العراق: هل استفاق المراهنون على العملية السياسية؟ ... د. مثنى عبدالله<LI class=resizing-negative>
في الثاني عشر من الشهر الجاري جرت الانتخابات البرلمانية في عموم العراق، وهي الممارسة الرابعة التي تجري منذ احتلال هذا البلد في عام 2003.
ولو عدنا إلى المفهوم الحقيقي لها نستطيع القول، وفق علم السياسة، بأنها فعالية رسمية لاختيار شخص أو مجموعة أشخاص من بين آخرين لإشغال منصب أو مقعد في هيكل سلطة من سلطات الدولة، هذا هو الشكل العام لها، لكن المهم هو المضمون وليس المظهر، ففي دول كثيرة تجري الانتخابات بشكلها المظهري، بينما يكون مضمون هذه الفعالية الديمقراطية بعيدا جدا عن الحقيقة، ولن تحقق الهدف المرجو منها، لأن المضمون هو توفير الخيار الحر للمواطنين، في انتخاب من يرونه قادرا على تحقيق مصلحة الشعب والوطن، بعيدا عن الإكراه والضغط والاستفزاز والتلاعب، وبعيدا عن الإقصاء لأسباب حزبية أو طائفية.
واليوم بعد أن وضعت حرب الانتخابات العراقية الرابعة أوزارها، وعادت قوات الجيش والأمن إلى ثكناتها، وفُتحت الشوارع التي تم قطعها، ورُفع حظر التجوال الذي سرى، من حق الجميع أن يسأل، هل ما جرى ويجري في العراق انتخابات حقة؟ أم أنها ممارسة مظهرية مشوهة ليس لها أي صلة بالمعنى الديمقراطي.
كما أن الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يعني وبصورة مبسطة، تطبيق الوصاية الدولية على دولة أو كيان ما، ويجبرهم على تطبيق قرارات صادرة من إرادات أخرى بالقوة.
كذلك ما يجري في العراق هو في هذا السياق تماما، فالناخبون يخضعون لمؤثرات مادية ومعنوية، تجبرهم، إما على العزوف عن المشاركة بسبب قناعتهم بزيف الانتخابات، وبالتالي لا يضعون جهدهم في خدمة الدولة، أو الاتجاه للمشاركة فيها لكن ليس بدافع المصلحة الوطنية العليا، بل لمصالح فئوية وحزبية وطائفية، نتيجة تأثرهم بالماكنة الإعلامية المحرّفة، وبالتالي لن يكون جهدهم بناء في صياغة مستقبل واعد لوطن يضم الجميع.
وهنا سيحدث خرق كبير في شرعية العملية، كما سينتج موالاة ومعارضة كلتاهما تعملان بصورة متعاكسة، تطيح بكل القرارات التي ستتخذها السلطات الثلاث، هذه الأخطاء الكارثية القاتلة سببها الرئيسي مُصادرة حرية الاختيار لدى المواطن العراقي، من قبل مصادر القوة في المجتمع، وهي على نوعين، النوع الأول مصادر القوة الداخلية، المتمثلة بالأحزاب الطائفية التي تمارس سلطتها على الطوائف، فتدغدغ الغرائز وتبعث الخوف من الآخر. وسلطة الميليشيات المطلقة على المناطق التي تسيطر عليها، خاصة بعد إضفاء الشرعية القانونية عليها، ومشاركتها في القتال في محافظات كبرى، ما ثبّت لها شرعية التواجد وبسط النفوذ على قطاعات شعبية واسعة بالقوة، وسلطة القبيلة والعشيرة التي نهضت بعد الاحتلال نتيجة غياب الدولة، ما دفع المواطنين للعودة وبقوة إلى الاستنجاد بهذه التراكيب الاجتماعية طلبا للحماية، ما عزز سلطة الزعيم القبلي وجعله قادرا على سلب حرية الاختيار لدى أفراد القبيلة والعشيرة.
ولو بحثنا عن قانونية جميع هذه السلطات نجدها عارية تماما من أي غطاء قانوني، وبالتالي فإنها تمارس البلطجة على الناخب، وتمارس الترهيب والترغيب بوسائل لاشرعية وحتى لاأخلاقية.
أما النوع الثاني من قوى التأثير على المواطن فهي مصادر القوة الخارجية، فقد غادر العراق خانة القرار الوطني المستقل بعد عام 2003، وباتت قرارات الآخرين هي الفاعلة فيه، فالولايات المتحدة الامريكية التي أنفقت مليارات الدولارات في حرب العراق، وخسرت أرواح الكثير من قواتها، لابد أن يكون استثمارها السياسي في هذا البلد بحجم ما قدمته على الاقل، وبالتالي تحول العراق إلى حليف للسياسة الأمريكية، ينفذ أجندتها ويضع كل موارده السياسية والاقتصادية والعسكرية في خدمتها، يفرض التدخل في تشكيل الطبقة السياسية فيه، وعدم السماح بظهور أي تيار يغرد خارج هذا السياق، من خلال التأثير على الناخبين إعلاميا، أو بتزوير النتائج.
أما إيران الموجودة في البنية السياسية للعملية السياسية، وليست عاملا مؤثرا وحسب، فهل يُعقل أن تترك الخيار للرأي الآخر المضاد لتواجدها وتوجهاتها وسياساتها بالبروز في الانتخابات؟ وهل من السذاجة بمكان ألا تستثمر كل مشاركاتها بالتسليح والتدريب ودماء حرسها الثوري، عندما وقفت إلى جانب السلطة الحالية في موضوع الحرب ضد تنظيم «الدولة»، ومساعدتها في شق صفوف الزعامات الكردية في كركوك على سبيل المثال؟ وهل يُمكن أن يحجم قاسم سليماني زعيم فيلق القدس الايراني عن فرض إرادته وتوجيهاته وإملاءاته في العملية الانتخابية بما يصب في مصلحة إعلاء شأن الموالين، وطمس شأن المعارضين لسياسات إيران في العراق؟.
لذا فالحديث عن حرية الانتخابات ونزاهتها هي محض خيال، ودعاية تستهدف رفع شأن سلطات غير شرعية تحكم بممارسات غير قانونية، كما أنها تحاول إضفاء شيء من الجاذبية على العملية السياسية التي صيغت من قبل الاحتلال، واعطاءها صبغة وطنية لم تستطع خلال خمسة عشر عاما اكتسابها، بحيث تكون صيغة مقبولة لجميع العراقيين، وبهذا يكون الحديث عن إمكانية التغيير والتفاؤل بإحداث قفزة في الوضع العام العراقي نحو الأمام، كلها أمنيات لا تستند إلى وقائع علمية ثابتة، أو إلى ظواهر موجودة على الارض.
أما في موضوع المرشحين للانتخابات، الذين غطت صورهم ساحات وشوارع وأزقة العراق، فهم الطرف الآخر في عملية التزوير التي تمارس على إرادة الناخب العراقي. ففي الوقت الذي عاد فيه اللصوص والفاسدون وناهبو المال العام لترشيح أنفسهم، بعد أن نالوا العفو من القضاء العراقي، بقوانين وقرارات تم تفصيلها على مقاساتهم، أضيف إليهم عدد آخر من المرشحين الذين كان الدستور يقول بعدم مشاركتهم، لأنهم زعماء ميليشيات وجماعات مسلحة، لكنهم فرضوا أنفسهم في هذه الانتخابات بحجة تخليهم عن السلاح، وتحويل المنظمات التي يتزعمونها إلى النشاط المدني كحركات سياسية وليست عسكرية. وهذه كلها أساليب التفافية على القوانين التي صاغوها، فلا الحكومة ولا أي جهة أخرى قادرة على نزع سلاح هذه الميليشيات، لأن سلاحها بات الضمانة الوحيدة لاستمرارية وجودها في المشهد العراقي، والوسيلة الوحيدة في ابتزاز الآخرين وفرض الوصاية عليهم.
واليوم وبعد أن أعلنت السلطات الرسمية عن أن نسبة المشاركة في الانتخابات قد بلغت ما يقارب 30 بالمائة، ثم رفعتها الهيئة العليا للانتخابات إلى 44 بالمائة، في حين تشير جهات مستقلة إلى أن النسبة بلغت ما بين 20 إلى 25 بالمائة، فإن ذلك يشير وبصورة واضحة إلى أن العملية السياسية باتت في أضعف حالاتها، وأن كل محاولات زرق الوطنية في أسسها لم تجد نفعا وتجعلها قوة جاذبة، تستطيع أن تستقطب آمال الجماهير العريضة التي قاطعت المهزلة الرابعة.
وهكذا تعمّق الشرخ ونما البون الشاسع بين العراقيين والسلطة الحاكمة، لكن هذه النتيجة البائسة لا تعني بأي حال من الاحوال بأن الفاسدين والفاشلين، المتسلطين على رقاب شعبنا، سيغادرون مواقعهم إلى غير رجعة ويعترفون بالهزيمة، بل قد تكون الصدمة التي تلقوها في هذه الانتخابات دافعا لهم لإحياء الحرب الطائفية، بغية إجبار الناس على التجحفل خلفهم من جديد.
فهل بعد هذه النتيجة الصادمة من عزوف الغالبية العظمى عن المشاركة في الانتخابات، سنجد بعد الآن أصواتا ما زالت تبحث عن علاج للقضية العراقية بين أنقاض العملية السياسية؟.