مراثي مذبحة دير ياسين..
١١ نيسان (أبريل) ٢٠١١بقلم أوس داوود يعقوب
يصادف يوم التاسع من نيسان (أبريل) من كل عام، ذكرى مذبحة «دير ياسين»، التي كانت فاتحةً للنكبة الفلسطينية، ومدماك الأساس الأول في إقامة «الدولة العبرية».
وتشير المصادر التاريخية إلى أن تاريخ الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة، يبدأ مع الاستعداد اليهودي للهجرة الاستيطانية الأولى، نهايات القرن التاسع عشر، وذلك بسبب مشروعهم الإبادي الإحلالي الاستيطاني، الذي يرمي إلى اغتصاب الأرض وطرد أصحابها.
ولقد حرصت الكتابات التاريخية الصهيونية على تصوير العمليات الإرهابية الصهيونية في النصف الأول من القرن الماضي، باعتبارها نضالاً يهودياً سعى إلى التحرر القومي!
وأذكر أنني قرأت ذات يوم خبراً، في صحيفة «هآرتس العبرية»، تحت عنوان: «لنكتب.. كي لا ننسى: حتى لو لم يكن هناك من يقرأ..؟» مفاده: «أن مؤسسة «يد فشيم» اليهودية في القدس تتلقى وتصدر سنوياً مائتي كتاب مذكرات شخصية ليهود عايشوا – على حد زعمهم- المحرقة/ الكارثة اليهودية»..؟!
والغاية من هذه الكتب بالنسبة لعدونا الصهيوني، توثيق تفاصيل المحرقة المزعومة ومعاناة اليهود...؟!!
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا من يوثق ولمن؟ وماذا يوثق؟
أيوثق الجلاد وهو الذي تقترف يداه أبشع جرائم الإبادة وأعنف الجرائم ضد الإنسانية؟!!
أم توثق الضحية كل ما تتعرض له من إرهاب وتنكيل وقتل واستهداف فردي وذبح جماعي؟ الجواب لا يحتاج إلى كثير من التمحيص والتدقيق، لأنه واضح وضوح الشمس.
فالتوثيق بالكلمة والصورة حقٌ لأبناء شعبنا الفلسطيني، الذي تعرض إلى أبشع العمليات الإرهابية الصهيونية خلال عامي 1947م و1948م، حيث كثَّف الصهاينة جهودهم في هذين العامين لاقتلاع الفلسطينيين، الأمر الذي أدَّى إلى تشريد حوالي 900 ألف فلسطيني إلى خارج أراضيهم ووطنهم. ففي هذه الفترة غلب أسلوب مهاجمة القرى والمدن العربية وارتكاب المذابح الجماعية دون تمييز بين طفل وامرأة وكهل ورجل، أو بين أولئك العُزل وبين من يحملون السلاح دفاعاً عن حقوقهم.
دير ياسين.. القرية والمذبحة
تقع قرية «دير ياسين» على جبل يرتفع عن مستوى سطح البحر (700) متر، وتبعد عن مدينة القدس حوالي ستة كيلو مترات، ويحيط بها كل من مدينة القدس وقرى عين كارم ولفتا وكالونيا. كان عدد سكان القرية في ذلك الوقت (9/4/1948م) لا يتجاوز الستمائة نسمة. وقد شكلت شهادة القائد الشهيد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل حافزاً رئيسياً للعصابات الصهيونية لمهاجمة واحتلال القرية وارتكاب المذبحة، فقد أصيب العديد من شباب القرية في معركة القسطل وكان العديد منهم في المستشفيات وعدد آخر في القدس للمشاركة في جنازة عبد القادر الحسيني، مما شكل فرصة لمباغتة الحماية القليلة في القرية ذات التجهيز والعتاد المحدود.
وقد هدفت العصابات الصهيونية من وراء ارتكاب تلك المذبحة إلى إثارة حالة من الفزع والرعب بين الفلسطينيين في القرى والمدن الأخرى في فلسطين حتى يتم لهم احتلالها بلا قتال، حتى أن أحد زعماء الإرهاب الصهيوني قال: « لولا مذبحة دير ياسين لما قامت دولة) إسرائيل)».
وتفاصيل المذبحة كما وردت في أكثر من مصدر، بدأت بمحاصرة القرية من قبل عصابات الإرهاب الصهيوني («إيتسل، و«الأرجون»، و«ليحي»، و«الهاغناة») من ثلاث نواحي (الشرق والشمال والجنوب)، تحت جنح الظلام ليلة التاسع من نيسان (أبريل) عام1948م، قادمين من المغتصبات الصهيونية («منتفيوري»، و«جفعات» و«شاؤول»، و«بيت هكيرم»)، وبدأوا بقتل الناس في البيوت بالسلاح الأبيض وهم نيام بلا تمييز بين الرجال والنساء والكهول والأطفال. وقد شكلت مذبحة «دير ياسين » بداية انطلاقة التطهير العرقي الذي كان سبيل الصهاينة في إقامة كيانهم الغاصب.
ولقد كانت هذه المذبحة أشهر المذابح التي خلَّفها تاريخ تلك المرحلة، وتبعتها سلسلة مذابح لا تقل أهمية عنها. بينها على سبيل المثال مذابح قرى «حساس»، و«يازور»، و«سعسع»، و«الرملة»، و«بلدة الشيخ». وهي مذابح راح ضحيتها الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني. وتذهب بعض التقديرات إلى أن تلك المذابح قد تسببت في تهجير السكان الفلسطينيين خلال حرب 1948م لحوالي 350 قرية ومدينة بشكل كلي أو جزئي من بين 450 سيطرت عليها العصابات الصهيونية.
ومذبحة «دير ياسين» لم تكن الأكثر بشاعة قياساً بمذبحة «الطنطورة»، حيث دفن مواطنوها أحياء، ولا كان ضحاياها الأكثر عددا قياساً بمذبحة «الدوايمة» التي جاوز شهداؤها 500، إلا أنها تفردت بين المجازر المائة خلال حرب الـ(48) بكونها الأشد تأثيراً كارثياً في الروح المعنوية للشعب العربي الفلسطيني، للزمان والمكان اللذين اقتُرفت فيهما، ولغلبة الانفعال على الموضوعية في الإعلان عنها وترويجه. كما في الدروس المستفادة منها في حاضر ومستقبل الصراع التاريخي المتواصل مع الاستعمار الاستيطاني العنصري الصهيوني ورعاته، الأمر الذي يستدعي التذكير بأمّ المجازر في ذكراها الثالثة والستين.
وفي مقالنا هذا نحاول التذكير وتوثيق هذه الذكرى في عامنا هذا شعرياً، مسلطين الأضواء على ما وقع تحت يديَّ من قصائد نظمها شعراء فلسطينيون وعرباً، هزتهم وحشية العدو الصهيوني، وأرادوا أن يوثقوا الوجع الفلسطيني بكلمات يطل من خلالها ألم كامن في الحروف.. وجعٌ فلسطينيٌ حمله الشعراء معهم في حلهم وترحالهم، بعد أن توالت النكبات وتعمّق الألم والجرح في النفوس بعدما طالت سنين الصراع، وطالت الغربة، وأخذ الألم في ازديادٍ مع كل مذبحة ونكبة ونكسة جديدة؟
توثيق شعري للدم المسفوح:
لعب شعراء فلسطين الأوائل أمثال إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وبرهان الدين العبوشي، وعبد الرحيم محمود.. دوراً وطنياً هاماً ضد سلطات الاحتلال البريطاني، ونبهوا إلى مخاطر الحركة الصهيونية ومشروعها الاحلالي الاستيطاني فوق أرض فلسطين.
ويعد الشاعر محمد العدناني (1903م-1981م) من هؤلاء الشعراء الذين ظهروا في العقد الرابع من القرن الماضي. والعدناني شاعر فذ، أكثر شعره في القضية الفلسطينية ومأساة شعبها، وتعد قصيدته « دير ياسين »، من أوائل القصائد الفلسطينية التي وثقت شعرياً للمذبحة، يقول العدناني:
وما ديرُ ياسينِ سوى قِبلَة المُنى وجامعَةِ الأحقاد في خافقِ العُربِ
سَنُرجِعُها بالحَربِ تصهَرُ نارُها أساطيلَ أمريكا، ومن ضَلَّ في الغربِ
ونجعل إسرائيلَ تصْلى جحيمنا وتَعرفُ أنّا سادَةُ الطَّعنِ والضَّربِ
فمنْ شاءَ يوماَ أنْ يرى الجِنَّ والرَّدى فإن عليهِ أن يَرى العُربّ في الحَربِ
(من ديوان «فلسطين»، 27/4/1948م).
ونقرأ للشاعر لطفي الياسيني، ابن قرية دير ياسين، والذي استشهد سبعون من أفراد عائلته على أيدي العصابات الصهيونية، قصيدة بعنوان: « بكائية على قرية دير ياسين »، يقول فيها:
يا دير ياسين يا جرحاً غدا فينا
رغم المعاناة … مازلنا براكينا
اليوم ذكراك… ذاكرتي لتسعفني
مازلت اذكر …. والأعوام تقصينا
ستون عاما مضى والشوق يحملني
لقريتي الأم….اشتاق الطواحينا
تلك المشاهد مازالت تعاودني
رغما عن الجرح يا أحياء ماضينا
فيها ترعرعت أيام الشباب وما
نسيت يوما حواكيري ….طوابينا
اشتاق للخبز… للأعراس… أذكرها
تلك النواميس رغماً عن تجافينا
أتوق للبيدر الغالي …. لحارتنا
وبئر قريتنا….. موتى أهالينا
أتوق للعشب …. للأزهار … قريتنا
مفتاح منزلنا …. تلك الكواشينا
أتوق للدار …. والأسوار تمنعني
وحارس الدار عند الباب ناسينا
أكاد أوشك أن اطوي الحياة هنا
والعين ترنو لسفح التل تبكينا
مازلت في القدس كم اشتاق رؤيتها
والجرح في القلب ما اقسي تجافينا
يا رب هل لي قبيل الموت الثمها
أضمها نحو صدري لحظة…..حينا
اقبل الأرض والأحجار امسكها
واقطف الورد … اشتم الرياحينا
عاركت أطوار أعوامي بلا أبت
وآلام شيعتها واليتم يضنينا
إني وحيد بهذا الكون وا… أسفي
أصارع الداء … أغلقت الشرايينا
والأهل والناس والأحباب تهجرني
في هدأة الليل لا همس يسلينا
ماذا جنيت لكي أحيا بلا أمل
أوشكت أغلق صفحات الدواوينا
واسلم الروح للمولى ….لبارئها
واهجر الأهل ….لبينا منادينا
ما نحن إلا ضيوف في منازلنا
حان الرحيل فما احلى تلاقينا
مني إليك سلام الله ما بقيت
روحي احبك إيه…. دير ياسينا
وتوثيقاً لهذه المجزرة أيضاً نظم الشاعر الفلسطيني الراحل ذياب ربيع (1922م – 2010م) قصيدة عنوانها: « دير ياسين »، قال فيها:
نامت على صدر الجبل تشكو إليه المحتمل
أن ينثني الأعداء قصفا بالقنابل…..فافتعل
وترجرجت هضباته واشتد ساعده عضل
وهوت صخور من أعاليه تنبّه من غفل
أوحت لها عبر العصور معارك الصيد الأول
فتوزعت في كل منحـدر تـسـّد المدّ خل
وأحسّت العجلات والخطوات تدنو في عجل
وتهيبت لما رأت جيش العداة المكتمل
لكنّها صمدت وما لانت وعاودها الأمل
واستبشرت بالفجر يفضحهم لأحداق الأجل
أين البنادق صو ّبت سقط المعرض وانقتل
لا تخطئن رصاصة هدفا تحـرّك وانتقل
فتراجع الباغون ليلا بالضحايا والفشل
واستجمعوا الجمع الكبير وفاجئوها بالحيل!!
فالراية البيضاء لم ترفع آماناً للدجل
والنصر لا يجنيه منتصر برأي مرتجل
فتصايحت أرواحهم والمستغاث به جفل
غمر الممات عـيـونـه بيديه،خزياً وخجــل
وارتج يأنف من رداءته وينكر ما فعل
وحنا على الأشلاء، يمنحها وترفضه القبل
خنقته رائحة الحياة تسيل في دمع الأزل
فشهيد هذا العصر من بقروه طفلا في الحبل
يا "دير ياسين" التي ضربوك بالغدر المثل
ما زلت فينا لذ ّة الأحقاد ثــأرا مشتعل
ودماك يا أخت العلى قدسية لا تغتسل
فغدا يفجـّرها بـراكينا وينتقم الجبل
لا يلدغن الطود ثانية ويؤخذ بالغيل
ونتوقف أيضاً عند قصيدة للشاعر الفلسطيني عبد الرازق البرغوثي وهي بعنوان: « اليوم ذكرى العرس الأحمر في دير ياسين »، جاء فيها:
قلبي تفطَر والتاريخ يسرد لي
عن قرية أقفرت من أهلها العربِ
وإن سألت بياناً حول موقعها
فإنها عن عيون ( القدس ) لم تغبِ
فيها اليهود أقاموا شر مذبحة
للطفل والشيخ والعذراء، واعجبي!!
يقودهم ( بيغن ) السفاح يرضعهم
حقدا توارثه من أحلك الكتبِ
ساقوا إليها جنودا لا عديد لهم
فحاصروها كمثل العين بالهدبِ
فواجهتهم وما في نفسها أرب
إلا بموت لوجه الله محتسبِ
وما تخلى بنوها عن بنادقهم
حتى نفاد عتاد، عُدْنَ كالخشبِ
فكم شهيد تهاوت بندقيته
هب ابنه نحوها للحرب بعد أب
حتى قضى الإبن جاءت أمه خببا
نحو الشهادة لم تجزع ولم تهبِ
إن قلت: مفخرة، أو قلت: مجزرة،
فقولك الصدق لم تمدح ولم تعبِ
(فدير ياسين) للأهلين مفخرة
إذ جالدوا البغي أُسْدا دونما رهبِ
أما الغزاة ففيها الحق قد وشموا
بوصمة العار لن تمحى مدى الحقب
فقل لمن ينكر الإرهاب مدعيا
بالعدل، يكفي الذي تذروه من كذب
لو كان مرتكبوها من بني عرب
لطوردوا الدهرَ في الصحراء والسحب
وكما خلد شعراء فلسطين الكبار ممن عايشوا النكبة والأحداث الجسام التي مرت بها القضية الفلسطينية، نظم شباب فلسطين من النين أبت ذاكرتهم النسيان، فنقرأ للشاعر الفلسطيني الشاب محمد سيان العرب، قصيدة نظمها في (الذكرى الستين للمذبحة)، بعنوان: « آه يا دير ياسين.. و هل ذهبت دماءكم هدراً.. »، قال فيها:
آه لأنين الألم
لدمعة طفل ترتسم
بدمائه تكتب بوطن
و والده يرتقي للعلى
والدته تغتصب
مشانقنا تنتصب
و أخوته بصبر تبتلى
ذكرى آهات الزمن
لقبوركم بقلبي حنين
فيافا تبكي
و القدس بحرقة تشكي
دماء دير ياسين
فألف آه يا فلسطين
ما أغلى الثمن
و نبكي فرقة الأوطان
لضعاف نفس الإنسان
و غزة تسكنها الأشباح
و بالضفة يغتال الكفاح
ففي الذكرى الستين
أخبروني ماذا بعد
ضاعت بالشتات فلسطين
و سقطت أكاليل الورد
ضمائرنا ما زالت تمتهن
آه لقسوتك يا زمن
وتستوقفنا قصيدة للحاج محمد محمود أسعد رضوان،"أبو محمود" الياسيني (82 سنة)، أحد أبناء قرية « دير ياسين » الناجين من المذبحة، كان قد كتبها في الذكرى الخمسين للمذبحة، والحاج رضوان ليس شاعراً، وإنما جادت قريحته بهذه الكلمات المعبرة، التي توثق مدى عمق الألم الفلسطيني، ومرارة تلك الأيام التي عايشها، جاء في قصيدة الحاج محمد:
حل الغزاة بأرضنا وبلادي
ونعى العروبة ناعيها والحادِ
ذكراك دير ياسين تهز جوارحي
لبيك ولبى نداك فـؤادِ
فتعالت صرخاتك مدوية
صداها هزّ الجبل والوادِ
دير ياسين العزيزة والجميلة أينها
دير ياسين حبها بقلبي يزدادِ
رحلنا عنك وفي نفوسنا حزناً
راح العجوز منا والطفل ينادِ
رحلنا عنك والجريح يخوض بدمه
فوق الثرى متألما وينادِ
الله أكبر راح الشهيد منا غدراً
برصاصٍ حاقدٍ ماكرٍ صيّادِ
الله أكبر قد تهدم بنياناً عالياً
شامخاً يطل على كل وادِ
الله أكبر يوم التاسع من نيسان
سجله يا تاريخ عندك يوم سوادِ
سجل يا تاريخ أنها لمجزرة
لم يشهد التاريخ مثلها في البلادِ
دير ياسين الباسلة بجحافلها
تصدت بشجاعة للغزاة الأوغادِ
دير ياسين بقممها الشمـاء
محاطة من كل جانب وادِ
خاضت جحافلها معركة شرسة
شيب الجنين منها قبل الميلادِ
أسفي على شعب تمزق شمله
غدا غريباً عن الأوطان شرادِ
يا شعب مالك حائر مستسلم
الجو بارد والغمام سوادِ
دير ياسين صبراً إذا ما عدناك يوماً
غداً ستعودي على أيادي الأحفادِ
فلسطين بقدسها وأقصاها تنادي
أين صلاح الدين لهم بالمرصادِ
ربنا انصرنا على أعدائنا
كرامةً لنبيك المصطفى الهادِ
حتى نعيدها من الغزاة قهراً
ويوم النصر عندنا أعيادِ
اختم قصيدي هذا بالصلاة على
محمدٍ وموسى وعيسى أهل الرشـادِ
صوت من الجزائر:
لم تكن مذبحة « دير ياسين » جرحاً فلسطينياً فقط، وإنما هي جرح عربي وعالمي وإنساني نازف، لذلك كتب الكثير من شعراء أمتنا العربية، وشعراء عالميون من مختلف الجنسيات والأقوام والأعراق والأديان، الكثير من القصائد حول فلسطين أرضاً وشعباً وقضية وجراحاً وآلام. وقد خص الشاعر الجزائري عبد الرحمن الزناقي، مذبحة « دير ياسين » بقصيدة عنوانها: « دير ياسين بعد المذبحة »، قال فيها:
وعبرنا كلَّ أسلاكٍ رهيبة
وزحفنا فوق ربْوات حبيبة
فرأينا أرضنا تلبس فستان العذوبة.
ومشينا فوق أنظار الوحوش التترية.
وبعثنا للسهول الشاعرية
نفح قُبلات بها ألفُ تحيه.
ووضعنا ألف كف عربيه
ولمسنا التربه السمراء بالأيدي القوية
فشعرنا أنها روح إله الخير في أرض زكية.
قد أتينا من بعيد في العشية،
علَّنا ندفن موتانا ونرمي بالزنود اليعرُبية
من غدوا في أرضنا السمراء مليون بلية.
قد حملنا معنا الأكفان والماء الطهورا
ونعوشاً لونها يطلق نورا
كل من فروا من القرية لما لبست ألفَ ضحية
أخبرونا أن جُند الغدر في تلك العشية
بتروا الأعضاء للناس بفن ورويه
عذبوهم.. قطعوا أشلاءهم
ثم رَمَوْهُم بين أظفار المنية
بعد جهد قد وصلنا
فوجدنا شهداء القرية السمراء يبنون دياراً من فَخَارْ
ودخلنا بغتةً أجمل دار
فإذا فيها الأواني من نضار،
والوسادات البهية،
والكراسي الشاعرية،
والستور المخملية،
والزرابي فوقها تبدو رسوم فارسية
ثم من بعدُ خرجنا.
فوجدنا دير ياسين بها أبهى مُصلى وكنيسه.
قد حضرنا حفلة فيها عريس باسم وهْو يرى خزراً عروسه.
قد رأينا عمنا أحمد يسقي حقله الكائن في أقصى الشمال.
حذوَه قطته البيضاء تمشي باختيال.
قد دخلنا السوق والأعين فيها كل أطياف انبهار.
فوجدناه مليئاً باخضرار واحمرار واصفرار
وازدحام نحو حُوتٍ صاده الصياد في نفس النهار
فهمسنا إنهم يمشون في غير القيامة
إنهم أحياء في أرض بها تعلو الكرامة
ثم سلّمنا عليهم
فأتت كل الجموع.
وتنادت أقبلوا مثل سنونو في الربيع
قد أتوا من حيث لا ندري،
وليلاً أوقدوا في القرية السمراء آلاف الشموع.
ثم قالوا:
أين كنتم؟
قد بحثنا عنكمُ يا قوم في كل الربوع
منذ أن غبتم ونار الحزن تسري في الضلوع.
أخبرونا عن جمال ووليد،
عن زياد عن ثريا عن سعيد،
عن أبي حسان ذي الرأي السديد،
عن أبي غسان ذي الرأي العنود
إننا في الحُلم لا نشهد إلا ظلَّكم يمشي على درب الرجوع.
بعد عام.. بعد قرن سوف نجثو حذوكم
نشرب شَرْبات الرجوع.
ففرحنا وأكلنا التمر في صحن بديع
وانطلقنا.
ثم إنا قد حرقنا ألف نعش.
ثم سرنا
نخبر الثوار في كل البرية،
إننا في دير ياسين وجدنا
شعبنا الثائر من أجل القضية
يرقب الرجعة في كل صباح وعشيه.