مدينة تطفو على جثث وبشر يتنفسون الموت
د. مثنى عبدالله
Feb 27, 2018
لقد نسي العالم مدينة اسمها الموصل، ولم يعد أحد يذكرها بعد الآن. لقد كانت مادة إعلامية دسمة على مدى ثلاثة أعوام، وباتت اليوم مجرد أنقاض لا تثير أي فضول. قد تثير الشفقة لكن الشفقة وحدها لا تثير الإعلام. ومن باب النفاق وتزوير الحقائق وتمجيد هذه الجهة وتحقير تلك، أطلت عليها بعض القنوات الفضائية لتنقل صورة مصطنعة تقول فيها إن الموصل تحتفل بعيد الحب، وأن الأطفال يلهون في مدينة ألعاب كان كل ما فيها مُدمر. لكن لا أحد يكشف حقيقة كي أصبحت حدائق البيوت وأرصفة الشوارع مقابر تحوي آلاف الجثث.
حتى السلطات العراقية والتحالف الدولي اللذان أعلنا النصر على تنظيم «الدولة» فيها منذ قرابة العام، ما زالا حتى اليوم لم يقدما جهدا ولو بسيطا في كشف كل فصول الكارثة الإنسانية في هذه المدينة. فالنصر رصيد يتغنون به لكن المأساة مازال يعانيها كل من يعيش في هذه البقعة الجغرافية. يُعبّر مواطن من أهل المدينة عن المأساة أبلغ تعبير، وهو يقف على أطلال بيته الذي لم يبق منه سوى الأرض. يقول لقد انتصرت الحكومة والتحالف الدولي على تنظيم «الدولة» وصنعا مجدا لهما يتغنيان به، لكن تنظيم «الدولة» والسلطات العراقية والتحالف الدولي، جميعهم انتصروا على الموصل وأهلها، حتى أنها غادرتهم وتركتهم في العراء. فما أصعب الموقف حين يرى الإنسان بأنه بات غريبا في مدينته، ولم تعد هي تلك التي عرفها وعرفته.
لقد تجنبت الولايات المتحدة وحلفاؤها الذين قاتلوا في الموصل، الإعلان عن إجمالي عدد القتلى المدنيين، كي لا تتشوه صورة النصر وتنثلم هيبتهم وجبروتهم، وكي يسوّقوا أكاذيبهم في الحرب النظيفة كما يزعمون. بينما تقول وكالة أنباء أسوشيتد برس أن ما بين تسعة آلاف إلى أحد عشر ألف مدني قتلوا في المدينة. ثلثهم بسبب الغارات الجوية للتحالف الدولي. وهذا يدل على أنه حتى اليوم لا توجد إحصائية حقيقية عن عدد الضحايا، الذين سقطوا أثناء العمليات العسكرية، إضافة إلى ذلك لا توجد أي وثائق رسمية يمكن الركون إليها لمعرفة عدد الجثث التي مازالت تحت الأنقاض حتى الان. فبينما يقول المجلس المحلي للمدينة بأن حجم الانقاض يصل الى ثلاثة ملايين ونصف المليون طن، تقول بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي)، إن حجم الحطام يبلغ أحد عشر مليون طن. ويقينا أن هذا الكم الهائل من الأنقاض لا توجد لدى أي جهة في الموصل إمكانية رفعها وانتشال ما تحتها من جثث. كما أن العديد من الدور والمباني الأهلية والحكومية مازالت مفخخة، أو تحوي مقذوفات غير منفلقة، ما يعوق أي جهد للاقتراب منها وانتشال الضحايا الذين مازالوا تحتها. وقد أعلن الدفاع المدني المحلي أنه أنتشل أكثر من 2500 جثة لغاية الحادي عشر من يناير 2018، بينما تشير التقديرات الى وجود 4000 جثة مازالت تحت أنقاض 90% من الدور والمباني المحطمة. في حين لا تملك الجهات الحكومية المحلية والشعبية، غير إطلاق التحذيرات مما يمكن أن تتسبب به حالة التفسخ والتحلل التي وصلت إليها الجثث. بما يجعل المدنيين الذين نجوا من العلمليات الحربية يواجهون مأزقا آخر، يتمثل بإمكانية أن يكون وضعهم الصحي مهددا بالخطر بسبب انتشار الاوبئة والامراض، حتى أن المجلس البلدي للمحافظة أطلق تحذيرا من تفشي مرض الطاعون، الذي يزيد من احتمالية انتشاره انعدام أبسط الإمكانيات الصحية والخدمية الأساسية الأخرى التي توفر الوقاية للمواطن.
وأمام هذا المشهد البائس والكارثي بكل معنى الكلمة، تقف الحكومة المركزية عاجزة تماما عن تقديم أي شيء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. كان يجب أن يكون خيارها الاول توجيه كل الجهد المدني للوزارات، وكل جهود وإمكانيات البلديات في جميع المحافظات الى مدينة الموصل. والشروع بحملة إعمار كبرى يحدد لها زمن إنجاز معلوم لتخليص المدينة من كل الأنقاض والحطام، ثم الشروع بإعادة كل الخدمات الاساسية للمواطنين، وصرف التعويضات المجزية للمتضررين، كي يهمّوا بترميم دورهم، بالتزامن مع الحملة الحكومية. كما كان لديها خيار إضافي وهو تفعيل نشاطها الدبلوماسي في الامم المتحدة ولدى المنظمات الإنسانية، لتقديم الدعم والمساعدة والمعونة في الاتجاهات التي يصعب على الجهد العراقي تنفيذها، أو لعدم وجود الإمكانية لديه للقيام بذلك. مضافا الى ذلك، الطلب من دول التحالف، التي شاركت في العمليات الحربية في الموصل، أن تتولى إعادة إعمار الخدمات الاساسية في المدينة، خاصة أن هذه القوات لم تتبع أي قاعدة من قواعد الاشتباك المتعارف عليها، في الحروب التي تجري داخل المدن، بل إن كل من قاتل في الموصل كان يمارس الحرب بأقصى حد من العدوانية، بدون إعارة أي اهتمام بالكلف البشرية، وهذا ما نجده اليوم ماثلا في كل متر مربع من أرض الموصل.
إن كل من يزور المدينة يستطيع أن يشم رائحة الموت في كل طرقاتها. فهو يتجول في أحيائها ويقيم في بيوتها، ومازالت الدهشة من كل ما حصل مرسومة على وجوه الناس فيها. أي ثمن هذا الذي دفعوه وهم ليسوا طرفا في ما حصل؟ وأي كلفة باهظة تواجههم وما زالت حتى اليوم غير معروفة لديهم؟ فما زال الكثير من الناس يقضون يومهم بحثا بالمعاول والأيدي بين الانقاض عن طفل أو شيخ، قضوا نحبهم منذ شهور ومازالوا تحت الانقاض، بل هناك المئات من الاشلاء التي وجدت لكن ليس بمقدور أحد التأكد من هويتهم، أما لانها باتت مشوهة تماما، أو أنها مجرد أجزاء لبقايا جسد إنسان لا يمكن لذويه التعرف عليه. كما لازالت هنالك الكثير من المقابر الجماعية التي تضم الكثيرين والمجهولي الهوية. وقد صرحت مجموعة من الشباب لكاتب هذا المقال بأنهم تولوا إكرام الكثير من الموتى بالدفن، والذين كانوا يجدونهم على قارعة الطرقات بعد قصف التحالف الدولي للاحياء والاسواق، ولخطورة التنقل داخل المدينة فقد كانوا يدفنون كل جثة في المكان نفسه التي سقطت فيه.
يقينا أن أهالي الموصل لم يعرفوا أبدا طعم النصر الذي أعلنته الحكومة والتحالف الدولي، ولن تداوي جراحهم تلك الاهازيج التي عرضتها القنوات الفضائية. إن كل واحد منهم باتت لديه كارثة شخصية، وفي العادة يغلب الهم الشخصي على كل شيء آخر. فالجميع من سكان هذه المدينة يبحثون اليوم عن المساءلة العادلة لما تعرضوا له. فهم لم يكونوا أبدا طرفا في كل الذي حصل، لكنهم هم من دفعوا الثمن الفادح. لقد تخلت عنهم السلطات الحكومية المسؤولة عن أمنهم وحمايتهم شرعيا ودستوريا، وهربت من الساحة وتركتهم يواجهون مصيرهم وحيدين. واليوم تعود اليهم بدون أن تتيح لهم مساءلة من صنع الكارثة التي هم فيها. أيوجد ظلم أفدح من هذا الظلم؟
لقد تعودنا أن يهّب العالم دولا وزعماء ومؤسسات لتقديم العون المادي والمعنوي الى المدن التي تتعرض لكوارث طبيعية كالزلازل والفيضانات، ألا تستحق الموصل وهي إحدى الحواضر العربية أن يلتفت اليها أحد؟
باحث سياسي عراقي