساحيق زينة وارتدى زيا نسائيا. وتبين أن هذا الرجل يتصدر قائمة أمراء تنظيم الدولة المطلوبين للعدالة.
وقالت هذه المرأة للشرطة: "عندما وصل تنظيم الدولة، قتل هذا الأمير زوجي، الذي كان شرطيّا، واغتصبني، ثم اتخذني زوجة له. وقد تحمّلت البقاء معه مع طيلة هذا الوقت، حتى أثأر لزوجي ولشرفي. ولذا، استدرجته ليحلّق ذقنه ويضع مساحيق الزينة، ثم أبلغت الشرطة عنه".
بعد أن استولى المسلحون على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية على إثر الهجوم الكاسح الذي شنّه في حزيران/ يونيو 2014، كان من المتوقع أن يهدأوا لتعزيز مكاسبهم.
بيد أن تنظيم الدولة كان كسمك القرش، الذي لو توقف عن الحركة سيموت على الفور، فلم يكد يتوقف حتى بدأ سلسلة جديدة من الأعمال الاستفزازية والانتقامية، كان متوقعا أن تضعه في مواجهة مع القوى العظمى في العالم.
دقّ الهجوم الذي شنه تنظيم الدولة ناقوس الخطر بالفعل خشية الاقتراب من بغداد، مما دفع بالأمريكيين إلى الاستعانة بخبرات مئات المستشارين والمدربين العسكريين لمعرفة كيفية مساعدة الجيش العراقي.
وبعد شهرين فقط، في أعقاب الهجوم الذي شنه تنظيم الدولة على الأراضي الكردية في الشمال، شنّت الولايات المتحدة غارات جوية دفاعا عن العاصمة الكردية أربيل، ثم المساعدة في وقف الإبادة الجماعية للإيزيديين. ث
***
جيم موير / بي بي سي نيوز
+12