لماذا تعاطف الشارع العربي مع قاتل السفير الروسي؟
د. مثنى عبدالله
Jan 03, 2017
في التاسع عشر من ديسمبر الماضي، أطلق ضابط الشرطة التركي مولود الطنطاش من مسدسه ثماني إطلاقات استقرت في جسد السفير التركي في أنقره أندريه كارلوف، الذي كان يلقي كلمة في معرض فني يقام في المدينة، بعنوان روسيا في عيون الاتراك، فأرداه قتيلا في المكان.
مباشرة وفور إعلان الخبر ضج الفضاء التدويني العربي في مواقع التواصل الاجتماعي، بالتعليقات المتعاطفة مع الشاب التركي والمترحمة عليه، بعد أن قُتل هو الآخر من قِبل قوات الأمن، التي هرعت إلى مكان الحادث، بل إن البعض أطلق عليه صفة الشهيد، مشيدين بشجاعته التي ترقى إلى مستوى البطولة. وبغض النظر عن إن كان هذا التعاطف ظاهرة صحيحة أم خاطئة، فإننا هنا معنيين في البحث في جذور هذه الظاهرة، والأسباب الدافعة للتعاطف اللامحدود الذي رأيناه، وليس التحليل السياسي لأسباب الحادث ودلالالته.
إن للحدث بعدين مهمين أثرا بشكل مباشر على الموقف الذي اتخذه الكثير من المدونيين واستدر عواطفهم. أولا البعد المكاني، حيث وقع الفعل على الأراضي التركية، التي لن تغيب صفتها الإسلامية عن ذاكرة الكثير من المدونيين، كما أن شعبها على الرغم من أنه من قومية غير عربية، لكن الكثير من الشعب العربي ما زال ينظر اليهم على أنهم ورثة السلطنة العثمانية الاسلامية، وبالتالي فإن ثأرهم ممن أضطهد العرب واجب وحق مشروع بسبب صلة الوصل الدينية، حيث لو كان الفعل قد حصل في دولة أوروبية مثلا، فإنه لن يعني شيئا، حتى لو كان المنفذ قالها صراحة بأن القتل قد تم ثأرا لما حصل في حلب.
ثانيا البعد الزماني فقد جاءت الحادثة مباشرة مع دخول قوات النظام والميليشيات المتحالفة معها معاقل الثوار في حلب، بعد أن كان العامل الروسي حاسما في هزيمة قوات المعارضة السورية، وحاسما كذلك في صنع مأساة أهلنا في حلب، وحاسما في بقاء النظام على قيد الحياة، وبالتالي كان الشارع العربي في حالة انتظار قاتلة لاي فعل يمكن أن يعيد له ثقته بنفسه، أو ينتقم له بأي صورة كانت، حتى لو كان هذا الفعل يأتي بأيد غير عربية، وفي أرض غير عربية أيضا، لأن حالة اليأس من الوضع الراهن جعلت المراهنة على الآخرين مشروعة ومنتظره في أذهان الشارع العربي. وعلى الرغم من أن ما قام به الشاب التركي هو تفجير ذاتي لاثارة الانتباه إلى مأساة حلب، هكذا نفترض، وكذلك للاعتراض على سياسة بلاده، التي تحولت فجأة وبطريقة دراماتيكية من مشاركة في الجهد المصبوب ضد النظام، إلى محايدة ومنسقة مع الطرف الروسي المتسبب في المأساة، فإن فعله كان شرارة لإيقاد شعلة الأمل في نفوس المؤيدين له كما هم يظنون. يقول الشاعر طاغور، أنا هذا البخور الذي لا يضوّع عطره ما لم يُحرق، أنا هذا القنديل الذي لا يشع ضوؤه ما لم يُشعل.
إن أي شخص يوجد في وسط فيه حالة غضب غير محدودة، واضطهاد شامل لفترة طويلة، ستكون لديه تغيرات نفسية حادة تقوده إلى رفض حالة الانضباط، والتعاطف حتى مع الأشياء والأفعال غير المنطقية، ويجنح إلى حالة الإحباط التي تقوده إلى تنفيذ أو تمجيد أو تشجيع عمليات عليها علامات استفهام ولا يقرها لا الدين ولا المجتمع. فحالة الاحتجاج الداخلي على وضع سياسي – اجتماعي لا يستطيع أن يقدم شيئا سوى تدمير النفوس، تدفع الشباب للبحث عن حالة انعتاق، بالتضحية بالنفس التي يحسبونها إنقاذا لانفسهم. هنا يأتي التعاطف مع قاتل السفير الروسي، نتيجة وضع لا تحتمله الطبقات الدنيا في المجتمع من جانب، وعدم قدرة الدوائر العليا مواصلة الحكم، فتوفرت فكرة القتل الثأري التي يعتقد المتعاطف معها بأنها تعد بمستقبل مشرق. صحيح أن الثأر بهذه الطريقة لا يحمل أي أفكار أو حلول جديدة، خاصة أن المقتول ليس صاحب قرار في المأساة الحلبية، وهي مجرد اجترار لأفكار قديمة وسلوكيات يمارسونها ضدنا، لكن سبب القبول والتقبل لها متآت من عدم وجود عامل ذاتي، رمز شخصي أو حزب سياسي، يقود عملية الثأر بشكل منظم، ويجعلها قانونية وليست ثأرية عشائرية.
هنا يصبح الوضع الحالي في الأقطار العربية، أحد الأسباب الرئيسية للرغبة في الانتقام والثأر الأعمى والعنف اللامحدود، كما أنه قد يكون سببا في وصول الفكر المتطرف إلى السلطة، أو أن ينتظم في تنظيمات وتشكيلات مسلحة، كما حصل في ألمانيا، عندما وصل هتلر إلى الحكم بأصوات الناس في ثلاثينيات القرن العشرين، بسبب حالة الفقر والضياع. فلقد فشل الوطن العربي في إقامة دولة المواطنة، وسط غياب الآليات والمؤسسات الدستورية المستقلة عن سطوة الداخل وإملاءات الخارج، كما أن فكرة القانون وأهميته كأساس لكل تركيبة اجتماعية، غائبة عن مفهوم الإنسان العربي لعلاقته بدولته والجماعة والمجتمع الدولي. حتى الدستور كعقد اجتماعي بين مجموعة بشرية ما زال الوطن العربي لم يصل إلى أهميته، والذي يحرك الانسان العربي اليوم هو الانتماء المذهبي أو الديني.
كما تحكمت السلطات بوعي الإنسان وبروحه وإرادته، فاكتسب طابعا خفيا ولا عقلانيا. من هنا انتشرت في السنوات الاخيرة الأفكار اللاعقلانية والتبريرات المخادعة. ولأن الوضع الحالي في أقطارنا العربية والشرق الاوسط عموما بات يفتقر إلى العدالة، وأن العنف أصبح هو العدالة، فإن عدالة المضطهدين اليوم صارت هي العنف. هنا يبرز دور الشخصيات المعنوية في المجتمع العربي، ونعني بها الشخصيات الدينية والثقافية والوجاهية، التي يجب عليها أن تضع النموذج الأخلاقي المثالي للروح الإنسانية، لتختار الوئام والانسجام بدلا من الصدام والخصام، لكن هذه الشخصيات للأسف باتت هي الاخرى جزءا من ماكنة صاحب القرار في عالمنا العربي ففقدت هذا الدور. ولأن الفكرة الاحتجاجية واسعة في الاوساط الاجتماعية العربية، وبما أن الحركات الاحتجاجية الشعبية لا تملك طريقة تعبير تحليلية علمية، ولعدم وجود زعامات عسكرية أو سياسية قادرة للتعبير عن أفكار وتطلعات هذه الاحتجاجات، فإننا اليوم أصبحنا في دائرة خطر الفوضى، خاصة أن هنالك ورشات تفكير أنشأتها الدول الكبرى، تركز عملها على بلورة آليات ووسائل آليات للتأثير النفسي، انحصر اهتمامها في سبل تحريض الناس على التشكيك في تاريخ بلداننا، والسخرية من مثلنا وقيمنا العليا، ما ولد قناعة بأن لا أمل في الأفق يمكن التعويل عليه في عملية الإنقاذ، خصوصا أن هذه الورش نجحت في إحداث خرق كبير في التأثير على شرائح معينة من المجتمع.
إن صراخ الشاب التركي مولود الطنطاش المقبل على الموت بأصرار غريب، لا تنسوا حلب لا تنسوا سوريا، طالما إخواننا ليسوا آمنين فلن تنعموا بالسلامة، كلها كلمات جعلت من صور مدينة حلب ومأساتها مقذوفات تمزق الاحشاء، وتصرخ في الوجوه الصامته فتشعرها بالعار المتسربلة فيه.
باحث سياسي عراقي