قربان آخر على مذبح العملية السياسية في العراقد. مثنى عبداللهJun 12, 2018
قرابين كثيرة نُحرت على مذبح العملية السياسية البغيضة في العراق، منذ عام 2003 حتى اليوم. فالاستقلال والسيادة والكرامة كلها ذُبحت فداء لها كي تبقى واقفة على أقدامها. ومئات الآلاف من الأرواح البريئة أزهقت ورميت الجثث على قارعة الطرقات كي لا تسقط.. ثروات وموارد وممتلكات عامة وخاصة نُهبت وأهدرت من أجل أن يبقى طغاة هذه العملية السياسية في المشهد.
واليوم يُنحر دجلة أيضا وهو أحد شرايين هذا البلد، ومورد مهم لحياة أبنائه حتى بات جثة هامدة. فقد انخفضت مياه النهر إلى النصف تقريبا، بسبب قيام الجانب التركي بتشغيل سد جديد انتهت عمليات بنائه في يناير 2018. وقبلها قامت إيران هي الاخرى بإنشاء سدود وتغيير مجاري بعض الروافد التي كانت تصب في هذا النهر. في حين يعتمد العراق على مياه الأنهار التي تنبع من خارج حدوده بنسبة 70 في المئة، والنسبة المتبقية 30 في المئة على مياه الامطار التي باتت قليلة جدا في السنين الأخيرة.
يُعزي وزير الموارد المائية العراقي سبب الأزمة الجديدة الى قيام الجانب التركي ملء سد إليسو، ويقول إن هنالك اجتماعا (مع المسؤولين الاتراك في نوفمبر المقبل لمراجعة الاتفاق والنظر إليه وفق المعطيات الجديدة). فيما أعلن البرلمان العراقي عقد جلسة طارئة لمناقشة أزمة المياه التي حلت بالعراق، لكنه فشل في عقدها بسبب حضور 50 عضوا فقط من مجموع 328 نائبا. المفارقة في هذا الجانب هو أن الوزير يقول إن وزارته ستراجع الاتفاق مع الجانب التركي، بمعنى أن الاثار الناتجة عن ملء السد المقام في الاراضي التركية لم تكن في حسبان الجانب العراقي، ما يؤشر الى مدى ضحالة الدراسات التي عملها الجانب العراقي بخصوص التأثيرات المستقبلية لمشاريع دول الجوار في الجانب المائي على العراق، بل إن الوزير نفسه عندما سئل عن مدى إمكانية سد الموصل في تعويض النقص الحاصل في مياه النهر، قال إن (خزين سد الموصل أقل مما توقعناه)، أي أن الوزارة المختصة لا تعلم على وجه الدقة ما هو خزينها الاستراتيجي من المياه، وأن ما تقدمه من معلومات مجرد توقعات لا أكثر.
هنا يجب أن نشير الى أن العراق في الشراكة التجارية مع تركيا يحتل المنزلة الثالثة بعد ألمانيا والمملكة المتحدة. كما أن النفط العراقي هو المصدر الأول للطاقة في تركيا. وفي التحليل السياسي، وعلى ضوء هذه الحقائق، كان يجب على الجانب العراقي أن يوظف هذه الارقام في بناء قرارات استراتيجية تصب في مصلحته مع الجانب التركي، وأن يتحسب لأي تهديدات تضر بمصالح شعبه وتهدد السلامة الحياتية لمواطنيه.
فتركيا معنية بتطوير مواردها من خلال برنامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية، لتطوير قطاعات الري والطاقة والزراعة والبنى التحتية المعلن عنه، وكان يفترض بالسلطات العراقية أن تكون هي الاخرى معنية بتطوير موارد البلد المائية، خاصة أن أغلب منابع الأنهار في العراق هي من خارج الحدود. في حين أن كل الحكومات التي تعاقبت بعد عام 2003 وحتى اليوم كان القاسم المشترك بينها، هو إهمال السدود ومشاريع الري، بل حتى لم تتجاوب مع المساعي الدولية في هذا الجانب. على سبيل المثال قدمت الحكومة اليابانية منحة لمشروع ري الجزيرة الجنوبي في الموصل، لكن لم يتجاوب أحد مع هذه البادرة حتى اليوم. وإذا كانت تركيا وإيران لا تقيمان وزنا للمصالح العراقية، فمرده الى أن السلطات العراقية عاجزة تماما عن صنع أوراق ضغط على الاخرين. يضاف إلى ذلك وجود قناعة راسخة لدى دول الجوار بإمكانية شراء صمت الكثير من المسؤولين العراقيين، حين يتم التجاوز على المصالح العراقية. صحيح أن الأنهار المشتركة خاضعة للقوانين الدولية أو التحكيم في حالة رفض طرف ما الاحتكام إلى تلك القوانين، لكن في الوقت نفسه فإن المصالح تُؤخذ بالقوة الناعمة أو الصلبة ولا تُعطى من الاخرين، لأن الدول حين تبحث عن مصالحها لا تسلك سلوك المنظمات الانسانية التي تعطي من دون مقابل.
أزمة المياه الحالية مع الجانب التركي ليست حديثة الولادة، بل هي أزمة مزمنة تكررت عدة مرات، وحتى مع إيران وسوريا، لكن الفرق بين اليوم والامس هو أن العراق كان مُحصّنا في سيادته واستقلاله، ويمتلك قراره الوطني. ومن هذا المنطلق كان قادرا على التعامل بندية مع الآخرين، وفرض هيبته عليهم بما لديه من إمكانات دبلوماسية يستطيع بها الوصول إلى حل يرضيه ويرضي الآخرين، أو بالوسائل العسكرية التي حين يلوح بها تمكنه من أن ينتزع حقوقه انتزاعا.
إن الدول التي تنبع منها مياه الأنهار التي تغذي العراق باتت تسابق الزمن لتنمية مواردها المائية، بسبب ازدياد الطلب عليه بعد تزايد الجفاف والسكان. وهي ظاهرة باتت ذات طابع عالمي وليس محليا، لذلك نرى ارتفاع حدة النزاعات على المياه في بقاع كثيرة من العالم، يرافقها المزيد من مشاريع الخزن والسدود. هذه الحقائق تكاد تكون غائبة تماما عن عقلية الجانب العراقي، الذي بيده القرار في السياسة المائية، ما نتج عن ذلك عدم الشروع في إنشاء مشاريع تضمن استمرارية تدفق المياه، واستثمار ما لديه منها بالطرق الحديثة. فساهمت هذه السياسات بشكل كبير في حالة الجفاف التي يعانيها، ما تسبب في خروج أكثر من مليون دونم من الاراضي الزراعية عن الاستخدام. كما أن عدم وجود سياسة ري محلية واضحة فاقمت مشكلة النقص الحاد في المياه الوارده للاراضي الزراعية، حيث تفاقمت النزاعات المائية بين المحافظات، حتى وصلت الى استخدام القوة والتهديد بالسلاح بين المزارعين، بسبب استيلاء بعض المناطق على الحصص المائية للمناطق الأخرى.
لقد تميزت السياسات المائية لدول الجوار العراقي بعدم مراعاة الحصص القانونية له من المياه، وكلما مرت به ظروف سياسية صعبة تبرز بصورة واضحة عمليات الاستغلال، وفرض الأمر الواقع عليه. بينما القانون الدولي يؤكد على عدم جواز تغيير أو تحويل مجرى الانهر التي تمر الى دول أخرى عبر منشآت مثل السدود، وقد قيدها القانون الدولي بضرورة أخذ موافقة الدول المتشاركة بالانهر. في حين أن الجانبين التركي والايراني، وعلى لسان الكثير من المسؤولين في البلدين، يعتقدان أن المياه الواردة من أراضيهما الى العراق هي موارد سيادية لهما، ومن حقهما التصرف بها لتحقيق مصالح بلديهما، فرئيس الوزراء التركي الأسبق سليمان ديميرل، وفي حفل افتتاح سد أتاتورك قال «إن مياه الفرات ودجلة ومصادر هذه المياه هي موارد تركية، ولا يحق للعراق وسوريا القول بأنهما تشاركانا مواردنا المائية، إنها مسألة سيادة». في حين أمسى عدد الروافد التي تصب في العراق من إيران 4 فقط بعد أن كانت 45 رافدا، وتم تغيير مجرى نهر الكارون تماما كي لا يدخل الاراضي العراقية .
والآن وقد أوقفت الحكومة التركية مؤقتا ملء سد إليسو على نهر دجلة، بناء على طلب العراق، فماذا ستفعل الجهات العراقية بعد أن اتفقت مع الجانب التركي على استئناف ملء السد في الشهر المقبل؟ ما هي البدائل التي لديها لتعويض النقص في المياه في ضوء سياسة مائية فاشلة، يؤكدها وجود خزانات مائية عراقية تصل طاقتها الخزنية إلى 86 مليار متر مكعب في حين المتوفر فيها حاليا فقط 12 مليار؟
باحث سياسي عراقي