فن العمالة أو عمالة الفن في العراقهيفاء زنكنةApr 03, 2018
نشر موقع جمعية التشكيليين العراقيين، خبرا عن زيارة وفد من الجمعية لرئيس الجمهورية فؤاد معصوم، يوم 28 آذار / مارس. ضم الوفد نائب رئيس الجمعية حسن ابراهيم وأمين السر قاسم حمزة فرهود وسعد الربيعي و محمد شوقي.
كان من الممكن ان يمر الخبر، كما غيره، دون ان يلاحظه أحد، لولا نشره على صفحات التواصل الاجتماعي، واثارته تعليقات تراوح ما بين الاتهام بالنفاق والعمالة للمحتل والانحطاط الفني. فما الذي فعله الوفد بالضبط ليثير هذه الضجة؟ يشير بيان الزيارة إلى ان أعضاء الوفد، استعرضوا، خلال اللقاء، مشاريع الجمعية والمشاكل والمعاناة التي تواجه الفنانين ومتطلبات تسهيل مشاركة الفنانين المغتربين في معارض الجمعية. فعبر رئيس الجمهورية « عن الاستعداد لدعم الفنانين… ومفاتحة الجهات الرسمية ذات الصلة». ثم قدم الوفد لوحة تشكيلية هدية له « تعبيراً عن تقدير الفنانين لمواقفه الداعمة للثقافة ومبدعيها».
هناك، طبعا، هلامية سياسية تحيط بتصريح رئيس الجمهورية حول دعمه للفنانين كما تحيط برد الوفد المثير للاستغراب حول طبيعة ونوعية « مواقفه الداعمة للثقافة ومبدعيها»، وتخويل اعضاء الوفد، انفسهم، النطق باسم المثقفين.
الا ان معظم التعليقات على الفيسبوك، لا تتطرق إلى مصداقية التصريحات أو جوفائيتها بل إلى سبب آخر، وهو التساؤل عن دافع توجه وفد يمثل الفنانين العراقيين لزيارة سياسي، هو وجه من الوجوه المعروفة بتعاونها التاريخي مع المحتل، وتقديم هدية له، بتوقيت يستحق الادانة لا التكريم، أي بمناسبة مرور 15 عاما على الاحتلال، والشعب يعيش ما سببه الاحتلال، من خراب عمراني وبشري، باعتراف شعوب دول الاحتلال نفسها ؟ لا يجد قارئ التهم المتبادلة، بين فنانين اعضاء بالجمعية، أجوبة مقنعة مما يقوده إلى تساؤلات اضافية، على غرار: لم التعليقات الجارحة، وشخصنة المواقف، وتوجيه الاتهامات المعاكسة بالداعشية، ودعم الإرهاب باسم المقاومة… هل هذه هي المرة الاولى التي يزور فيها الفنانون مسؤولين حكوميين، أو يساهمون بمعارض تقام في سفارات دول، لعبت دورا باحتلال العراق وتدميره؟ ماذا عن المعرض الذي إقامته السفارة البريطانية، ببغداد، يوم 4 ـ 3 ـ 2018 « لنخبة من التشكيليات العراقيات وبالتعاون مع جمعية التشكيليين العراقيين وقد حضر المعرض مجموعة من الشخصيات وفِي مقدمتهم السفير البريطاني في بغداد والسيد فلاح العاني مدير العلاقات الثقافية ـ في وزارة الثقافة، والسيد محمد التميمي مدير عام دائرة المنظمات غير الحكومية والفنان قاسم السبتي رئيس جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين»؟ أليس هناك ما يثير المرارة في اقامة المعرض بمناسبة الاحتفال بيوم المرأة، وكأن المرأة العراقية تعيش الفردوس الارضي منذ « تحريرها» من قبل القوات البريطانية؟
ولكن، ما الذي يتوجب على الفنان، والمثقف عموما عمله، وهو يعيش تحت الاحتلال أو حكوماته بالنيابة؟ هل يبين رأيه صراحة فيعرض حياته وعائلته للخطر، أو يصمت، أو يماشي القوى الموجودة لحين انقضاء المحنة؟ هذه الاسئلة لا تقتصر على الفنان العراقي بل واجهها، عام 1940، جيل كامل من الفنانين والمثقفين الفرنسيين، الذين كانوا حتى ذلك الحين، يفتخرون بقيادة عاصمة العالم الثقافية، حين وجدوا انفسهم، بعد توقيع اتفاقية « سلام» مهينة، يعيشون تحت الاحتلال النازي وحكومة فرنسية متعاونة مع الاحتلال.
كان الوضع معقدا. اختار الفنانون السورياليون مغادرة فرنسا هربا من التصفية الجسدية فاتهمهم المتعاونون مع الاحتلال بما هو أكثر من الجبن. اتهموهم بان فنونهم وكتاباتهم « المنحلة» مهدت الارضية لاحتلال فرنسا! كان هذا تبريرهم « الاخلاقي» لخيانة بلدهم أو التعاون، بدرجات مختلفة، مع المحتل، لتقويض الثقافة الفرنسية من الداخل، خاصة وان النازيين، كان يهدفون إلى محاربة الثقافة بنفس القوة المستخدمة لتحقيق الانتصار العسكري.
يميز فريدريك سبوتس في كتابه « السلام المخجل: كيف نجح الفنانون والمثقفون الفرنسيون في البقاء تحت الاحتلال النازي»، بين العمالة السلبية والعمالة النشطة. فتحت « العمالة السلبية» يدرج سلسلة التنازلات التي يبديها «المجتمع الفني» للمحتل ووكلائه، المتراوحة بين الاستمرار في النشر، وأقامة المعارض، أو المشاركة في المسرحيات إلى القبول بالمنح والدعم المادي. أما « العمالة النشطة» فمعناها ان يتصرف المثقف كوكيل للدعاية الألمانية.
وحسب سبوتس « لم يكن هناك نقص في المتطوعين على جميع مستويات المجتمع الباريسي». من بينهم من كان يحلم بحل الماني للوضع السياسي المتدهور بفرنسا ما قبل الاحتلال. من بين أولئك الذين تم تعظيمهم في تلك الحقبة، كتابا وفنانين، قبلوا بشكل متكرر، دعوات كارل هاينز بريمر، نائب القنصل ومدير المعهد الالماني بباريس، إلى حفلات الاستقبال الفخمة في المعهد الألماني. وكان من أهم الأسماء النحات شارل ديسبياو، والشاعر والروائي أبيل بونار، وعازف البيانو ألفريد كورتوت، والكاهن جان مايول دي لوبيه.
ان وضع الفنان والمثقف العراقي، على تعقيداته، ليس فريدا من نوعه، وان التاريخ، رغم التطورات العلمية المذهلة، وتغير هيكلة الجيوش وتحديث اساليب الحرب والهيمنة، لا يزال يكرر نفسه من ناحية تفاعلات السلوك الانساني. حيث تقودنا قراءة تفاصيل عن حياة الشعوب تحت الاحتلال إلى اكتشاف التماثلات إلى حد التطابق، احيانا. فموقف المثقف الفرنسي الحالم بالحل الالماني عبر الاحتلال مماثل لوهم مثقفين عراقيين بـ « التغيير» أو « التحرير « الامريكي.
واذا كان الكاهن الفرنسي لوبيه معروفا بتراتيله الدينية للغزاة وهم يؤدون التحية النازية « هايل هتلر»، فان أكبر وليمة حضرها قائد الاحتلال بول بريمر اقامها له رجل دين عراقي. وبينما كان دخان حرق المكتبات والمسارح والجامعات لايزال يغطي بغداد، وصدى قاذفات « الصدمة والترويع» يرعب الاطفال، وفي لحظة تماثل موسيقى الامبراطور نيرون وهو يراقب حرق روما 68 عاما قبل الميلاد، توجه اعضاء الفرقة السمفونية العراقية، منتصف كانون الأول/ديسمبر2003، إلى واشنطن، برعاية وزارة خارجية دولة الاحتلال، لاقامة حفل حضره وصفق له مجرم الحرب جورج بوش وزوجته، ووزير الخارجية كولن باول، وعددا آخر من المسؤولين الامريكيين، بحضور عضو مجلس الحكم عدنان الباججي، الذي يهوى الموسيقى الكلاسيكية ويعتبرها ضرورية لحياته، ولا يستطيع الاستغناء عنها، كما يذكر بمذكراته « في عين الاعصار». ما اود التأكيد عليه هنا، ان الامثلة المذكورة اعلاه، مثيرة للأسى، أكثر من غيرها، لأنها تمت بشكل تطوعي، ولم يخضع القائمون بها لأي ضغط كان، الا انها تبقى افعالا استثنائية، لا تشمل كل الفنانين أو المثقفين، فهناك من يخاطر بحياته لقول الحقيقة ومواصلة العمل بلا مساومة أو استخذاء، لأنه يؤمن بأنه يمتلك ثروة من الكلمات والالوان لا يستطيع الغزاة والطغاة، مهما حاولوا، الاستحواذ عليها.
٭ كاتبة من العراق